q
أصبحت الأنظمة القانونية عبارة عن عناصر موجودة في قائمة عالمية من الاختيارات يستطيع أصحاب الأصول من خلالها اختيار القوانين التي يريدون ان يخضعوا لها وهم لا يحتاجون لجواز سفر أو تأشيرة فكل الذي يحتاجوا اليه هو شركة صورية. ان اكتساب هوية قانونية جديدة بهذه الطريقة يعني...
بقلم: كاتارينا بيستور

نيويورك- لقد أثارت وثائق باندورا وهي عبارة عن تحقيق جديد بقيادة الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين مشاعر الغضب في أرجاء العالم فلقد تم اكتشاف العديد من السياسيين وأصحاب الأعمال ونجوم الرياضة والثقافة متلبسين بإخفاء ثرواتهم والكذب بشأنها ولكن ما احتمالية ان يُحاسب المحامين والمحاسبين الذين ساعدوهم؟

لا يوجد شيء جديد في الممارسات التي اكتشفها تحقيق الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين. صحيح ان الحجم الهائل والتعقيد والقوة القانونية التي تم استخدامها للسماح لأغنى الأغنياء وأصحاب النفوذ بالتلاعب بالقانون قد تكون ذات أهمية إخبارية ولكن الكشف الصادم الوحيد بحق أن الأمر احتاج الى أكثر من 600 صحفي من حول العالم لفضح تلك الممارسات مخاطرين في كثير من الأحيان بسلامتهم ومستقبلهم المهني. ان صعوبة تلك المهمة هي دليل على تمكن المحامين والمشرّعين والمحاكم من تطويع القانون لمصلحة النخب.

لقد استخدم الأثرياء وأصحاب النفوذ اليوم استراتيجيات الترميز القانونية التي تعود الى قرون خلت من الزمان من أجل إخفاء ثرواتهم ففي سنة 1535 أتخذ الملك هنري الثامن ملك إنجلترا إجراءات صارمة ضد أداة قانونية عُرفت باسم "الاستخدام" وذلك لإنها كانت تهدد بتقويض علاقات الملكية (الإقطاعية) القائمة وتستخدم كوسيلة للتهرب من الضرائب ولكن بفضل المراجحة القانونية الذكية، سرعان ما تم استبدالها بأداة أكثر قوة وهي "الاستئمان".

ما يزال الاستئمان والذي تم ترميزه قانونيا من قبل المحامين وتعترف به محاكم الإنصاف واحدا من أكثر الأدوات القانونية التي تم اختراعها ابداعا من اجل عمل الثروة الخاصة والمحافظة عليها وفي غابر الأيام سمح الاستئمان للأغنياء بالالتفاف على قواعد الميراث واليوم هو الوسيلة المفضلة للتهرب الضريبي ولهيكلة الأصول المالية بما في ذلك الأوراق المالية المدعومة بالأصول ومشتقاتها.

ان وجود الاستئمان من الناحية الوظيفية يغيّر الحقوق والالتزامات تجاه أحد الأصول بدون مراعاة القواعد الرسمية لقانون الملكية وهكذا يخلق الاستئمان حق ملكية الظل. يتطلب تأسيس الاستئمان وجود أحد الأصول –مثل الأرض أو الأسهم أو السندات- وثلاث شخصيات: مالك (مستوطن) ومدير (وصي) ومستفيد. ينقل المالك حق الملكية القانوني (وان لم يكن بالضرورة الحيازة الفعلية) لأحد الأصول الى الوصي والذي يعد بإدارتها نيابة عن المستفيد وفقا لتعليمات المالك.

لا يحتاج أي شخص آخر لإن يعرف عن هذا الترتيب وذلك نظرا لعدم وجود أي متطلبات لتسجيل الملكية أو الكشف عن هويات الأطراف. ان نقص الشفافية هذا يجعل الاستئمان الوسيلة الأفضل للاختباء من الدائنين والسلطات الضريبية ونظرا لإن الملكية القانونية والفوائد الاقتصادية مقسمة بين ثلاث شخصيات، فلا أحد يتقيد عن طيب خاطر بالالتزامات التي تأتي مع الملكية.

لقد أصبح الاستئمان أداة قانونية مفضلة للنخب العالمية ليس من خلال اليد الخفية للسوق ولكن من خلال التخطيط القانوني المقصود فلقد تمكن المحامون من تجاوز الحدود القانونية القائمة والمحاكم أقرت بابتكاراتهم في هذا الخصوص وطبقتها، ثم قام المشرّعون (من المفترض ان العديد منهم يدين بالفضل لمانحين أثرياء) بتقنين تلك الممارسات وتحويلها لتشريعات قانونية ومع إزالة القيود السابقة وسّع قانون الاستئمان نطاق صلاحياته.

ان هذه التغييرات القانونية تعني أنه يمكن وضع مجموعة من الأصول أكبر من أي وقت مضى في صندوق استئماني وان دور أمين الصندوق يمكن تفويضه لشخصيات قانونية بدلا من أفراد شرفاء مثل القضاة وبالإضافة الى ذلك تم تقليص الواجبات الائتمانية وأصبحت مسؤولية الأمناء محدودة كما أصبحت فترة الاستئمان مرنة بشكل متزايد علما ان هذه التعديلات القانونية مجتمعة جعلت الاستئمان مناسبا للتمويل العالمي.

لقد تم تشجيع البلدان التي كانت تفتقر لهذه الأداة على تقليدها حيث تم وضع هذا الهدف بعين الاعتبار عندما تم تبني معاهدة دولية وهي معاهدة لاهاي الائتمانية لسنة 1985 وفي البلدان التي قاوم فيها المشرّعون الضغوطات للموافقة على صناديق الاستئمان، قام المحامون بابتكار أدوات مشابهة من القوانين التي تحكم المؤسسات أو الاتحادات أو الشركات حيث كانوا يراهنون (وفي الغالب بنجاح) على أن المحاكم سوف تعتمد ابتكاراتهم.

بينما بعض الولايات القضائية قد بذلت أقصى الجهود من اجل الاستضافة القانونية لعمليات انشاء الثروة الخاصة ، حاولت ولايات قضائية أخرى التصدي للمراجحة الضريبية والقانونية ولكن القيود القانونية تعمل فقط لو كانت السلطة التشريعية تتحكم بأي قانون يتم ممارسته ضمن ولايتها القضائية وفي عصر العولمة فإن معظم السلطات التشريعية قد تم تجريدها فعليا من مثل هذه السيطرة وذلك نظرا لإن القانون قد أصبح محمولا فلو كان هناك بلد لا يتمتع بالقانون "المناسب" فإن بلد آخر قد يكون لديه مثل هذا القانون وطالما ان مكان العمل التجاري يقر بالقانون الأجنبي ويطبقه فإن الأوراق القانونية والمحاسبية يمكن ارسالها الى الولايات القضائية الأكثر سهولة ويتم تنفيذ العمل.

وهكذا أصبحت الأنظمة القانونية عبارة عن عناصر موجودة في قائمة عالمية من الاختيارات يستطيع أصحاب الأصول من خلالها اختيار القوانين التي يريدون ان يخضعوا لها وهم لا يحتاجون لجواز سفر أو تأشيرة فكل الذي يحتاجوا اليه هو شركة صورية. ان اكتساب هوية قانونية جديدة بهذه الطريقة يعني ان قلة من الناس والذين يتمتعون بامتيازات بإمكانهم ان يقرروا مقدار المبلغ الذي سوف يدفعوه على شكل ضرائب وما هي القواعد والاحكام التي سوف يخضعوا لها ولو لم يكن بالإمكان التغلب على العقبات القانونية بسهولة فإن المحامين من كبرى شركات المحاماة العالمية سوف يقومون بصياغة تشريعات تجعل بلد ما يتقيد "بأفضل الممارسات" المتعلقة بالتمويل العالمي علما إن الملاذات الضريبية والاستئمانية مثل ساوث داكوتا وجزر فيرجن البريطانية تعتبر مثالا يحتذى به في هذا الخصوص.

يتحمل الأقل قدرة على الحركة وأولئك الذين لا يتمتعون بثراء كاف تكاليف هذه الممارسات. لكن تحويل القانون إلى منجم ذهب للأثرياء وأصحاب النفوذ يتسبب في ضرر يتجاوز عدم المساواة الذي ينتج عنه فإمكانية تقويض شرعية القانون تعني ان أساس الحكم الديمقراطي برمته يتعرض للتهديد.

كلما زاد إصرار النخب الثرية ومحاميهم على ان كل شيء يعملونه هو قانوني، كلما تراجعت ثقة الناس بالقانون واليوم فإن النخب العالمية قد تكون قادرة على الاستمرار في استخلاص الثروة الخاصة من القانون ولكن لا يمكن استخلاص أي مورد إلى الأبد علما أن عندما يتم فقدان الثقة بالقانون سيكون من الصعب استعادتها وسيكون الأثرياء قد فقدوا بذلك أحد أثمن الأصول الموجودة لديهم أث على الأطلاق.

* كاتارينا بيستور، أستاذ القانون المقارن في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا، مؤلفة كتاب "قانون رأس المال: كيف يخلق القانون الثروة وعدم المساواة
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق