الشعبوية هي مصطلح غامض ينطبق على أنواع مختلفة من الاحزاب والحركات السياسية ولكن القاسم المشترك بينها هو ازدراء النخب القوية ففي الانتخابات الرئاسية سنة 2016 شهد الحزبان السياسيان الرئيسيان في الولايات المتحدة الامريكية ردة فعل شعبوية على العولمة والاتفاقيات التجارية كما عزا بعض المراقبين انتخاب...
جوزيف ناي
ستانفورد — ان السياسات المعيبة لبريكست في المملكة المتحدة وردة الفعل في انتخابات التجديد النصفي في الولايات المتحدة الامريكية ضد الرئيس دونالد ترامب قد أدت الى مراجعة لمد الشعبوية والذي اجتاح ديمقراطيات العالم في السنوات الاخيرة وفي واقع الامر فإن هذه المراجعة كان يجب ان تحدث منذ فترة طويلة.
إن الشعبوية هي مصطلح غامض ينطبق على أنواع مختلفة من الاحزاب والحركات السياسية ولكن القاسم المشترك بينها هو ازدراء النخب القوية ففي الانتخابات الرئاسية سنة 2016 شهد الحزبان السياسيان الرئيسيان في الولايات المتحدة الامريكية ردة فعل شعبوية على العولمة والاتفاقيات التجارية كما عزا بعض المراقبين انتخاب ترامب لردة الفعل الشعبوية على النظام الليبرالي العالمي خلال السبعة عقود الماضية ولكن ذلك التحليل مبسط للغاية فلقد كانت هناك عوامل كثيرة ساهمت في تلك النتيجة والسياسة الخارجية لم تكن واحدة منها.
إن الشعبوية ليست جديدة وهي امريكية مثل فطيرة التفاح الامريكية. ان بعض ردات الفعل الشعبوية –على سبيل المثال رئاسة اندرو جاكسون في الثلاثينات من القرن التاسع عشر والحقبة التقدمية في بداية القرن العشرين- قد أدت الى اصلاحات عززت من الديمقراطية. ان ردات فعل شعبوية اخرى مثل حزب لا ادري المعادي للهجرة والكاثوليكية في الخمسينات من القرن التاسع عشر أو عضو مجلس الشيوخ جو مكارثي والحاكم جورج والاس في الخمسينات والستينات من القرن العشرين قد عززت من العداء للأجانب والاقصاء. ان الموجة الاخيرة من الشعبوية الامريكية تضم هذين العاملين.
ان جذور ردود الفعل الشعبوية هي اقتصادية وثقافية وهي موضوع بحث مهم في علم الاجتماع. لقد وجدت بيبا نوريس من جامعة هارفرد ورونالد انجيلهارت من جامعة ميتشيغان ان العوامل الثقافية والتي سبقت انتخابات 2016 بوقت طويل كانت مهمة للغاية. ان الناخبين الذين فقدوا وظائفهم لمصلحة المنافسة الاجنبية كانوا في الغالب يدعمون ترامب كما دعم ترامب مجموعات مثل الرجال البيض الاكبر سنا والذين فقدوا مكانتهم في الحروب الثقافية التي ترجع الى السبعينات من القرن العشرين والتي تضمنت تغيرات في القيم تتعلق بالعرق ونوع الجنس والتوجه الجنسي. لقد أظهر الن ابراموفيتز من جامعة ايموري ان الازدراء العرقي كان أقوى مؤشر لمصلحة ترامب بين الناخبين الرئيسيين للحزب الجمهوري.
لكن التفسيرات الاقتصادية والثقافية ليست مرتبطة ببعضها البعض حيث قام ترامب وبكل وضوح بربط تلك القضايا من خلال الطرح القائل بأن المهاجرين غير الشرعيين يأخذون الوظائف من المواطنين الامريكيين. ان رمزية بناء جدار على طول الحدود الجنوبية لأمريكا كان شعارا مفيدا من اجل توحيد قاعدته الانتخابية حول تلك القضايا ولهذا السبب يجد ترامب ان من الصعوبة بمكان التخلي عن تلك الفكرة.
حتى لو لم يكن هناك عولمة اقتصادية او نظام ليبرالي عالمي وحتى لو لم يكن هناك ركود عظيم بعد سنة 2008 فإن التغيرات الثقافية والسكانية المحلية في الولايات المتحدة الأمريكية كان سينتج عنها بعض الشعبوية. لقد شهدت امريكا ذلك في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي. لقد جاء خمسة عشر مليون مهاجر الى الولايات المتحدة الامريكية في العشرين سنة الاولى من القرن مما جعل العديد من الامريكيين يشعرون بالخوف غير المريح من ان يتم اجتياحهم وفي اوائل العشرينات من القرن الماضي عادت كو كلوكس كلان للظهور مجددا ودعت لإصدار قانون الاصول الوطنية لسنة 1924 من اجل "منع تعرض العرق الاوروبي الشمالي للإجتياح والمحافظة على امريكا الاقدم والاكثر تجانسا والتي يبجلونها ".
وبالمثل فإن انتخاب دونالد ترامب سنة 2016 عكس الاختلافات العرقية والايدولوجية والثقافية العميقة ولم يتسبب بها علما ان تلك الاختلافات قد بدأت تنمو ردا على حركات الحقوق المدنية وتحرير النساء لفترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي. إن من المرجح ان تستمر الشعبوية في الولايات المتحدة الامريكية بينما يتم فقدان الوظائف لمصلحة الروبوتات والتجارة كما يستمر التغير الثقافي في كونه أحد اسباب الشقاق.
إن الدرس للنخب المهتمة بالسياسات والذين يدعمون العولمة والاقتصاد المفتوح هو انه يتوجب عليهم الاهتمام اكثر بقضايا انعدام المساواة الاقتصادية بالإضافة الى المساعدة على التكيف بالنسبة لأولئك الذين يتأثرون بالتغيير سواء محليا او خارجيا. ان التوجهات المتعلقة بالهجرة تتحسن عندما يتحسن الاقتصاد ولكنها تبقى قضية عاطفية ففي منتصف سنة 2010 عندما وصلت تأثيرات الركود العظيم لذروتها، وجد مسح مؤسسة بيو ان 39% من البالغين الامريكيين يعتقدون ان المهاجرين يعززون البلد و50% كانوا ينظرون اليهم كعبء وبحلول سنة 2015 ذكر 51% ان المهاجرين يعززون البلد و41% انهم عبء. ان الهجرة هي مصدر للميزة النسبية لأمريكا ولكن القادة السياسيين يجب ان يظهروا ان بإمكانهم ادارة الحدود الوطنية –عمليا وثقافيا- اذا ارادوا الحد من هجمات اولئك الذين يدعون الى التركيز على مصالح المواطنين فقط وخاصة في اوقات المشاكل الاقتصادية.
ولكن يتوجب على المرء ان لا يحلل كثيرا التوجهات طويلة المدى للرأي العام الامريكي من اجل ربطها بالنقاش المحتدم المتعلق بانتخابات 2016 او استخدام ترامب الذكي لوسائل التواصل الاجتماعي من اجل التلاعب بأجندة الاخبار فيما يتعلق بالقضايا التي تدق اسفين ثقافي وبينما فاز ترامب بأصوات المجمع الانتخابي، حصل على ثلاثة ملايين صوت اقل بالتصويت الشعبي. طبقا لاستطلاع للرأي في سبتمبر 2016، ذكر 65% من الأمريكيين ان العولمة هي جيدة بالغالب بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية على الرغم من مخاوفهم المتعلقة بالوظائف وبينما استطلاعات الرأي دائما معرضة لإن يتم وضعها في اطار معين وذلك من خلال تعديل الكلمات وتسلسل الاسئلة فإن تسمية "الانعزالية" لا تعتبر وصفا دقيقا للتوجهات الامريكية الحالية.
منذ سنة 1974،سأل مجلس شيكاغو للشؤون العالمية بعض الامريكيين سنويا ما اذا كان يتوجب على امريكا ان تلعب دورا نشطا في الشؤون الدولية أو تتبنى سياسة عدم التدخل وطيلة تلك الفترة حوالي ثلث العامة اتخذوا موقفا انعزاليا بشكل مستمر مطالبين بالعودة لتقاليد القرن التاسع عشر ولقد وصل هذا الرقم الى 41% سنة 2014 ولكن بعكس الخرافة الشعبية فإن سنة 2016 لم تكن ذروة انعزالية ما بعد سنة 1945 علما انه آبان الانتخابات فإن 64% من المشاركين بالاستطلاع ذكروا انهم يفضلون المشاركة الفعالة في الشؤون الدولية وهذا الرقم ارتفع الى 70% في استطلاع سنة 2018 وهي اعلى مستوى مسجل منذ 2002 (والتي جاءت في اعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر الارهابية).
إن الدعم القوي للهجرة والعولمة في الولايات المتحدة الامريكية لا يتلائم مع النظرة بإن "الشعبوية" مشكلة. ان المصطلح ما يزال غامض ولا يفسر الكثير وخاصة الان مع تراجع الدعم للقوى السياسية التي تتناغم مع ذلك المصطلح.
اضف تعليق