فرغبة المتملق في التملق والتزلف لا تقل قوة عن توق النرجسي إلى الشعور بإعجاب الناس به على نحو يشبه العبودية. وما عليك إلا أن تلقي نظرة على المشاركات على موقع فيسبوك لمراقبة هذه الظاهرة. ففي مقابل كل شخص ينشر صورة يطري بها ذاته (ملتقطة قبل...
إيان بوروما
نيويورك ــ كانت شهادة مايكل د. كوهين، محامي الرئيس الأميركي دونالد ترمب سابقا، الذي وصف نفسه بأنه "مصلح المشاكل"، أمام لجنة مجلس النواب المعنية بالإشراف والإصلاح، من المشاهد الاستثنائية غير العادية. فنحن إزاء رجل استأجره ترمب ليتصرف كما لو أنه رجل عصابات. وكان بارعا في ذلك إلى حد الكمال. عندما كانت صحيفة "ذا ديلي بيست" على وشك أن تنشر تقريرا حول ادعاءات زوجة ترمب الأولى إيفانا، بأن زوجها اغتصبها، نبح كوهين على الصحافي الذي كان مسؤولا عن التقرير قائلا: "لذا فأنا أحذرك، كن حريصا كل الحرص، لأن ما سأفعله بك سيكون بشعا مثيرا للاشمئزاز. هل تفهمني؟"
لم يكن ذلك الصحافي وحده. إذ كانت مهمة كوهين تتلخص في تهديد أي شخص يعترض طريق زعيمه القديم. وقد كذب على لجان الكونجرس، ودفع رشاوي لبغايا لمنعهم من الحديث عن علاقاتهن مع ترمب، والكثير من هذا القبيل.
تحول كوهين، الذي سيبدأ قريبا قضاء عقوبة السجن لمدة ثلاث سنوات، إلى ما يسميه أعضاء المافيا (وترمب) "جرذ" (من يشي بأصحابه). في شهادته ضد زعيمه القديم في الكونجرس، لم يظهر كوهين بمظهر السفاح أو قاطع الطريق. بل ذكرنا بنوع مختلف تماما من البشر. وكل من قضى بعض الوقت في ملعب مدرسي سيتذكره: الضعيف الذي يمشي في ذيل المتنمر المختال، فينفذ أوامره، في حين يعرض نفسه للإهانة على نحو مستمر. وبعينيه البريئتين الأشبه بعيني الجرو الجريح والفم المتراخي، يلعب كوهين ذلك الدور بإتقان يبلغ درجة الكمال أيضا.
في إحدى المناسبات، عندما كان كوهين لا يزال على حد قوله "على استعداد لتلقي رصاصة" فداء لزعيمه، اضطر إلى تأخير حفل بلوغ ابنه (طقس ديني يهودي)، لأن ترمب قرر الظهور في وقت متأخر. وعندما وصل أخيرا، أذل كوهين وحط من قدره أمام عائلته وأصدقائه بزعمه أن السبب الوحيد الذي دفعه إلى القدوم هو أن "مصلح المشاكل" الخاص به توسل إليه لكي يحضر. وهذا ينبئك بكل شيء عن العلاقة بين النرجسي والمتملق الذليل، أو السادي والماسوشي.
الواقع أن كلا منهما يتغذى على الآخر. فرغبة المتملق في التملق والتزلف لا تقل قوة عن توق النرجسي إلى الشعور بإعجاب الناس به على نحو يشبه العبودية. وما عليك إلا أن تلقي نظرة على المشاركات على موقع فيسبوك لمراقبة هذه الظاهرة. ففي مقابل كل شخص ينشر صورة يطري بها ذاته (ملتقطة قبل سنوات عادة) أو مراجعة شديدة التحمس لكتابه الأخير (غالبا ما يخفف منها بعض التواضع الزائف: "أخجلتم تواضعنا بشدة...")، سنجد عشرات من المتملقين المتزلفين الذين يحتفلون بالجمال غير العادي لهذا الشخص النرجسي أو إنجازاته العظيمة.
الواقع أن الرغبة الملحة في التملق يسهل رصدها مثل مشهد حب الذات. وهذا الأمر ينطوي على بدائية شديدة: فالضعيف يسعى إلى الفوز بحماية القوي من خلال التذلل والخضوع له، ويكتسب النرجسي قوته من خضوع الضعفاء له. ولا يقود هذا دوما إلى إساءة المعاملة، لكن هذا ما يحدث غالبا.
اخترعت البشرية العديد من الطرق لتخفيف مثل هذه الإساءة وتوجيه هذه الرغبات في اتجاهات أقل ميلا إلى إحداث الضرر والأذى. فتقدم الأديان نوعا من التركيز المجرد للعبادة والخضوع؛ وليس من قبيل العبث أن تذهب عقائد عديدة إلى تحريم خلق صور لكائنات حية. في أزماننا الأكثر علمانية، حل محل تقديس الأوثان الروحية عبادة نجوم الروك أو أبطال الرياضة. وعندما أثار جون لينون ذات مرة غضب الأميركيين المتدينين بزعمه أن فريق البيتلز كان أكثر شعبية من يسوع، فإنه كان نِصف مازح.
إن عبادة نجوم الروك غير مؤذية نسبيا. ولكن عندما يكتسب النرجسيون سلطة سياسية، تكون العواقب ضارة بكل تأكيد. فالكاريزما التي تتغذى على العبادة تقود إلى هستيريا جماعية. وهنا يصبح القضاء على المنتقدين والمنكرين أمرا واجبا. وتصبح السلطة مطلقة بلا رادع. وتُعَد الزخارف الدينية الزائفة في زمن الدكتاتوريات العظمى في القرن العشرين مثالا رهيبا. ففي نظر كثير من الصينيين والروس والألمان، كان زعماؤهم آلهة. وما يسهل إغفاله هنا هو أن مثل هذه العبادة ليست مبنية على الإكراه دائما. فالعديد من الناس يصبحون متملقين ذليلين للسلطة طواعية. ومن عجيب المفارقات أن الخضوع يجعلهم يشرعون بأنهم أقل ضعفا.
صحيح أن ترمب ليس دكتاتورا، لكنه يود حقا لو يتمكن من التحول إلى دكتاتور. والواقع أن مداهنته وتملقه للرجال الأقوياء في العالم، من الرئيس الروسي فلاديمير بوتن إلى الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون، علامة واضحة على ذلك. لكن المصدر الذي يستمد منه شعبيته الكبيرة في الولايات المتحدة يظل محيرا لكثيرين من الناس الذين لم ينضووا تحت جناحه. فهم لا يفهمون كيف لهذا الجلف التافه المتغطرس الواهم المستغرق في ذاته أن يكتسب مثل هذه الجاذبية العريضة. ويقول الليبراليون، إن الأمر برمته مجرد استعراض في نهاية المطاف.
لكن هذا هو المقصد على وجه التحديد. فالأمر برمته مجرد استعراض ــ تماما مثل الطقوس الدينية، أو المسيرات النازية أو الماوية. فقد لا يكون ترمب مطلعا، أو متمرسا، أو فضوليا، أو قارئا جيدا، لكنه يتمتع بحس غريزي مرهف لسيكولوجية القوة والخضوع. وهو يعرف كيف يستدرج الناس الذين يشعرون بأنهم ضعفاء وغير معترف بهم ليحولهم إلى غوغاء منجذبين إلى مشهد الكاريزما الغاضبة. إن حبه لذاته يجعل أتباعه يحبون أنفسهم ويكرهون أعداءهم. إنها موهبة عظيمة وبالغة الخطورة. والواقع أن تجمعات ترمب الحاشدة في قلب أميركا تشبه علاقته بمصلح الأخطاء السابق ولكن بصورة أشد وضوحا.
كان واحدا من أشد تصريحات كوهين غرابة في شهادته أمام الكونجرس أنه كذب، لكنه لم يكن كذابا. ربما كان يقصد هذا مخلصا. وربما كانت وجهة نظره أنه لم يكن هو نفسه حقا عندما كان يكذب نيابة عن زعيمه. فقد كان حرفيا واقعا تحت سِحر ترمب، كان مفتونا ويكاد يسير نائما. وهذا هو أيضا ما يقوله الناس الذين هتفوا ذات يوم بوحشية للطغاة، ثم عجزوا عن تفسير سبب قيامهم بذلك بمجرد سقوط هؤلاء الطغاة وتغير الزمن.
من الصعب أن نجزم الآن بمدى صحة شهادة كوهين. من المؤكد أن مزاعمه تنسجم مع إفادات آخرين في مدار ترمب. لكن شيئا واحدا قاله، وإن لم يكن ملفوظا بشكل دقيق من الناحية اللغوية، أظهر أنه تعلم درسا قيما. وينبغي لآخرين أن ينتبهوا إلى تصريحه هذا: "لا أملك إلا أن أحذر الناس. فكلما تزايد عدد أتباع السيد ترمب كما فعلت على غير هدى فسوف يعانون نفس العواقب التي أعانيها".
اضف تعليق