العاطفة يحركها الوعي القصدي وهو شيء نعتبره سليما واقعا لكنها بالحقيقة هي غير ذلك. الوعي القصدي لا يكون فاعلا ما لم يستمد مرجعيته من واقعية وصرامة العقل وهو ماتنكره الظاهراتية في اعتمادها ما اسمته الوعي الخالص الانفعالي الوجداني.. السلوك الذي مبعثه النفس والعاطفة دونما افتراض وصاية العقل...
حسب تعبير د. زكريا ابراهيم أن شيلر ثار ضد رأي كانط قوله العاطفة ليس لها معنى ولا قيمة، وكان موقف شيلر هذا يعتمد خلفية المنهج الظاهراتي (الفينامينالوجيا) لهوسرل الذي إجتمع حوله فلاسفة الوجودية ابرزهم سارتر، هيدجر، ميرلوبونتي وجيل ديلوز وغيرهم حول مصطلح (الوعي القصدي) الذي اول من رفعه برينتانو الذي كان يمقت عقلانية كانط التي تنخرها الميتافيزيقا المثالية الغارقة في تأمل فلسفي معقد جدا. برينتانو في اختراعه مصطلح الوعي القصدي بالفلسفة انما كان يستهدف ديكارت وليس كانط بشدة أيده بها لاحقا تلميذه هوسرل ومن قبله ومعه شيلر.
الظاهراتية التي ينسب لها مصطلح الوعي القصدي إنما هو في حقيقته ينسب لفلاسفة الوجودية الذين هاجموا كوجيتو ديكارت معتبرين الوعي المجرد عن موضوعه المتعين لا يقود الى تحقيق انطولوجيا الوجود وكما يتصورون أن ديكارت أخطأ به خطأ جسيما حينما إعتبر مجرد التفكير يحقق الوجود الحقيقي للانسان.. الحقيقة أن ديكارت لم يخطيء بمقولته انا افكر اذن انا موجود. والسبب في عدم خطئه أن العقل لا يفكر بشيء ليس له معنى او دلالة معرفية.
بعبارة اوضح انه بمجرد افتراضنا تفكير العقل فهو يحمل موضوع تفكيره معه كتحصيل حاصل لا يحتاج الاشارة له ولا البرهنة عليه. الشيء الآخر أن الوعي قصدي بالضرورة كونه نتاج عقلي لفهم وتفسير ومعرفة مدركات الاشياء. لا يوجد وعي قصدي وآخر وعي غير قصدي. الوعي قصدي بضرورة ما يفكر به أي حضور موضوعه.
نعود الى إنكار شيلر مقولة كانط العاطفة لا قيمة ولا معنى لها هي فعلا مقولة خاطئة. ليس لأن ما يرغبه شيلر ومنهج الظاهراتية يؤكد على منهج الوجدانات الانفعالية النفسية في معرفتها ما يعجز عن ادراكه العقل حسيا ذهنيا.
بل اسقط بيد شيلر ادانته الخاطئة لما نسبه للفيلسوف الالماني لايبنتيز ان هذا الاخير توهم ان العاطفة صورة مختلفة من صور الحياة العقلية. وهي كذلك فعلا ولم يكن لايبنتيز متوهما ولا خاطئا. الغاء دور العقل من قبل منهج الظاهراتية الذي يقوم على المنهج السلوكي في مرجعية النفس له وليس العقل هو الخطأ الجسيم الذي وقع به شيلر واشياعه من فلاسفة الوعي القصدي الوجداني الانفعالي في منهجهم الفينامينالوجيا. لايمكننا إعتبار العاطفة هي افصاح نفسي لا تربطها بالعقل الشعوري واللاشعوري رابطة.
كانط حين تصوّر العاطفة لا تربطها رابطة عقلية مباشرة مبررا على انها ليست موضوعا إدراكيا وقع بخطأ قوله أن العاطفة لاقيمة ولا معنى لها. الرابطة العقلية للعاطفة هي إحدى إفصاحات الماهية بمعنى القيم التي لا يدركها العقل بمباشرة كموضوع.
لو جاز لنا التعميم لنقول وبلا حذر أن ما يرتبط بعلم النفس السلوكي هي تجليّات لا يدركها العقل كموضوعات ومن جملتها العاطفة. من الخطأ الجسيم سحب امكانية استقلالية العاطفة عن العقل مثلما نتصور خطأ آخر أقبح منه قولنا أن موضوعات الخيال لا تخضع لرقابة وسطوة العقل بل لحضور وليس رقابة اللاشعور.موضوعات الخيال لغة العقل كما هي موضوعات عالمنا الواقعي الخارجي أنه لغة تمثّل تجريدي لموضوع تصنعه المخيّلة.
فرويد لم ينكر فاعلية العقل على اللاشعور في حال اليقظة بل أنكر فاعلية العقل السيطرة الانتظامية على تداعيات اللاشعور غير الانتظامية اثناء النوم فقط. ولهذا اطلق مقولته الشهيرة اللاشعور لا يحتاج الزمن والسبب ان العقل لا يعامل مدركاته في حالتي الشعور واللاشعور بنظامية لا يحضرها الزمن. كل فعالية ادراكية تكون لامعنى لها في غياب حضور الزمن والعقل.اللاشعور هو تغييب اولوية العاطفة على العقل ولا اقصد بالعاطفة هنا هي القيم السلوكية التي مرجعيتها النفس.
ايضا الفيلسوف الشهير جاستون باشلار في نظريته عن جمالية المكان إعتبر العاطفة النفسية في الحنين للماضي المكاني هي موضوع ادراكي نفسي- عقلي مزدوج. وتعامل باشلار مع الاستذكار للماضي من جنبة حضور المكان الزماني على انه موضوع للعقل. بينما الذاكرة بكل حمولاتها ومعانيها الافصاحية الاستذكارية ليست موضوعا مستقلا للعقل. وانما الذاكرة هي احدى حلقات منظومة العقل الادراكية شأنها شأن الوعي مثلا.. كلاهما لا يمتلكان الاستقلالية المعرفية والبايولوجية انهما موضوعين مستقلين للعقل.
لكي يفحم شيلر مقولة كانط العاطفة لا قيمة ولا معنى لها لجأ الى (الوعي القصدي) وهو إقحام مفبرك إعتسافيا من قبل شيلر محاولته إيقاف مقولة كانط على قدميها. هل فات على شيلر أن الوعي القصدي سميّ قصديا لأنه يرتبط بتحقيق هدف معين موجود بموضوع يصله الوعي؟ الوعي القصدي الصادر عن العقل يكون حمولة تحقيق هدفه معه وملازمة له. اما الوعي القصدي الذي يمكن تصوره اعتسافا هو نتاج عاطفي نفسي انفعالي مجردا عن منظومة العقل الادراكية ويكون وعيا لا قصديا ولا معنى حقيقي يمثله. لا يوجد وعي قصدي بلا موضوع وهذا ماتؤكده الظاهراتية في ادانتها لديكارت.
والموضوع لا ينفصل ابدا عن الذات المدركة. لا يمكننا تصور ذاتا متحققة الوجود الانطولوجي ما لم تحقق هذه الذاتية ذاتيتها الحضورية الوجودية بالمغايرة الادراكية مع موضوعها. الذات بلا موضوع هي تخييل تعجيزي لقدرات العقل الادراكية. والوعي بلا حمولة وملازمة موضوعه يكون لا ادراك عقلي ولا معنى له ولا افتراض إمكانية وجود تحققه واقعيا. والموضوع بلا تخليق ذات تدركه وتعيه تبقى اهميته في وجوده المستقل الذي لا يهتم الادراك الحسي والعقلي به.
هنا يكون الاحراج الفلسفي فالعاطفة يحركها الوعي القصدي وهو شيء نعتبره سليما واقعا لكنها بالحقيقة هي غير ذلك. الوعي القصدي لا يكون فاعلا ما لم يستمد مرجعيته من واقعية وصرامة العقل وهو ماتنكره الظاهراتية في اعتمادها ما اسمته الوعي الخالص الانفعالي الوجداني.. السلوك الذي مبعثه النفس والعاطفة دونما افتراض وصاية العقل عليه يكون تصرفا لا قيمة ولا معنى له بالحياة. لا يوجد افصاح للعاطفة بمعزل عن مرجعية السلوك النفسي تحت وصاية العقل.
ثم مصطلح الوعي الخالص وهو احد مقولات هوسرل الفضفاضة التي يعجز البرهنة الفلسفية عليها هو مصطلح انا اجده طوباويا لا معنى حقيقي له. وأعتقد ولست متاكدا مما اقوله أن سارتر إعتبر الوعي الخالص خرافة فلسفية. لا أعرف معيارية تحقق الوعي الخالص بماذا؟ أفهم يوجد وعي فقط مصدره العقل هو وسيلة العقل المعرفية وليس الادراكية فقط التي هي خاصية الحواس في فهمه وتفسيره لموجودات عالمنا الذي نعيشه.
اضف تعليق