q

فيليب ليغرين

 

لندن ــ للوهلة الأولى، يبدو الاقتصاد في منطقة اليورو وكأنه آخذ في التعافي أخيراً. فأسواق الأوراق المالية تشهد انتعاشاً، وتحسنت ثقة المستهلك. وهناك توقعات بأن يسهم انخفاض أسعار النفط، وهبوط اليورو، وبرنامج التيسير الكمي الذي أطلقه البنك المركزي الأوروبي في تعزيز النمو. وهذا رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي يزعم أن "تعافياً مطرداً يستحوذ على المشهد"، بينما يتشبث صانعو السياسات في برلين وبروكسل ببوادر الحياة في إسبانيا وأيرلندا كدليل على أن وصفتهم للعلاج المر ــ المتمثلة في ضبط أوضاع المالية العامة (تقليص العجز والدين) وإجراء إصلاحات هيكلية ــ قد نجحت كما رُوج لها.

لكن عند الاقتراب أكثر من الوضع وتفحصه، يتضح لنا أن التحسن متواضع، بل وربما مؤقت، وليس نتيجة للسياسات التي تروج لها ألمانيا. صحيح أن اقتصاد منطقة اليورو ربما ينمو الآن، وفق بعض التقديرات، بمعدل سنوي يبلغ 1.6%، ليرتفع بذلك من 0.9% في العام السابق للربع الأخير من عام 2014. إلا أن هذا أبطأ كثيرا من معدلات النمو في الولايات المتحدة وبريطانيا. ومع انكماش اقتصاد منطقة اليورو بمقدار 2% عما كان عليه قبل سبع سنوات، فإن "التعافي" ليست المفردة الصحيحة لوصف الحالة الأوروبية ــ خاصةً وأن الانفراجة من غير المرجح أن تستمر.

فبادئ ذي بدء، تتبدد الآن بالفعل حالة الانتعاش الطارئ الناتج عن انخفاض أسعار النفط. فبعد هبوط أسعار النفط باليورو بأكثر من النصف بين منتصف يونيو/حزيران ومنتصف يناير/كانون الثاني، ارتفعت بعدها مباشرة بمقدار الثلث، لأسبابٍ منها خفض قيمة اليورو بشكل حاد، مما رفع أسعار الواردات بشكل عام. ولا أعتقد أن تأثير ذلك على ميزانيات الأسر وتكاليف الشركات مدعاة للاحتفال.

يعول صانعو السياسات على عملة أكثر تنافسية لتحفيز النمو، لكنهم سوف يصابون في الأرجح بالإحباط وخيبة الأمل. فمع تزايد اعتماد صادرات منطقة اليورو على سلاسل العرض العالمية، لم يعد خفض العملة يسبب انتعاشاً بالقدر الذي كان يحدثه في السابق. كما قد يميل المصدرون إلى جني أي مكاسب، بدلاً من السعي لزيادة حصصهم في السوق.

في عام 2014، بلغت صادرات منطقة اليورو نحو تريليوني يورو (6,2 تريليون دولار أميركي حينها) ــ أي أكثر من صادرات الصين. ونظراً لعدم انتظام الطلب العالمي، فسوف يكون من الصعب تحقيق نمو سريع في الصادرات. على أية حال، نظراً لأن الصادرات لا تمثل سوى خمس اقتصاد منطقة اليورو البالغ قيمته 10 تريليون يورو، فمن غير المرجح أن تُحدِث تعافياً قوياً طالما بقي الطلب المحلي ضعيفا. ووفقاً لنموذج البنك المركزي الأوروبي، فإن انخفاض قيمة اليورو بمقدار 10% خلال العام الماضي (بالأرقام الحقيقية وفقاً لحجم التجارة) قد لا يرفع النمو هذا العام سوى بنسبة لا تتجاوز 0.2%

كذلك يُرجح أن تثبت التجربة سرعة تلاشي فوائد التيسير الكمي، إذ يستبعد أن يكون لانخفاض تكلفة اقتراض الحكومات تأثير كبير في تعزيز النمو، لأن لوائح الاتحاد الأوربي تعوق التوسع النقدي. وفي عموم الأمر، من المتوقع أن يكون الوضع النقدي لمنطقة اليورو محايداً بوجه عام، وذلك وفقاً للمفوضية الأوروبية، مع حدوث أزمات أخرى في أيرلندا وفرنسا وإيطاليا.

لا شك أن التيسير الكمي يحسن ظروف التمويل للشركات الكبرى القليلة في منطقة اليورو القادرة على الاستثمار في أسواق المال. لكن حتى في الولايات المتحدة وبريطانيا التي تلعب أسواق المال فيهما دوراً أكبر في تمويل الشركات، لم يساعد تضخم أسعار الأصول كثيراً في تشجيع المستهلكين على الإنفاق أو الشركات على الاستثمار. على العكس تماما، كان الاستثمار في اقتصاد حقيقي ضعيف أقل جاذبية من احتمال كسب مالٍ سهل من الهندسة المالية.

تعتمد معظم الشركات في منطقة اليورو على التمويل المصرفي، ورغم تحسن شروط الائتمان إلى حد ما، لا تزال حركة الإقراض راكدة (بل ومستمرة في الهبوط في جنوب أوروبا). وطالما بقيت البنوك الفاترة الهمة مثقلة بالقروض السيئة، فمن المستبعد أن تتغير هذه الحال كثيرا.

كما لا يمكن أن نعزو الارتفاع الطفيف في نمو منطقة اليورو، وبالأحرى التوسع السريع نسبياً في إسبانيا وأيرلندا، إلى الوصفة الألمانية المتمثلة في تقليص العجز والديون واتخاذ التدابير لزيادة تنافسية الصادرات. حقاً، هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة.

فلا يمكن اعتبار إسبانيا مثالاً لتعديل مالي ناجح. بل على العكس، فقد تزامن تعافيها مع تخفيف التقشف المالي الذي فُرِض في الفترة من 2011 إلى 2013، والذي شجع الأسر على زيادة الإنفاق رغم ركود الأجور. ومع ذلك، ظل اقتصادها منكمشا بمقدار 5.7% عن ما كان عليه قبل سبع سنوات. أما نسبة البطالة بين الإسبانيين فتبلغ 23.7% ــ وبين الشباب واحد من بين كل شابين ــ بينما خرج كثيرون آخرون من سوق العمل تماما.

في الوقت ذاته، بلغ عجز الميزانية في إسبانيا 5.7% من الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي، وهو الأعلى في الاتحاد الأوروبي. ومن المتوقع أن يتجاوز دينها العام المتزايد سريعاً 100% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام. ونظرا لاتجاه الدولة إلى الانتخابات نهاية هذا العام، أجازت المفوضية الأوروبية اتساع عجزها الهيكلي. فبدلاً من تحقيق ازدهار بفعل التقشف، تحصل إسبانيا بأكثر من نحو على تصريح مرور مجاني.

وبالمثل فإن حال أيرلندا ــ وهي صاحبة أسرع اقتصاد نام في الاتحاد الأوروبي العام الماضي ــ لا تؤكد ملاءمة وصفات السياسات الألمانية. فأيرلندا، على أية حال، دولة ذات اقتصاد صغير للغاية ومفتوح، وبه قطاع تصدير مزدهر يستفيد من أوجه القوة الموجودة ــ والتي تشمل ضرائب الشركات المنخفضة، والعمالة الماهرة، ومرونة الاقتصاد ــ إضافة إلى الظروف الخارجية المواتية، لاسيما التعافي القوي في أسواقها الرئيسة، وهي الولايات المتحدة وبريطانيا. ورغم كل ذلك، لايزال الاقتصاد أقل حجماً عن ما كان عليه قبل الأزمة، فيما يتجاوز معدل البطالة عشرة بالمائة، ويظل الطلب المحلي منخفضا، إضافة إلى ذلك الشبح الضخم المتمثل في فاتورة إنقاذ البنوك التي تبلغ 64 مليار يورو، والمفروضة بشكل غير عادل على 2.2 مليون من دافعي الضرائب الأيرلنديين.

تشير التوقعات إلى تحسن طفيف في أداء اقتصاد منطقة اليورو خلال عام 2015. لكن، لن يكون ذلك بفضل السياسات التي تطالب بها ألمانيا. ويحتمل أن يكون هذا التحسن مجرد طفرة مؤقتة، وليس بداية تعاف مستمر. وللتغلب على ركود الميزانية العمومية، ينبغي لمنطقة اليورو ترتيب أوضاع بنوكها، والتخفيف من وطأة الديون الخاصة في أغلبها، وتدارك النقص الهائل في الاستثمارات، والتخلص من الموانع التي تعوق المشاريع، ومعالجة التأثير الانكماشي الذي يفرضه المذهب التجاري الألماني. ولكل هذه الأسباب، لن تستطيع منطقة اليورو الهروب من مشاكلها في القريب العاجل.

* المستشار الاقتصادي السابق لرئيس المفوضية الأوروبية ومؤلف كتاب الربيع الأوروبي

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق