يمكن أن ننسب قصة نجاح ميلبورن إلى خطة بلدية رئيسية وأحد مؤيديها الرئيسيين، روب آدامز. حيث طور مفهومًا فريدًا من شأنه أن يجعل منه عنصرا رئيسيا في تحول ميلبورن. دروس هذا التحول تقع في قلب خطاب التخطيط الحضري الحالي. لقد انتهى القرن العشرون تاركا وراءه بنية تحتية...
بقلم: كارلو راتي
بوسطن- ليست ميلبورن أكثر مدن أستراليا تميزًا. إذ لا توجد بها شواطئ سيدني الرملية، أو جاذبية بريسبان القوية التي تستمدها من فيلم "كروكودايل دندي". وتقع ميلبورن على سهل منبسط، ويعبرها نهر متعرج. وهي عبارة عن تكتل حضري تبلغ مساحته حوالي 10000 كيلومتر مربع (3681 ميل مربع)- أي ستة أضعاف مساحة لندن، و12 مرة حجم مدينة نيويورك- وبها مركز حضري مكتظ تحيط به الضواحي المترامية الأطراف.
ومع ذلك، غالبًا ما تتصدر ميلبورن الترتيب الدولي لجودة الحياة. إذ لديها ثقافة شوارع غنية وساحة فنية مزدهرة. كما أن منطقتها التجارية المركزية مكتظة في جميع الأوقات، وكذلك هي الأماكن العامة الجديدة التي كانت سابقا حقولا بُنية، مثل ساحة الاتحاد، ومنطقة "ساوث وارف" على طول نهر "يارا".
ويمكن أن ننسب قصة نجاح ميلبورن إلى خطة بلدية رئيسية وأحد مؤيديها الرئيسيين، روب آدامز. ولد آدامز في زيمبابوي، ودرس الهندسة المعمارية في جامعة "كيب تاون"، حيث طور مفهومًا فريدًا من شأنه أن يجعل منه عنصرا رئيسيا في تحول ميلبورن.
وخلال فترة وجود آدامز في "كيب تاون" في أواخر الستينيات من القرن العشرين، كانت الجامعة تستعد لتوسيع كبير في الهيئة الطلابية وأعضاء هيئة التدريس. وكان النهج المعتاد هو توسيع نطاق الحرم الجامعي من خلال إنشاء مبانٍ جديدة أو توسيع المباني الموجودة. ولكن ربما بدافع القلق بشأن حماية هوية الجامعة، أو ببساطة بسبب القيود الطبوغرافية لموقعها على سفوح جبل تيبل، اختارت الإدارة بدلاً من ذلك حلاً غير مسبوق وهو توسيع جداولها الزمنية بدلاً من مساحتها. وعن طريق إضافة فصول مسائية وتعديل التقويم الأكاديمي، زادت الجامعة من قدرتها دون أن تزيد من مبانيها.
وبعد أن كان شاهدا على هذه العملية وهو طالب في الجامعة، كان آدامز حريصًا على جلب روح إعادة الجدولة إلى البيئة الحضرية. وعندما وصل إلى ميلبورن عام 1983 للعمل في الإدارة البلدية، كانت المدينة تعاني. إذ تحولت المنطقة التجارية وسط المدينة، على وجه الخصوص، إلى مدينة أشباح بسبب عدم اليقين الاقتصادي والهجرة الجماعية.
ولتغيير مسار المدينة، تذكر آدامز مبدأ إعادة الجدولة الذي تعلمه في الجامعة. ففي ذلك الوقت، كانت البنية التحتية للمناطق التجارية وسط مدينة ميلبورن نشطة فقط من الاثنين إلى الجمعة، من حوالي الساعة 9 صباحًا حتى الساعة 5 مساءً. وبدت هذه الفترة المحدودة طبيعية- فقد كانت هذه هي القاعدة بالنسبة للمناطق التجارية في جميع أنحاء العالم، بسبب عقائد التخطيط الحضري الحداثية للأحياء الوظيفية المنفصلة بصرامة. ولكن آدامز تساءل عما إذا كان هذا الإعداد قد استفاد على أفضل وجه من موارد المدينة.
وبتشجيع من آدمز، بعد انهيار سوق العقارات في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، بدأت ميلبورن في تحويل مباني المكاتب الفارغة إلى مساكن جديدة وأعيد تصور المساحات الثقافية- إعادة جدولة المنطقة الراكدة. وعلى مدار بضع سنوات، بدأ وجه المراكز التجارية وسط المدينة يتغير. وعلى نحو متزايد، كانت نشطة على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع. واكتسب هذا التحول اهتمامًا دوليًا في عام 2002 مع إنشاء ساحة الاتحاد، وهي مساحة ضخمة خُصصت للفعاليات العامة، وبُنيت على ساحة سكة حديد قديمة. وحقق هذا المركز الثقافي الذي ينشط على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع نجاحًا ساحقًا.
وقد تبدو مثل هذه التدخلات الفعالة والمقتصِدة غير واضحة- لا تختلف عن ميلبورن نفسها. ولكن دروس هذا التحول تقع في قلب خطاب التخطيط الحضري الحالي. لقد انتهى القرن العشرون تاركا وراءه بنية تحتية حضرية غير فعالة، وفي حالة تذبذب صعودا وهبوطا. فقد عطلت الحياة وألحقت الأذى بالسكان بطرق كبيرة وصغيرة على حد السواء، بما في ذلك الاختناقات المرورية، والضغط في شبكات الكهرباء، واكتظاظ المستشفيات. ولم يعد بإمكاننا تحمل إهدار الموارد، بالنظر إلى معركتنا الوجودية ضد تغير المناخ. إن إعادة جدولة مدننا وزيادة كثافتها ومزيج وظائفها من أقوى الطرق لجعلها أكثر استدامة.
إن إعادة جدولة 80 هكتارًا من الأسفلت بعيدًا عن السيارات عن طريق توسيع ممرات المشاة، وإنشاء مساحات مفتوحة جديدة لها أيضًا فائدة اجتماعية رئيسية، وهي تتمثل في زيادة عدد التفاعلات بين الناس. فعندما يُستخدم كل متر مربع متاح بكفاءة على مدار اليوم، يصبح نقطة جذب للتواصل البشري المستمر. وفي ميلبورن، حتى الأزقة الضيقة ذات الإضاءة الخافتة وراء ساحة الاتحاد تَعج بالنوادي والمطاعم العصرية، حيث يمكنها الاعتماد على التدفق المستمر للزوار.
واليوم، بفضل أدوات القرن الحادي والعشرين، يمكن لورثة "مدرسة ميلبورن" للتخطيط الحضري أن ينقلوا عملية إعادة الجدولة إلى مستويات جديدة، مما يجعل التغييرات جذرية مثل إلغاء ساعة الذروة نفسها. فعلى أي حال، الازدحام المروري هو فقط النتيجة المتوقعة لافتراض يقول أن جميع السكان يجب أن يتبعوا نفس الجدول اليومي. وإذا أعاد مديرو المدن التفكير في هذه الفرضية، يمكنهم طمس واحدة من أكثر السمات المكروهة للمدن المعاصرة.
ولنزج بساعة الذروة في طي النسيان، سنحتاج إلى بناء منصات رقمية عامة قادرة على تحديد السلوك الفاضل ومكافأته- مثل مخططات تسعير الذروة للطرق وشبكات الكهرباء. ويمكن أن تساعد مرونة العمل عن بُعد، التي نمت بصورة كبيرة في أعقاب جائحة كوفيد-19، في تسريع الانتقال إلى مدينة تمت إعادة جدولتها حقًا، حيث لا يتعين على السلوكيات الفردية اتباع نفس الأسلوب. إذ يمكن لبعض الموظفين الذهاب إلى المكتب في الساعة 9 صباحًا؛ في حين يمكن للآخرين الانضمام إلى اجتماع صباحي عبر مكالمة فيديو والوصول في الساعة 11 صباحًا.
وإذا تحققت هذه الرؤية، فلن تصبح مدننا أكثر استدامة فحسب، بل ستصبح أكثر اجتماعية وأقل انغلاقا. وسيرجع الفضل في ذلك إلى النموذج القوي الذي أنشأته ميلبورن وأشرف عليه آدامز لعدة عقود.
اضف تعليق