جادل العديد من الفلاسفة منذ ارسطو بإن البشر يزدهرون عندما يكونون في مجتمعات متماسكة ومشبعة بعادات قوية تتعلق بالفضائل المدنية ولكن طبقا لجان جاك روسو الناقد الأول للرأسمالية فإن الأسواق تروج للطمع وتتسبب في تفكيك العلاقات وتجعل الناس يتفرقون عن بعضهم البعض مما يعني ان...
ANDRÉS VELASCO
سانتياغو- في لايك وبيغون وهي بلدة أمريكية خيالية لجاريسون كيلور فإن جميع الأطفال هم فوق المعدل والحياة هي بمثابة محاكاة للفن ليس فقط في امريكا وليس فقط بالنسبة للشباب فالبحوث التي تم اجراؤها في بلدان فقيرة وغنية على حد سواء ذكر الناس فيها انهم يشعرون بالرضا عن حياتهم العائلية وبأنهم سعداء بالأحياء التي يعيشون فيها وبأنهم متفائلون فيما يتعلق بمستقبلهم الشخصي ونفس هؤلاء الاشخاص يخبرون منظمي استطلاعات الرأي بإن بلدانهم والعالم تسير بخطى واثقة نحو الكارثة.
اذن من الواضح ان البالغين يعيشون كذلك حياة هي دائما فوق المعدل.
انظر لبعض الأمثلة فطبقا لإستطلاع الرأي لمؤسسة يورباميتير فإن حوالي 60% من الناس توقعوا بإن وضعهم الوظيفي سيبقى بدون تغيير بينما توقع 20% ان يتحسن وضعهم ولكن معظم الناس يتوقعون وبشكل منهجي بأن الوضع الإقتصادي لبلدهم سوف يسوء او يبقى بدون تغيير. إن التوقعات المتعلقة بالنتائج الفردية تتحرك ببطء شديد مع مرور الوقت بينما التوقعات المتعلقة بالاداء الاقتصادي الوطني تسوء مع حالات الركود وتتحسن مع حالات الانتعاش الاقتصادي كما قد يتوقع المرء.
إن هذه ليست ظاهرة أوروبية فقط فمؤسسة سي ي بي لاستطلاعات الرأي وهي من أفضل مؤسسات استطلاع الرأي في تشيلي كانت تسأل أسئلة مماثلة منذ 2004 مع نتائج محيرة كذلك فنسبة الأشخاص الذين يذكرون انهم راضون عن وضعهم الإقتصادي الشخصي هي دائما اكبر من نسبة الاشخاص الراضين عن حالة الإقتصاد الوطني والفجوة بين المؤشرين تزداد بسرعة منذ سنة 2010.
إن هذه اللغز لا يقتصر على الاقتصاد حيث ذكر بيورن لومبورغ بأنه في العديد من البلدان فإن نسبة المتشائمين فيما يتعلق بوضع بيئة العالم هي اكبر بكثير من نسبة المتشائمين فيما يتعلق بالبيئة المحلية او الوطنية كما تظهر نتائج مماثلة عندما تسأل مؤسسات استطلاع الرأي الناس عن مدى الفقر أو استهلاك المخدرات أو انتشار الجريمة.
إن الظاهرة منتشرة لدرجة أن الاقتصادي في جامعة اكسفورد ماكس روزر قد قرر اعطاءها اسما وهو: "التفاؤل المحلي والتشاؤم الوطني" فما الذي يفسر ذلك؟
لقد جادل العديد من الفلاسفة منذ ارسطو بإن البشر يزدهرون عندما يكونون في مجتمعات متماسكة ومشبعة بعادات قوية تتعلق بالفضائل المدنية ولكن طبقا لجان جاك روسو الناقد الأول للرأسمالية فإن الأسواق تروج للطمع وتتسبب في تفكيك العلاقات وتجعل الناس يتفرقون عن بعضهم البعض مما يعني ان من غير المفاجئ انه عندما ينظر الجيران الى ما هو ابعد من سياج منازلهم فإنهم لا يحبون ما يرون. اذن من الممكن ان يكون هناك تعايش بين الرضا الفردي والاحساس بإن المجتمع معادي.
ان علماء الاجتماع التقليديين يذكرون النقطة نفسها فالحداثة تنتزع الناس من مجتمعاتهم التقليدية والمتماسكة وترميهم الى المجهول ضمن المدن الصناعية –اساس التفريق المشهور لفرديناند تونيس بين المجتمع المحلي والمجتمع بشكل عام –وحتى لو تمتع الافراد بالازدهار فإنهم عادة ما يشعرون بالغربة ضمن المجتمع الأكبر والتشاؤم حياله حيث يعانون من ما اطلق عليه ايميل دوركهايم الإغتراب.
واخيرا وليس اخرا فإن العديد من علماء النفس وعلماء الاعصاب – واشهرهم هو تالي شاروت من جامعة كوليج لندن – يجادلون بإن الدماغ البشري هو مبرمج لإن يكون متفائلا ولكن هذا التحيز الفطري ينطبق فقط على مستقبل الفرد فقط وليس بلد ذلك الفرد أو الكوكب مما يعني ظهور تلك الفجوة بشكل طبيعي.
ان كل تلك الافكار هي عبارة عن افكار تحفز على التفكير ومن الممكن ان هناك الكثير من الحقيقة في تلك الافكار ولكن لو كنت تؤمن بتزايد الفجوة بين التفاؤل الفردي والتفاؤل على مستوى البلد –وهي طبعا في تزايد- فإن علينا الإشارة الى العوامل التي تغيرت مؤخرا وذلك من اجل تفسير الفجوة المتزايدة. إن الاغتراب الذي تتسبب به الحداثة او التحيز النفسي المترسخ فقط لا تكفي لتفسير تلك الفجوة المتزايدة لإن تلك العوامل موجودة منذ وقت طويل جدا.
طبقا للدراسات فلقد لوحظ ان الفجوة تزداد بين الناس الذين لديهم تعرض اكبر لوسائل الاعلام، علما ان وسائل الاعلام – بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي – عادة ما تركز على ما يدعو للتشاؤم والاشمئزاز بدلا من التفاؤل والجمال فالأخبار الجيدة ليست اخبارا كما يقول المسؤولون الاعلاميون عادة والامر لا يستغرق اكثر من دقيقة على تويتر او محطات الاخبار من اجل التأكيد على القول المأثور "لو كانت هناك دماء، فهذه اخبار مهمة".
لو اضفنا لذلك تحيز نفسي ثاني تتم مناقشته حاليا من قبل علماء الاعصاب وهو انه نظرا لإن الجنس البشري قد تطور من اجل التصدي للإخطار فإن البشر عادة ما يكونون اكثر حساسية تجاه الاخبار السيئة فردة فعلنا لصور الأطفال الجوعى تكون اكثر حدة من ردة فعلنا لتقارير عن تحسن مستويات التغذية في افريقيا وبالطبع نحن عادة ما نتذكر تلك الصور المريعة لفترة اطول بكثير.
ان هناك رجل فهم كل ذلك منذ فترة طويلة وهو دونالد ترامب. دعونا نتذكر كلمته في مؤتمر الحزب الجمهوري حيث وصف أمة تعاني من "الفقر والعنف في الوطن والحرب والدمار في الخارج" وفي نفس تلك الأمسية قام ترامب بوصف ارث هيلاري كلينتون على انه ارث يعكس "الموت والدمار والضعف".
لقد اشار ترامب في كتابه فن الصفقة الى ان "قليل من المبالغة لا يضر مطلقا" علما ان زملائه من الشعبويين يتفقون معه ففكتور اوربان في هنغاريا ونيكولاس مادورو في فنزويلا ربما لم يقرأوا لروسو أو احدث النظريات في علوم الاعصاب ولكنهم يفهمون الخلاصة وهي: لا تهتم بالدروس المستفادة من التجارب اليومية للناس في المنزل والعمل، فقط استمر بتكرار القول بإن النخب من قطاع الاعمال أو المهاجرين أو الاجانب يجعلون الأمور اسوأ بكثير وعاجلا ام اجلا سيصدقك الناخبون.
ان هذا هو احد الاسباب لماذا تعتبر الشعوبية خطيرة للغاية ولماذا حتى الاماكن المثالية مثل لايك ويبغون ليست محصنة منها.
اضف تعليق