تصر إدارة بايدن على أنها لن تكرر أياً من أخطاء السياسة الخارجية التي ارتكبتها الادارات السابقة، وأنها تعلمت، فيما يتعلق بالعراق، الدرس القائل بأن الانسحاب أحادي الجانب خطأ. في الواقع، كان جو بايدن نفسه نائب الرئيس باراك أوباما هو الذي أشرف على الانسحاب الكارثي لعام 2011...
بقلم: دانييل بليتكا، كينيث إم بولاك، نقلا عن Foreign Policy-واشنطن.
ترجمة: د. حسين أحمد السرحان/مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

لقد انتهت حقبة حرب العراق الأمريكية وقد تشرق حقبة جديدة، إذا لم تدير الولايات المتحدة ظهرها مرة أخرى.

في 17 حزيران الجاري، وبعد ما يقرب من عقد من المحاولات، صوت مجلس النواب الاميركي لإلغاء ترخيص عام 2002 لاستخدام القوة العسكرية Authorization for Use of Military Force (AUMF)، والذي سمح بغزو العراق واسقاط نظام صدام حسين، وعمليات اخرى متعددة في السنوات اللاحقة لتحقيق الاستقرار في البلاد. بالنسبة للبعض، فإن هذا التصويت بالإلغاء -الذي لا يزال بحاجة الى تصويت من مجلس الشيوخ- سيفي بالرغبة التي طال انتظارها لتقليص الالتزامات تجاه العراق الذي يرون أنه قضية خاسرة. وبالنسبة لآخرين، يرون ان هذا سيكون المسمار الأخير في نعش جهد محدود لتحويل العراق الى ديمقراطية فعالة ومزدهرة.

ربما هذه معتقدات شائعة، الا انها لا تعكس الواقع على الارض. إن إلغاء قانون AUMF ليس أكثر من مجرد خطوة رمزية -لكن على الأمريكيين أن يحرصوا على عدم إساءة تفسير معناها عمليا، فالعراق لم يضيع، على الأقل ليس بعد.

شجاعة المحتجين المتظاهرين في العراق الساعين للإصلاح السياسي والاقتصادي ومحاولات عدد من القادة ذوي النوايا الحسنة، لم تصحح مسار العراق، فالفساد منتشر للغاية، والحلفاء التقليديين للعراق متقلبون للغاية. وكالمعتاد، أتباع إيران أقوياء للغاية، لدرجة أن حتى أفضل القادة والقضاة والجنود وضباط الشرطة في العراق يخشون الانتقام الشخصي نتيجة قيامهم بوظائفهم. الفاعلون الخارجيون -ومعظمهم في إيران وتركيا- عازمون على ضمان أن يسير العراقيون دائمًا على حبل مشدود، خائفين من أن تكون الزلة الأخيرة لهم، ويشككون في وجود شبكات الأمان الموعودة لهم. عليه فان الطرف الوحيد الذي قد يغير العراق بشكل معقول هو الولايات المتحدة، لكن يبدو أن كلاً من تكاليف COVID-19، ورسوخ سردية تكرر حالة فيتنام في العراق، من المرجح أن تستنزف أي شهية لدى إدارة بايدن لتعزيز اسس العراق.

لحسن الحظ، يمكن للولايات المتحدة أن تعتمد على أن يتحمل العراقيون معظم الجهود بأنفسهم. وفي الواقع، فإن قانون الإدارة الأمريكية -والذي في طريقه للإلغاء- لم يعد ذا صلة بالعمل المطلوب لواشنطن في العراق. ومن المرجح أن تندرج أي عمليات عسكرية أمريكية ضرورية في العراق في إطار قانون القيادة العسكرية الأمريكية لعام 2001، الذي يحكم تنظيم القاعدة، تنظيم "الدولة الإسلامية-داعش"، والجماعات ذات الصلة او المشابهة.

بدلاً من ذلك، هناك طريق آخر للمضي قدمًا –يمتاز بالصبر والثبات - يمكن أن يعني عراقًا أفضل للعراقيين وللولايات المتحدة في المستقبل. سيكون عراقًا يمكن أن يفيد هدف الحزبين على المدى البعيد المتمثل في إنهاء الحروب الأمريكية الدائمة في الشرق الأوسط وتحقيق الاستقرار أو حتى تحييد أكثر القوى الحتمية في المنطقة، كما هو هدف الغاء AUMF.

من جانبها، تصر إدارة بايدن على أنها لن تكرر أياً من أخطاء السياسة الخارجية التي ارتكبتها الادارات السابقة، وأنها تعلمت، فيما يتعلق بالعراق، الدرس القائل بأن الانسحاب أحادي الجانب خطأ. في الواقع، كان جو بايدن نفسه نائب الرئيس باراك أوباما هو الذي أشرف على الانسحاب الكارثي لعام 2011 الذي وضع الأساس لصعود تنظيم "الدولة الإسلامية -داعش". وعلى أقل تقدير، يبدو واضحًا أن إدارة بايدن نفسها لا تأمل في إعادة الاجراء. نتيجة لذلك، اتخذ فريق الأمن القومي لبايدن بالفعل بعض الخطوات المهمة للتعاون الوثيق مع بغداد: أول زعيم في الشرق الأوسط وصفه بايدن كرئيس هو رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، وقد عقدت الإدارة جولة من الحوار الاستراتيجي الاميركي.

هذه خطوات جيدة، لكنها مجرد بداية. ويعود الفوز باللعبة على المدى البعيد في العراق الى عدد من الاقتراحات. وهي بناء النفوذ الأمريكي بمرور الوقت وتعزيزه. وهذا يعني إضعاف إيران في العراق قدر الإمكان لزيادة تكلفة التدخل الإيراني، مما يجعلها في موقف صعب في نهاية المطاف في مقاومة الجهود العراقية والأمريكية الرافضة لايران. ويعني الانتظار بصبر والاستفادة من الفرص واغتنامها لتقوية القوات العراقية المحلية.

ولكن لكي تنجح هذه المقترحات، يجب أن تكون الولايات المتحدة مستعدة للبقاء في اللعبة. لقد أثبتت إيران قدرتها على اللعب بشكل جيد، لكن ما منح طهران هذه الميزة هو أن وكلائها مستمرين بأدائهم واعمالهم. وبالتالي، يجب على جهاز الأمن القومي الأمريكي بأكمله أن يجهز نفسه ليبقى منخرطًا في العراق في كل الاوقات ولاسيما عندما تخسر الولايات المتحدة معارك تكتيكية لصالح إيران أو العراقيين الفاسدين. وفي الوقت الحالي، لا يوجد سوى بضعة آلاف من القوات الأمريكية في البلاد، وجميعهم تقريبًا يقومون بالتدريب وتقديم المشورة وتوفير الدعم اللوجستي والاستخباراتي لقوات الأمن العراقية. وهناك وحدة أخرى توفر الأمن للبقية، بينما عدد قليل من هذه القوات يدعم العمل المباشر ضد بقايا تنظيم "الدولة الإسلامية".

منذ أن أمر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، جعلت إيران من أولوياتها إجبار القوات الأمريكية على الخروج من العراق. ومع ذلك، من الواضح أن طرد القوات الأمريكية هو أولوية إيرانية وليست عراقية. اذ يدعم معظم العراقيين بقاء القوات الأمريكية لأنهم يرونها طريقًا الى جيش عراقي أكثر احترافًا، ولأنهم ينظرون للولايات المتحدة على أنها مراجعة حاسمة للسيطرة على حرية إيران.

وباستثناء أتباع إيران في العراق... يؤكد العراقيون بشكل موحد الى أن مهمة القوات العسكرية الأمريكية هو كل ما يحتاجون اليه لتبرير الاحتفاظ بها على الرغم من تصويت البرلمان العراقي لطرد القوات الأمريكية العام الماضي. ويجب أن يكون هذا أسهل إذا تم إلغاء AUMF. فإلغاء قانون استخدام القوة العسكرية سيعني بأنه لا توجد قوات أمريكية لديها مهمة قتالية في العراق. وقد يعني أيضًا التخلي عن العمليات ضد "الدولة الإسلامية" في الأراضي العراقية، ففي هذه المرحلة، يمكن أن تكون مطاردة بقايا تنظيم "الدولة الإسلامية-داعش" هي أدنى أولوية بالنسبة للقوات الأمريكية في العراق، ولكن هذا ثمن ضئيل يجب دفعه.

ما يجب أن يصبح أولوية عليا للقوات العسكرية الأمريكية هو الحماية الأساسية للقادة السياسيين العراقيين من ذوي النوايا الحسنة مثل الكاظمي والرئيس برهم صالح وغيرهم عند محاولتهم كبح الفساد والميليشيات المدعومة من إيران الذين يواجهون التهديد بالانتقام العنيف ضدهم وضد عائلاتهم. كما ويتعرض قادة قوات الأمن العراقية لتهديد مماثل، بهدف ثنيهم عن الاضطلاع بمسؤولياتهم المنصوص عليها في الدستور لحماية الحكومة عبر اتباع أوامر مشروعة كاعتقال وكلاء إيران أو غيرهم من المجرمين. وأكدت واشنطن لبغداد أنها ستقدم الدعم العسكري -إذا طُلبت- في هذه الحالات على وجه التحديد. هذا أمر مهم لكنه ليس كافياً.

القادة العراقيون بحاجة الى الحماية، وهي ليست مشكلة سهلة الحل. نظرًا لأن القوات الأمريكية لم تعد موجودة في المدن العراقية، وان الميليشيات والمجرمين والوكلاء الأجانب لديهم مسار سهل لضرب السياسيين المستقلين. ولكن يمكن أن يساعد التعاون الاستخباراتي الأكبر دائمًا في هذا الجانب. ولكن التقدم الحقيقي قد يتطلب استعراضًا أكبر للقوة من قبل قوات الأمن الأمريكية وتعاونًا أوثق مع القادة العراقيين. في لبنان، قُتل القادة دون عقاب على مدى عقود دون خوف من العدالة أو الانتقام، وقد قوض ذلك باستمرار أي إحياء للديمقراطية أو لسيادة القانون. للولايات المتحدة مصلحة في ضمان عدم تكرار هذا النمط في العراق.

إن إحدى أكثر الطرق المفيدة التي يمكن للولايات المتحدة من خلالها توسيع نطاق وصولها الى العراق والبناء على ميزتها النسبية هي التركيز بشكل أكبر على العلاقات الاقتصادية. يشتكي العراقيون بشكل روتيني من أن الولايات المتحدة تركز أكثر من اللازم على القضايا الأمنية وليس بالقدر الكافي على المسائل الاقتصادية. وتقدم واشنطن ما يقرب من نصف مليار دولار سنويا في أشكال مختلفة من المساعدة الحاسمة للدفاع والتنمية في العراقية. لكن العراقيين يريدون المزيد من التجارة والخبرة الفنية وأشكال أخرى من المساعدات الاقتصادية البحتة. باختصار، لا يسعى الكثيرون الى الحصول على صدقات بل الى مشاركة اقتصادية أعمق، وهناك طرق عديدة يمكن للولايات المتحدة أن تُظهر أنها تدرك ذلك.

على سبيل المثال، على الرغم من أن الحوار الاستراتيجي الحالي بين واشنطن وبغداد يتضمن اعتبارات اقتصادية، فان عنوان الحوار يشير الى قضايا أمنية. ويتمثل أحد الحلول السهلة في تحويل العناصر الاقتصادية الى "حوار اقتصادي أمريكي-عراقي" منفصل، بإنشاء لجنة مشتركة بين الولايات المتحدة والعراق بشأن التعاون الاقتصادي على غرار اللجنة الأمريكية السعودية التي تحمل الاسم نفسه. تأسست الأخيرة في سبعينيات القرن الماضي لتمكين الخبراء الاقتصاديين والماليين الأمريكيين من مساعدة الرياض على استخدام ثروتها النفطية بشكل فعال للتحديث. كان المال كله سعوديا. ما جلبته الولايات المتحدة هو خبرتها وعلاقاتها ونزاهتها. كان للهيئة دور فعال في بناء الطرق والمطارات والمصانع ومنشآت البتروكيماويات وحتى مدن بأكملها مثل ينبع وجبيل.

ان الأمر متروك للحكومة العراقية لتقديم مقترحات المشاريع الى مثل هذه اللجنة المشتركة للتعاون الاقتصادي. من وجهة نظر الولايات المتحدة، فان النظام المثالي يتطلب ببساطة أن تمتثل جميع المشاريع المحالة الى اللجنة المشتركة للوائح الأمريكية لمكافحة الفساد.

أخيرًا، يجب على الولايات المتحدة أن تتغلب على تحفظها المعتاد في إدارة التراجع الديمقراطي بين متلقي المساعدات والحلفاء وأن تستدعي بقوة الانتهاكات العراقية للمعايير الديمقراطية. فالولايات المتحدة قادت الديمقراطية العراقية، كما هي، ولا يمكنها أن تتخلى عن مسؤوليتها بالكامل. في الواقع، جاءت إحدى أسوأ لحظات أمريكا في عام 2010، عندما فشلت واشنطن في استدعاء سرقة الانتخابات الوطنية العراقية. وكان الانزلاق الكارثي للسياسة العراقية الى حرب أهلية طائفية متجددة في عام 2014 نتيجة لذلك الخطأ.

لا يزال الدور التاريخي لواشنطن يحمل ثقله لدى الجمهور والسياسيين في العراق. ويجب أن تكون الولايات المتحدة أيضًا على استعداد لتعليق مختلف أشكال الدعم الاقتصادي والدبلوماسي عندما يقوض القادة العراقيون ديمقراطيتهم. وعلى نفس المنوال، عندما يتخذ العراق خطوات إيجابية تعزز الحكم الرشيد، يجب على الولايات المتحدة أن تقف على أهبة الاستعداد لزيادة المساعدات، حتى بمبالغ صغيرة. يحتاج العراقيون الى الاعتقاد بأن المخاطرة بفعل الأشياء الصحيحة سيتم الاعتراف بها ومكافأتها، خاصة من قبل الولايات المتحدة.

كل هذا يمكن أن يبطئ من تدهور العراق، لكن من غير المرجح أن يعكسه. كما ظل صحيحًا على مدى السنوات الثماني عشرة الماضية. فالعراق يتمتع بعناصر دولة ديمقراطية قابلة للتطبيق واقتصاد مزدهر. لكن الأخطاء الأمريكية والحقد الإيراني جعلت من الصعب تحقيق هذه الأهداف. لكنها ليست بعيدة المنال إذا عملت الولايات المتحدة مع العراقيين الشرفاء لتثبيت مسارها الى الأمام.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2021
www.fcdrs.com

.........................................
رابط المقال باللغة الانكليزية:
https://foreignpolicy.com/2021/06/24/biden-is-midwife-of-the-next-iraq/

اضف تعليق


التعليقات

عباس فاضل
العراق
اماني واحلام.سلمت امريكا العراق لإيران.بقصد او دون قصد.الواقع واحد.2021-07-08