كان طرد المتقاعسين وتشكيل تكتل مغلق الخطوة المنطقية التالية في عملية التسليع التي بدأت منذ فترة طويلة. وكان من شأن هذه الصفقة أن تضاعف تدفقات الدخل المستقبلية أربع مرات، وتزيل المخاطر عن طريق تحويل تلك التدفقات إلى أصل مؤمَن. فهل من المستغرب أن يندفع بنك جي بي مورغان...
بقلم: يانيس فاروفاكيس
أثيناـ اكتشفت أوروبا حدودها الأخلاقية التي، إن تم تجاوزها، يصبح التسليع أمرًا غير مقبول. فالخط الذي يرفض الأوروبيون تجاوزه، تم رسمه للتو، مهما يكن الثمن.
لقد انحنينا للمصرفيين الذين كادوا يدمرون الرأسمالية، وأنقذناهم من الأزمات المالية على حساب مواطنينا ممن يعانون من درجة أكبر من الضعف. وغضينا الطرف عن التهرب الضريبي لشركات البيع بالجملة، وعن بيع الأصول العامة بأسعار بخسة. وتقبلنا تفقير أنظمة الصحة العامة والتعليم، ويأس العمال بنظام عقود لا تحدد ساعات العمل، ومطابخ الحساء، وإخلاء المنازل، ومستويات عدم المساواة التي مللنا منها، على أنها أمور طبيعية. ووقفنا وقفة المتفرجين عندما كانت ديمقراطياتنا تُختطف، وكانت شركات التكنولوجيا الكبرى تُجردنا من خصوصيتنا. يمكننا أن نتحمل كل هذا.
ولكن لن نتحمل أبداً خطة من شأنها أن تنهي كرة القدم كما نعرفها.
في الأسبوع الماضي، أظهر الأوروبيون البطاقة الحمراء في وجه الأباطرة -ومموليهم- الذين حاولوا سرقة اللعبة الجميلة. وانتفض تحالف قوي من المحافظين واليساريين والقوميين، الذي يوحد بين شمال أوروبا وجنوبها، في معارضة صفقة سرية أبرمها مالكو العديد من أغنى أندية كرة القدم في القارة، بهدف تشكيل ما يسمى بالدوري الممتاز. وبالنسبة لهؤلاء المالكين -بما في ذلك روسي من القلة الحاكمة، وشخص ينتمي إلى عائلة مالكة عربية، وأحد أقطاب تجارة التجزئة في الصين، وثلاثة أمريكيين يتربعون على عرش الرياضة- كان واضحا أن هذه الخطوة منطقية من الناحية المالية. ولكنها كانت بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير من وجهة نظر الجمهور الأوروبي.
وفي الموسم الماضي، تأهل 32 ناديًا للعب في دوري أبطال أوروبا، وتقاسمت هذه الأندية فيما بينها 2 مليار يورو (2.4 مليار دولار) من عائدات حقوق البث التلفزيوني. ولكن نصف الأندية، مثل فريقي ريال مدريد وليفربول، جذبت الجزء الأكبر من مشاهدي التلفزيون الأوروبي. ويرى مالكوها أن الكعكة ستكبر إلى حد كبير عن طريق تنظيم المزيد من مباريات الديربي بين أمثال ليفربول وريال مدريد، بدلاً من المباريات التي تضم فرقًا متواضعة من اليونان وسويسرا، وسلوفاكيا.
وهكذا خُطط لاقتراح الدوري الممتاز. فبدلاً من تقاسم 2 مليار يورو بين 32 ناديًا، أدركت الأندية الخمسة عشر الكبرى بعد عملية حسابية أنها يمكن أن تتقاسم 4 مليارات يورو فيما بينها. وفضلا عن ذلك، من خلال إنشاء متجر مغلق مع نفس الأندية، كل عام، بغض النظر عن مدى جودة أدائها في بطولاتها الوطنية، فإن الدوري الممتاز سيزيل المخاطر المالية الهائلة التي تواجهها جميع الأندية اليوم وهي: الإخفاق في التأهل لدوري أبطال أوروبا العام المقبل.
ومن وجهة نظر الممول، كان طرد المتقاعسين وتشكيل تكتل مغلق الخطوة المنطقية التالية في عملية التسليع التي بدأت منذ فترة طويلة. وكان من شأن هذه الصفقة أن تضاعف تدفقات الدخل المستقبلية أربع مرات، وتزيل المخاطر عن طريق تحويل تلك التدفقات إلى أصل مؤمَن. فهل من المستغرب أن يندفع بنك (جي بي مورغان تشيس) لتمويل الصفقة بعرض مكافئ بقيمة 300 مليون يورو لكل من الأندية الـ15، التي وافقت على ترك دوري أبطال أوروبا وراءها؟
وبينما استمرت ملحمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لسنوات، انهارت محاولة الانفصال هذه في غضون يومين. ومهما كان المنطق المالي وراء الدوري الممتاز، فقد أخفق المخططون له في التفكير في قوة غير ملموسة لكنها لا تقاوم وهي: الاقتناع السائد بين المشجعين، واللاعبين، والمدربين، والمجتمعات المحلية، ومجتمعات بأكملها بأنهم هم المالكون الحقيقيون لليفربول، يوفنتوس، وبرشلونة، وباقي الأندية، وليس الأباطرة.
ومن يستطيع أن يلوم المالكين على عدم توقع حدوث هذا؟ إن أحدا لم يحتج عندما طرحوا أسهم أنديتهم في البورصات جنبًا إلى جنب مع أسهم (ماكدونالدز) و(باركليز). وعلى مدى سنوات، كان المشجعون يقفون وهم مكتوفي الأيدي على القلة المسيطرة وهي تصب المليارات في عدد قليل من الأندية الرائدة، مما أدى إلى القضاء على جميع المنافسات الحقيقية من خلال تعبئة قوائمها بأفضل اللاعبين في العالم.
ولكن بينما يمكن أن يقبل الجمهور الأوروبي تراجع احتمال فوز متقاعس ما بأي شيء، إلى ما يقرب من الصفر، فإن الدوري الممتاز سيغتنم هذه الفرصة رسميًا ليكمل بقية الطريق. إن تعظيم الأرباح الآن هو بمثابة النهاية الرسمية لإمكانية أن يحلم فريق متواضع مثل (ستوك سيتي) أو (بانيونيوس) من أثينا بالفوز بدوري أبطال أوروبا في يوم من الأيام. والقضاء التام على الأمل، مهما كان المدى الذي أبعدته إليه الرأسمالية، بمثابة الشرارة التي أوأدت الأوليغارشية الكروية في مهدها.
وموازاة مع ذلك، حتى أباطرة الرياضة الساخرون في الولايات المتحدة، يدركون أن رأسمالية السوق الحرة تخنق المنافسة. ويُعد الدوري الوطني الأمريكي لكرة القدم نموذجًا للقدرة التنافسية العدوانية، ليس فقط لأن اللاعبين ذوي اللياقة البدنية الفائقة يضحون بصحتهم من أجل الثروة، والمدح، وتحقيق الفوز في مباراة (السوبر بول). إذ يعتبر الدوري الأمريكي لكرة القدم الأميركية تنافسيا لأنه يفرض على فرقه سقفا صارما للراتب، بينما يضمن للأضعف منهم اختيارهم كأفضل اللاعبين الصاعدين. لقد ضحت الرأسمالية الأمريكية بالسوق الحرة لإنقاذ المنافسة، وتقليل القدرة على التنبؤ وزيادة الإثارة إلى أقصى حد. إن التخطيط المركزي يعيش في الخطيئة مع التنافس الجامح- الذي تسلط عليه الأعمال الاستعراضية الأمريكية أضواءه بصورة مباشرة.
وإذا كان الهدف هو إقامة دوري كرة قدم مثير ومستدام مالياً، فإن النموذج الأمريكي هو ما تحتاجه أوروبا. ولكن إذا كان الأوروبيون جادين في ادعائهم أن الأندية يجب أن تنتمي إلى الجماهير، واللاعبين، والمجتمعات، التي يحصلون منها على الدعم، فعليهم المطالبة بإزالة أسهم الأندية من البورصة، وتكريس مبدأ حصة عضو واحد -سهم واحد- صوت واحد في القانون.
ويمتد السؤال الحاسم حول ما إذا كان ينبغي تنظيم الأوليغارشية أو تفكيكها إلى ما هو أبعد من الرياضة بكثير. فهل تكفي أجندة الإنفاق والتنظيم التي وضعها الرئيس الأمريكي، جو بايدن، لكبح جماح القوة المطلقة التي تدمر بها القلة الحاكمة آفاق الكثيرين؟ أم أن الإصلاح الحقيقي يتطلب إعادة التفكير بصورة جذرية في من يملك ماذا؟
الآن، وبعد أن اكتشف الأوروبيون حدودهم الأخلاقية، ربما حان الوقت لتمرد ذي نطاق أوسع يدافع عن (بيل شانكلي)، مدير ليفربول الأسطوري والاشتراكي القوي. فقد قال شانكلي: "يعتقد بعض الناس أن كرة القدم هي مسألة حياة أو موت". "يمكنني أن أؤكد لكم أنها أهم من ذلك بكثير."
اضف تعليق