ا- مدخل:
اثارت بريطانيا ومنذ انتمائها الى الاتحاد الاوروبي في العام 1973 قضيتين اساسيتين ادت في نهاية المطاف الى ترجيح كفة دعاة الانفصال عن الاتحاد الاوروبي، الذي اكده استفتاء 23 حزيران 2016 والذي اشرته قضيتان رئيسيتان شكلتا جوهر موضوع الانسحاب وهما:
اولاً: ان قوة الاتحاد النقدي الاوروبي الذي ظلت بريطانيا بعيدة عن الاندماج في تلك الوحدة النقدية الاوروبية ادى الى اضعاف القدرة التنافسية للاقتصاد البريطاني وغلبة كفة المجموعة الاقتصادية لدول (منطقة اليورو)، وان هذا الامر نجم بالغالب عن غياب التنسيق والتناغم الحقيقي بين السياسة النقدية للبنك المركزي الاوروبي والسياسة النقدية لبنك انكلترا وبلوغهما مرحلة ما يسمى بالتمانع المتبادل.
وثانياً: يتمثل موضوع الانسحاب بمشكلة تدفق المهاجرين غير الشرعيين الى الجزر البريطانية عبر اوروبا، اذ يُقدر عددهم اليوم قرابة المليون مهاجر وما يترتب عليه من مشكلات اجتماعية وعرقية وتنافس غير مشروع في سوق العمل البريطانية. واللافت ان ذلك الانسحاب بات متوافقا مع مطالب اجزاء اخرى من اوروبا بالانفصال عن الاتحاد الاوروبي نفسه، بل وبدأت تفجر اشكالات دستورية واقتصادية ومؤسساتية سلبية رتبها الاستفتاء آنفا.
وازاء النزعة اليمينية التي يقودها المحافظون بالانسحاب من الاتحاد الاوروبي والتي تؤيدها قوى اليمين الاوروبي والامريكي علانية، قد جعل من فكرة الكتل الاقتصادية الموحدة الكبرى وتطبيقاتها الراهنة ومستوى ارتباطها بتطور الرأسمالية تحت مطرقة التفكيك، بل ان العولمة الرأسمالية المركزية نفسها غدت متخمة بفخاخ الشك واللايقين. فلاغرابة ان نشهد اليوم انطلاقات جديدة لمفهوم الدولة-الامة او الدولة-القومية تقودها قوى اليمين في الغرب الرأسمالي بدلاً من الدولة-السوق، فضلا عن الترويج للحركات العنصرية ضد المهاجرين من الشعوب الاخرى الى المركز الرأسمالي الغربي والذين ينعتوهم بالغرباء، رافضين التعددية المجتمعية والانسجام الثقافي والحضاري بين البشر.
فعلى الرغم من ان العصر الذي نحياه هو عصر المعلوماتية (اي الثورة التكنولوجية الرابعة-الثورة الرقمية والجينية) وهو بحق عصر التواصل السريع بين البشر داخل الدول والمجتمعات والشعوب. الا ان اشكالية التواصل الاقتصادية والمجتمعية داخل المنظومة الرأسمالية العالمية على الرغم من سرعة وشائج علاقاتها، فإنها لاتعني ان العالم قد غدا منصهراً في بودقة القرية الاقتصادية والمجتمعية الصغيرة، بل ان ثمة (اغتراب) مجتمعي خطير يمتلك حواجز وفواصل وقيود مضنية وسميكة يفرزها النظام الرأسمالي نفسه وباستمرار وهي اقوى من الحدود السياسية بين الدول.
فقدرة التواصل من الناحية التاريخية بين مناطق العالم، سواء بين الرأسمالية المركزية في عهودها الماركنتالية او التجارية القديمة والبلدان المحيطية كالمستعمرات وغيرها، قد اُطلق عليها بالعولمة القديمة. وهي في حقيقة الامر ليست عولمة بل هي نمط انتاج وعلاقات انتاج ووشائج وترابطات غير متكافئة داخل النظام الرأسمالي العالمي ليس الا. ففقدان التجانس الاقتصادي والتكنولوجي وتكافؤ القوة والثروة بين مركز الرأسمالية وبلدانها المحيطية منذ نشوء التراكم الاولي لراس المال لايمثل سوى دورة حياة النظام الرأسمالي الساعي الى الربح وتركيز الثروات وتحويلها الى المركز الغربي مهما تبدلت مراحله وتغيرت ثوراته التكنولوجية الاربعة المتعاقبة.
وبين الحقيقة والوهم، يبقى التساؤل القائم: هل ان الرأسمالية المعولمة هي شيءٌ جديد ام مستحدث؟ يلحظ انه حالما وجدت الرأسمالية (بظهور الملكية الخاصة لوسائل الانتاج ونمط وعلاقات الانتاج الملازم لها) فإنها اخذت بالانتشار عالمياً. فالملاحون البحريون الذين قهروا المحيطات وواصلوا رحلاتهم من القارة الاوروبية باتجاه القارات الاخرى في القرنين الخامس والسادس عشر هم في حقيقة الامر قد رسموا خارطة الطريق لانتشار الرأسمالية التجارية كما يقول جيمس فولجر (في كتابه الموسوم: الرأسمالية/اوكسفورد 2015) حيث انهم هيأوا سبل انتشار تلك الرأسمالية الماركنتالية عالمياً.
فالمثال على ذلك هو تطور التجارة الاطلسية البحرية الثلاثية الابعاد. اذ ابتدأت بصيد العبيد من على شواطيء غرب افريقيا و تولت نقلهم كقوة عمل منتجة مباعة في حقول ومزارع القارة الامريكية او منطقة البحر الكاريبي، ولم تعد تلك السفن البحرية الى اوروبا الا وهي محملة بالسكر والخمور والقطن كثمن للعبودية وقيمة ما قام بإنتاجه اولئك الرجال والنساء المستعبدين. في حين اسهمت ثورة الاتصالات الاولى في القرن التاسع عشر من خلال اكتشاف الهاتف وقوة الاتصالات التي حطمت المسافات البعيدة واسهمت في توليد نمط من التشابكات والعلاقات والاواصر التجارية والاقتصادية والبشرية ربما لا يختلف عن توجهات العولمة الحالية، رافقها تطور هائل في النقل بالسفن والقطارات من خلال اتساع استخدام قوة البخار باستعمال الوقود الاحفوري لتحريك دواليب السفن والقطارات وجعل نقل البضائع التجارية والمواد الخام من القارات البعيدة الى اوروبا وامريكا اكثر يسرا واقل كلفة في القيمة والوقت.
وبهذا لم يختلف واقع النظام الرأسمالي عبر تطوره كظاهرة ذات وشائج وصلات مع مناطق العالم البعيدة منذ العصر الماركنتالي خلال تفكك القرن الوسيط وحتى الوقت الحاضر لكي يستمر التساؤل نفسه: هل الرأسمالية هي ظاهرة معولمة بالطبيعة؟ يمكن القول ثانية ان عبارة الرأسمالية المعولمة غدت المنطلق او المكان المشترك الذي على اساسه تعيد الرأسمالية انتاج نفسها وصياغة اسسها ومنطلقاتها. فالمبالغ العملاقة التي تتدفق حاليا متنقلة بين اسواق العالم والتي تقدر ب 5 تريليونات دولار يومياً هي واحدة من ظواهر هذه العولمة. في حين تمارس الشركات المتعدية الجنسية والمتعددة الجنسية ادارة نشاطات انتاجية في بلدان مختلفة تنتهي بتكامل المنتج الواحد في منطقة مختلفة من العالم.
كما ان اسواق السلع والخدمات وكذلك اسواق عوامل الانتاج (العمل وراس المال) تتحد في توليد الانتاج على نقطة جغرافية واحدة بالرغم من تباعد المسافات بينها. هذه هي الحقائق التي تغلف الرأسمالية المعولمة وتؤثر في حياة الناس يومياً. ومع ذلك، هنالك الكثير من الاوهام التي تغلف فكرة العولمة الرأسمالية نفسها. لذا فان انسحاب بريطانيا من تشابكاتها وروابطها الاوروبية هي المسالة التي تجعلنا ان خوض في مفهوم يسمى بأوهام العولمة بدلاً من حقائق العولمة.
2- الراسمالية المعولمة: الحاضر والمستقبل
على الرغم من ان الرأسمالية المعولمة جاءت تعبيراً مختصراً لمفهوم شاع تداوله في العقود الاخيرة من القرن العشرين ليجسد لنا بان المؤسسات الرأسمالية وتطبيقاتها قد انتشرت على مساحات جديدة من العالم وادت الى ربط اجزاء بعضها البعض بطرق مبتكرة قادت الى تحولات في العالم نفسه الذي نعيشه اليوم، وان الرأسمالية غدت نظاماً سائداً ومستمراً في المدى المستقبلي المنظور.، لكن الرأسمالية نفسها مازالت تغرق بالأوهام النافية لعولمتها وعلى وفق الاتجاهات الموضوعية الاتية:
الوهم الاول: ترى الرأسمالية المعولمة انها ظاهرة حديثة العهد ترتبط (بالعصر الرقمي-عصر المعلوماتية) في حين ان الرأسمالية هي ظاهرة عالمية منذ نشأتها وارتبطت تشابكاتها الجغرافية بمختلف القارات والمناطق التي كانت ومازالت تعيش عصر ما قبل الرأسمالية بسب تفوقها التكنولوجي سواء باستخدام وسائل النقل البحري والنقل بالقطارات وظهور الهاتف وتطور وسائل الاتصال في القرن التاسع عشر او استخدام الانظمة الرقمية في القرن الحادي والعشرين. فهي رأسمالية منجذبة نحو بؤر المصالح وليس نحو الاندماج المعولم بالضرورة. وعلى هذا الاساس ظل تطور الرأسمالية المركزية منفصلاً عن محيطه المتعثر، سواء على الصعيد المؤسسي او الانمائي. وان التفرقة مازالت واضحة للعيان بين اقتصاد العالم الاول المتقدم واقتصاد العالم الثالث المتخلف حتى اللحظة.
الوهم الثاني: تدعي الرأسمالية المعولمة بانها وفرت تدفقا لرؤوس الاموال على الصعيد العالمي. ولكن حقيقة الامر ان رؤوس الاموال المتمثلة بالاستثمار الاجنبي المباشر والمتصدي للقطاعات الحقيقية هو مازال متركزاً وبنسبة 70بالمئة في الاقتصادات المركزية الكبرى نفسها وتحديداً في قطاع الخدمات المتقدمة كشركات التامين والمصارف والاتصالات وغيرها والتي تُسهل جميعها قوة الترابط والتعامل داخل المجموعة الرأسمالية المركزية التي لايزيد عددها اليوم على 20 بلداً غنياً جاذبة للاستثمار الاجنبي المباشر. في حين ترتخي الرأسمالية المركزية المعولمة حتى مع محيطها الاقرب لها (اي اوروبا المركز/كألمانيا على سبيل المثال لاتعني اوروبا المحيط/ كاليونان). وهذا هو جل الصراع ومصدر الفزع الاوروبي ومخاوفه من انسحاب بريطانيا كرأسمالية مركزية من النادي الاوروبي. وخوف العولمة الرأسمالية المركزية من فقدان وجودها تدريجياً.
الوهم الثالث: هو انقسام العولمة وتحيزها الى المركز الرأسمالي الصناعي الام بدلا من كونها متعددة الاطراف مع محيطها الابعد. فلا تختلف ازمة اسواق الطاقة اليوم كثيرا عن ازمة اسواق المال في الماضي القريب عند تعرضهما للإخفاقات السعرية المؤثرة في إستدامة النمو والاستقرار الاقتصادي. فانهيار الاسواق المالية العالمية في ازمة العام 2008 لاتختلف في آثارها السلبية على النشاط الاقتصادي في بلدانها عما تتعرض اليه اسواق الطاقة من انهيارات سعرية منذ منتصف العام 2014 وحتى الوقت الحاضر وأثر ذلك في تفاقم الضائقة الاقتصادية التي تتعرض اليها البلدان المنتجة للنفط في الوقت الحاضر.
فمازال المدافعون عن الرأسمالية المعولمة يرون فيها الحل الوحيد في التصدي للمشكلات الاقتصادية العالمية الخطيرة كالتلوث والفقر والامراض وسوء التغذية وتزايد المجاعة. وان ثمة مليار انسان حول العالم يعاني قلة حصوله على المياه النظيفة. وطالما ان المشكلات الاقتصادية وغيرها لاتحل نفسها بنفسها، فإن واحدة من المصاعب التي لايمكن تخطيها في عالمنا اليوم (كالتقليل من استخدام السيارات وفتح الحدود امام التجارة الدولية او تحسين الصحة العامة ومواجهة الامراض المزمنة التي تحيط بنا على سبيل المثال) والتي لامناص من مواجهتها وإحتوائها بكونها من النواقص والعيوب التي لاتلائم اخلاقيات ومباديء عصر العولمة. فبالرغم من ذلك يبقى التساؤل المهم: هل العولمة متحيزة في سياساتها وتعمل من طرف واحد لمصلحة المركز الرأسمالي في مواجهة مشكلات الاقتصاد العالمي ولاسيما المحيطية منها؟
كلنا يتذكر انه عندما تعرضت المصارف وشركات التامين الكبرى في نيويورك الى سلسلة من الافلاسات والانهيارات المالية في مطلع خريف العام 2008 حيث اضطرت حكومة الولايات المتحدة بالتوجه الى البنوك المركزية في دول العالم المتقدم، ابتداءً من البنك المركزي الاوروبي في فرانكفورت وانتهاءً بالبنك المركزي الياباني في طوكيو وهي تحثهم على فكك مايسمى بفخ السيولة الذي كبل الاقتصاد العالمي، وذلك عن طريق تعظيم الاصدار النقدي (في اطار ما سُمي بسياسات التيسير الكمي) بغية تجنيب العالم مخاطر الركود والتدهور الاقتصادي عن طريق تدوير الائتمانات وتحريك عجلة النشاط الاقتصادي الدولي. ولاننسى المثال الشهير الذي ساقه الاقتصادي (راندي إيبنك) في كتابه الصادر في نيويورك في العام 2009 والذي جاء تحت عنوان: إقتصاد القرن الحادي والعشرين، إذ يوضح راندي في مثاله، مشخصا الاقتصاد المعولم في وقت الاًزمة، قائلاً: عندما تريد الضفدع الجلوس في إناء من الماء الساخن فإنها ستقفز حالاً خارج الاناء خشية موتها! ولكن عندما ترقد الضفدع مسترخيةً في إناء من ماء بارد ترتفع سخونته تدريجياً حتى يصبح شديد الغليان فان الضفدع سيطفو ميتاً داخل ذلك الاناء.
فسكوت العولمة اليوم امام تدهور السوق النفطية ودخول مجموعة الدول النفطية في عجز في موازناتها المالية وموازين مدفوعاتها في وقت مازال معظمها يسترخي في اناء الركود والبطالة او العوز الشديدين دون ان تبادر الدول الصناعية بتقديم يد المساعدة العاجلة في مِنحٍ او قروض ميسرة ولو عن طريق مايسمى باتفاقات التبادل النقدي.
بمعنى ان تضع البلدان الصناعية ودائع كافية لدى مصارف البلدان النفطية لتستخدمها في سد احتياجاتها لمواجهة ازمتها المالية الراهنة، اذا ما كانت العولمة متعددة الاطراف حقاً ام لا. بل على العكس فان صناديق الثروة السيادية لمجوعة البلدان النفطية الغنية هي مصدر صراع خفي بين المركز الرأسمالي الغني والاغنياء الجدد من مناطق النفط الخام وغيره وهو امر غير مرغوب فيه ذلك بجعل المركز الرأسمالي يحمل اكثر من هوية في تعريف الرأسمالية المعولمة والسماح للأغنياء الجدد بتوليد هيمنة مركزية مصدرها محيط العالم غير المعولم. وخير من كتب عن ذلك هو(توماس بكتي) في كتابه: رأس المال في القرن الحادي والعشرين، الصادر في العام 2009، عندما انذر بان العالم الرأسمالي المركزي سيدفع جل ايجارات قطاع العقار في الحواضر الاوروبية كعوائد استثمارات صناديق الثروة السيادية التي يمتلك احدها على سبيل المثال امير من امراء النفط.!!! ولكن تتحدث العولمة المركزية عن مجموعات الفائض النفطي في صراعاتها المركزية ولم تأخذ بالاعتبار مجموعات العجز النفطي.
الوهم الرابع: يرى مناصرو الرأسمالية المعولمة بانها الظاهرة التاريخية التي ستوحد العالم وتؤدي الى تكامله، ولكن حقيقة الامر ان مزيداً من الانقسامات والانشطارات في الكيانات السياسية والاقتصادية تحدث اليوم في العالم. كما ان مزيداً من الانقسامات يشهدها العالم في انقسامه وتقسيمه على اساس التفاوت الاقتصادي واللامساوة والناجمة بالأساس عن تفاوت في الثروات والدخول. فالمكون الرئيس لعدم المساواة في الدخل العالمي (معامل جيني) عند مطلع الالفية الثالثة انقسم الى مجموعتين يطلق عليهما البرفسور داني كوا (من المجلس الاقتصادي الوطني الماليزي) ب: قمم التوأم: فالمجموعة الاولى التي تضم 13 بالمئة من سكان العالم وتتلقى اقل من 50 بالمئة من الدخل في العالم، تضم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا واستراليا واليابان وتضم اكثر من 500 مليون نسمة حيث متوسط دخل الفرد السنوي فيها يقارب 12 الف دولار.اما المجموعة الثانية، التي تضم 42 بالمئة من سكان العالم ولكنها تتلقى 9 بالمئة من الدخل العالمي، والتي تضم هذه المجموعة الهند واندونيسيا والصين وتتألف من ملياري انسان ونيف، الا ان نصيب الفرد فيها من الدخل لايزيد على 1000 دولار الا قليلاً. وان 50 مليون شخص في العالم يحصلون على دخل سنوي يعادل دخل قرابة 3 مليارات شخص من فقراء العالم سنوياً.
الوهم الخامس والاخير: ترى الرأسمالية المعولمة بانها أعادت تنظيمها على اساس الدولة-السوق العابر للسيادة وليس على المستوى المحلي او الوطني. ولكن في ظل الانقسامات الدولية الراهنة والتي آخرها ظاهرة انسحاب بريطانيا من الاتحاد الاوروبي او ظاهرة (بريكست) فان مبدأ الدولة-الامة او الدولة القومية مازال هو الاساس في تحديد هوية البلدان و توجهاتها ونشاطات تعاونها الانتقالي بين مختلف الامم الرأسمالية المركزية.
3- الرأسمالية المعولمة: اعادة تشكيل
تتميز العولمة الرأسمالية الراهنة بفارق واحد عن العولمة القديمة (التي تمثلها اوروبا حاليا) بكونها قوى متروبولية قديمة استمالت الى إقامة كتلة اقتصادية كبيرة معولمة قوية على مستوى المركز الرأسمالي نفسه وعملت على اشاعة كتل اقتصادية متفاوتة القوة والتأثير في مجموعة البلدان المحيطية البعيدة او النامية. وهي ممارسة عملية لنظرية مستحدثة في تكوين التراكم العالمي وتدويره في اطار بناء كتل احادية كبيرة لمجموعة بلدان مركزية يطلق عليها بالرأسمالية المعولمة مركزياَ (كالاتحاد الاوروبي). وان جل ما يميز الرأسمالية المعولمة الجديدة في العقود الراهنة، هي ان مراكزها امست متصلة ببعضها كقوة جماعية مع محيطها العالمي، مكونة بذلك عولمة مركزية قوية، مقارنة بالعولمة القديمة التي كان المركز المسمى: بالمتروبولتيان (لندن، باريس، بروكسل...) يتصل بمحيطه منفرداً وتغلب عليه صفة العلاقة الاستعمارية وقت ذاك او ماكان يعرف بعصر الاستعمار.
تؤشر حقيقة انسحاب بريطانيا من الاتحاد الاوروبي واعادتها لاتفاقاتها وملحقاتها من قواعد تنظيمية وحقوق ملكية وحقوق العلامات التجارية وقوانين البيئة والتعريفة الكمركية مع 50 دولة، بمثابة الخطوة الاولى نحو تشظي العولمة الرأسمالية المركزية الاوروبية وبداية العودة الى نظرية المتروبولتيان القديمة للرأسمالية المركزية المفردة. وان تسويغ هذه التوجهات يأتي من امرين مهمين وهما:
الاول: يؤشر الانسحاب البريطاني (بريكست) بان تفرد الاتحاد الاوروبي باعتباره نوعاً جديداً من انظمة الحكم الرأسمالية المعولمة مركزياً وعلى فق بناء في الاقتصاد السياسي يسمى ب: <الدولة- السوق> يؤشر تأثيراً عميقاً على جميع الخاضعين لمظلته، وعلى الرغم من ذلك يبين التاريخ السياسي ان تطور صيغ سياسية جديدة نادراَ ما يمر بسلام وهو الامر الذي اشرته كاثلين مكنمارا في مقالها المنشور مؤخراً في مجلة الفورين بولسي في 2حزيران 2016 والذي جاء تحت عنوان: الديمقراطية الزائفة، موضحة بان الانقسامات بين اولئك الذين يتصورون حياة افضل في ظل الاتحاد واولئك الذين يخالفون ذلك يقود لا محالة الى خلق فجوة منطقية غدت واضحة بين انصار العولمة المركزية ممن شهدوا حياة افضل ومستوى اعلى من التراكم الاقتصادي وهم ينظرون الى المستقبل بأمل، وبين اولئك الذين شهدوا حياة اقتصادية متدهورة ومستوى ادنى في بلوغ التراكم الاقتصادي المنشود. والثاني: بين حزن السيدة ميركل مستشارة المانيا التي عدت الانسحاب البريطاني ضربة موجعة للاتحاد الاوروبي، وبين صيحة القيادية في الجبهة اليمينية الفرنسية مارلين لوبان: النصر للحرية، فان الافاق تؤشر ثمة خروج عدد من الدول ومغادرتها الاتحاد الاوروبي ذلك لارتفاع معدلات النزعات القومية الشعبوية والتي تأتي لأسباب اقتصادية واجتماعية. اي مغادرة نمط الدولة-السوق ولاسيما سيادة سوق العمل المعولمة مركزياً، الى الدولة–الامة وتكوين تجمع مركزي متروبولي رأسمالي معولم اصغر او اكبر حجما مقارنة بالاتحاد الاوروبي.
بعبارة اخرى خلق اقطاب جديدة للعولمة الرأسمالية المركزية متجانسة في الارث الثقافي واللغوي والقومي ومتقاربة في السياسة الخارجية ازاء قضايا العالم. وربما سيكون المحور القطبي المركزي القادم والمنافس للاتحاد الاوروبي هو: العولمة الرأسمالية المركزية الانكلو-سكسونية. اذ لم تخفىِ واشنطن قلقها الدائم من تعزيز مكانة المانيا داخل الاتحاد الاوروبي وخشيتها من ان تتصدر برلين تطويرها لقوة سياسية واقتصادية جديدة هي قيد الانشاء لتطوير الرأسمالية المعولمة الاوروبية كقوة مركزية صاعدة. وبهذا فان الراسمالية المعولمة اخذت بإعادة انتاج نفسها والتحول من النمط الاحادي المركزي والكتل الكبرى كالاتحاد الاوروبي الى النمط المتعدد المراكز وهي مرحلة مابعد بريكست.
ذلك لطالما اعتبرت بريطانيا نفسها ولاسيما المحافظين فيها، انها دولة اطلسية اكثر منها اوروبية، متخذة سياسة اقتصادية وخارجية اكثر قرباً من الولايات المتحدة الامريكية. الا ان ذلك لم يكن يمنعها من التطلع الى تحقيق مصالح سياسية واقتصادية كبرى من خلال الانضمام الى النادي الاوروبي وعلى مدار أكثر من اربع عقود من ناحية وتعطيل قوة محور برلين-باريس من ناحية اخرى لمنع الهيمنة المركزية الفرنسية -الالمانية على القرار الاوروبي.
4- الاغتراب الصناعي والتقسيم: الدولـــــي للعمــــــل
لم نصدق باديء الامر مسامعنا بأن التقسيم الدولي الجديد للعمل هو نتاج العولمة وقواها الاقتصادية العابرة لسيادة الامم ولاسيما بعد ان ذهب المُنظرون الاقتصاديون شرحاً وتفسيراً للتحول المكاني للصناعة والانتقال بها من معاقلها القديمة التي استوطنت العالم الاول وبلدانها الأم المتروبولية الى البلدان النامية في محاولة جديدة لتوصيف ظاهرة تقسيم العمل كقوة مُعولمة، فعندما ساد التقسيم الدولي للعمل بشكله القديم كانت القوى العاملة الأجرية قد نهضت وتركزت في المجتمعات الصناعية حصرياً في حين وجدت تلك القوى الأجرية متكئاً لها في العالم الثالث عبر الصناعات الاستخراجية او المعدنية وفي النشاطات الزراعية الكبيرة القائمة على المتاجرة والتصدير، الا ان تلك القوى الأجرية في البلدان النامية (والتي هي من اشباه القوة العاملة البرولتارية) كانت تمثل حقبة تاريخية تجمع بين الحياة الفلاحية وانماطها القروية وبين النمط التجاري الحضري للمدينة.
اذ يقول الكاتب ديفيد كوتس في مؤلفه الموسوم/انماط الرأسمالية: النمو والركود في الحقبة التاريخية الحديثة الصادر عن دار نشر(بولتي) في العام 2000م موضحاً بأن وظيفة رأس المال هي البحث عن العمل الرخيص وهو الامر الذي قاد الى مضاعفة عديد العاملين في الحقل الصناعي الى نحو 3 ملايين عامل في السنوات الثلاثين الاخيرة من القرن العشرين ولاسيما في البلدان النامية. وان العجلة الرئيسة التي قادت الى انتشار النمط الرأسمالي للإنتاج في العالم الثالث هو ظهور مايسمى: بالتعاون الانتقالي الدولي، اذ تنامى هذا النمط من التعاون في اشاعة الانتاج الصناعي خلال الربع الاخير من القرن العشرين من 7 آلاف وحدة صناعية في العام 1973 ليصبح بنحو 26 الف وحدة صناعية في العام 1993، ويُلحظ انه بين العام 1953 وحتى مطلع الالفية الثالثة انخفضت مساهمة العالم الاول في الانتاج الصناعي العالمي من 95 بالمئة الى 77 بالمئة في حين تضاعفت حصة البلدان النامية في الناتج الصناعي العالمي من 5 بالمئة الى 23 بالمئة خلال الفترة نفسها اعلاه.
حيث تعاظم تدفق الاستثمارات الخارجية نحو بلدان العالم الثالث وتصاعدت حدتها في تسعينيات القرن الماضي، على الرغم من ان الكثير من تلك الاستثمارات قد ذهبت الى البلدان الصناعية الام نفسها. كما ان افضل نماذج عملية الانتقال التعاوني تمثل بنمو ظاهرة الوحدات المصنعية في مناطق اقتصادية حرة والتي اطلق عليها (ماكيلادورز) في منطقة الحدود المكسيكية-الامريكية، اذ تشكلت نواتها في العام 1965 حيث سُمح بإقامة منطقة اقتصادية حرة امتدت على طوال المنطقة الحدودية للمكسيك مع الولايات المتحدة الامريكية وبمنطقة عازلة عمقها 10 اميال، واتيحت لتلك المصانع إستيراد المواد الاولية وقطع الغيار على اساس الاعفاء التام من التعرفة الكمركية شريطة ان يعاد تصدير المنتجات الناجمة عن تصنيعها كافة.
ويلحظ ان ظاهرة ماكيلادورز قد اتسعت وتضاعف نشاطها لاسيما بعد العام 1993 عندما دخلت المكسيك مع الولايات المتحدة الامريكية باتفاقية التجارة الحرة لمنطقة امريكا الشمالية (نافتا) حيث اُزيلت القيود التجارية المتبقية كافة. ولم يمنع ذلك الاتفاق المستثمرين الأوروبيين واليابانيين فضلاً عن الأمريكيين من تحريك رؤوس اموالهم نحو قوة العمل الرخيص ومعاقله في ماكيلادورز. فقد جرى نصب الآلاف من المعامل الممثلة للصناعات التجميعية على طول الحدود المكسيكية–الامريكية، سواء في صناعة السيارات ام في صناعة السلع الكهربائية وغيرها من السلع المنزلية المعمرة والنسيجية.
من اللافت انه يعبر الحدود المذكورة يومياً رجال الاعمال المترفين ومديري الشركات وكبار المستثمرين بحافلاتهم الفارهة، في حين تحتشد الالاف من قوة العمل المكسيكية بطوابير انتظار (بعد تجميعهم من مناطق عشوائياتهم او مايسمى بمدن الصفيح المجاورة) ليوضعوا في حافلات النقل المتجهة نحو اماكن أعمالهم والممتدة على طول الحدود وعرضها مع الولايات المتحدة الامريكية. وتؤكد الابحاث والدراسات الاقتصادية الدولية ان ظاهرة العمل الرخيص هي ليست بسبب عرض العمل غير المحدود في المنطقة الاقتصادية الحرة (ماكيلادورز) ولكن ذلك يأتي من تشكيلات القوى العاملة غير المنظمة والبعيدة عن النظم الرقابية.
بعبارة اُخرى انها قوة عمالية منتجة لا تخضع لأية معايير رقابية دولية تضمن حقوقها. إذ جُوبهت كل المحاولات التي قام بها العمال في الماكيلادورز لإقامة تنظيم نقابي بالرفض والقمع من جانب الحكومات وارباب العمل على حدِ سواء. ذلك على الرغم من ان اتفاقية (نافتا) قد نصت على ضمان حقوق العمال وحمايتهم بتنظيمات نقابية الا ان ذلك لم يتحقق على ارض الواقع في الماكيلادورز. كما حاولت النقابات العمالية الامريكية الدعوة الى قيام تنظيمات نقابية حرة فيها ذلك رغبة منها في خفض المنافسة ومحاولة لصد تدفق القوة العاملة المكسيكية الرخيصة التي تخترق الحدود المكسيكية شمالاً باتجاه الولايات المتحدة الامريكية، الا ان المحاولات جميعها باءت بالفشل. فالمتطلبات الصحية والبيئية وظروف العمل ومتطلبات السلامة المهنية عُدت جميعها ضعيفة ان لم تكن غائبة. في حين اغمضت الحكومة المكسيكية منذ مطلع القرن الحالي عينيها عن ترخيص قيام التنظيمات النقابية طالما ان الماكيلادورز قد غدت الحاضنة التي تمتص الملايين من فرص العمل المكسيكي وان مواردها المتدفقة بالعملة الاجنبية الناجمة عن صادراتها باتت المورد الثاني المساهم بالنقد الاجنبي للبلاد بعد عائدات النفط المكسيكي مباشرة.
فتشغيل النساء بظروف عمل سيئة هو الجو العمالي السائد الذي يشكل 60 الى 70 بالمئة من اجمالي قوة العمل في الماكيلادورز. وغالباً ما تستخدم النساء القاصرات دون سن 16 سنة واستغلالهن كقوة عمل باجور منخفضة او زهيدة، فضلاً عن سهولة تسريحهن وقت ما تشاء ادارات تلك المصانع.
ان انتشار قوة العمل الأجرية غير المنظمة في ظل عولمة الاسواق قد اضعفت حتى من القوة التساومية لقوة العمل المنظم مع ارباب العمل ولاسيما في المجتمعات الصناعية المتروبولية العريقة في العالم الاول. اذ ادت منافسة القوى العاملة غير المنظمة القادمة من وراء البحار الى تصديع القوة الجمعية لنقابات العمال المنظمة الاوروبية والامريكية. وعلى الرغم من ذلك يتمتع العمال المنتظمين بنقابات العمال في المجتمعات الصناعية القديمة، ممن يتقاضى اجور عالية، بوضع افضل بسبب انخفاض اسعار السلع الاستهلاكية الناجمة عن مساهمة العمل الرخيص المنخفض الاجر، مما يعني تعاظم الاجر الحقيقي لهم.
لذا، فان تدفق عشرات الآلاف من عمال الماكيلادورز المكسيكيين الى الولايات المتحدة كان مصدره عاملين: اولهما، محاولة الدخول في تنظيمات نقابية مؤسسية عُمالية امريكية تتمتع بحد ادنى من الاجر ومحمية بظروف عمل توفرها قوة القانون، وثانيهما، هو التمتع بمستوى معيشي لائق وفائض ادخاري عمالي يمكن ان اطلق عليه مجازاً: (بفائض القيمة الجزئي) ذلك بسبب ارتفاع الاجر الحقيقي الناجم عن انخفاض سلة اسعار السلع الاستهلاكية التي تولد توفيرات هي مُستلبة بالأساس من العمل الرخيص للنساء وغيرهم والتي ولدًها التقسيم الدولي الجديد (المعولم) للعمل عبر حاضنات صناعية تقتضي تشغيلاً غير منظم للعمل منخفض الاجر في اطار ماتمت تسميته آنفاً: بالتعاون الانتقالي الدولي... ولكنه تعاون انتقالي خالٍ من العدالة !. ان مايسمى بجدل القيمة وفائضها ومنظومة الاسعار قد دفع كاتب هذه الدراسة الى التصدي للمشكلات الفكرية في تحول القيم الاقتصادية (Transformation problem) للسلع الصناعية المنتجة الى الاسعار التنافسية وعلى وفق نظرية العمل كمصدر للقيمة ولكن في سوقين صناعيتين مختلفتين احدهما ذات تنظيمات عمالية نقابية والاخرى خالية من التنظيم النقابي وهو ما اطلقنا عليه بفائض القيمة الجزئي والمنوه عنه آنفاً.
5- الاحتكار الرأسمالي يخترع نفسه
يعيش العالم الرأسمالي مجدداً ظاهرة تحول الشركات التنافسية الى كيانات عملاقة وبشكل متسارع. فالعدد السنوي لظاهرة الاندماج والاستحواذ مابين الشركات غدا اليوم ضعف ما كان عليه في العام 1990. وعلى الرغم من صعوبة التفريق بين ظاهرتي (الاندماج والاستحواذ) الا ان الاندماج ينصرف الى الاتحاد القانوني لكيانين يصبحا كيان واحد وبعلامة تجارية واحدة. ويعد الاندماج افقياً اذ كان النشاط متماثل في حين يعد ذلك الاندماج عمودياً اذا كانت النشاطات تكاملية ويتمم بعضها البعض. اما الاستحواذ فينصرف الى قيام احد الكيانات بشراء اسهم شركة اخرى او الهيمنة على راس المال او الاصول كافة للشركة المستحوذ عليها.
وفي الاحوال كافة فان الاستحواذ والاندماج يؤديا في النهاية بان تصبح الاصول والخصوم موحدة في ظل كيان قانوني واحد. وبناءً على ذلك سمي مطلع القرن الحادي والعشرين في الولايات المتحدة الامريكية بانه يمثل فترة الخطى المتعجلة للاندماج والاستحواذ التلقائي وهو امرلم يتحقق بمثل هذه السرعة في تاريخ امريكا الاقتصادي الا قبل مئة عام مضت. فحصة اول 100 شركة أمريكية في تكوين الناتج المحلي الاجمالي للولايات المتحدة ارتفعت من 33بالمئة في العام 1994 لتبلغ بنحو يزيد على 46 بالمئة في العام 2014 في حين تستحوذ خمسة مصارف امريكية على نسبة 45 بالمئة من الاصول او الموجودات المصرفية في الولايات المتحدة بعد ان كانت بنحو 25 بالمئة في العام 2000.
ويلحظ بان التكنولوجيا الرقمية الحديثة قد عجلت من رفع حواجز الدخول الى مجالات السوق الحرة. ولكن وعلى الرغم من ذلك فان فكرة تركز السوق واندماجها كقوة مصححة لنفسها صارت هي الاهم مقارنة بما كانت علية السوق من قبل ولاسيما في مجال الصناعات الرقمية. ففي العام 1990 شكلت ثلاثة شركات لصناعة السيارات الامريكية في ميشغان–ديترويت القوة الرأسمالية المتميزة بالتركز وبرأسمال زاد على 36 مليار دولار وتشغيل قوة عمل تجاوزت المليون ونيف من العاملين الصناعيين. ولكن في العام 2014 ثمة ثلاثة شركات عاملة في حقل صناعة تكنولوجيا المعلومات في منطقة وادي سيلكون الامريكية بلغت تركزاتها الرأسمالية بنحو زاد على واحد تريليون دولار، في حين ان عدد العاملين فيها لم يتعدى 137 الف عامل. فحلم الشركات الصغيرة صار هو الميل نحو الاندماج بالشركات الكبيرة بدلاً من بناء وتوسيع نشاطاتها الانتاجية وتحويلها الى قوى انتاجية عملاقة. ويلحظ ان المشاريع الجديدة او الرائدة اليوم في امريكا هي بمستوى اقل مما كانت عليه في سبعينيات القرن الماضي. فالشركات التي تضمحل بالاندماج او الاستحواذ هي اليوم اكبر من الشركات التي تولد.
فقد ادت القضية السعرية دوراً مهماً في تطور لعبة الاحتكار في تاريخ الشركات المندمجة في العالم. فغاية الاندماجات منذُ نهاية القرن التاسع عشر هي للمحافظة على الاسعار من الانخفاض الذي تسببه قوى المنافسة وقت ذاك. فبين العام 1870 -1917 تشكل العالم الصناعي على وقع نشوء شركات عملاقة كشركات النفط والحديد رافقتها الثورة التكنولوجية الثانية (العصر الفيكتوري) تمثلت باختراع الكهرباء والمحرك الذاتي الدفع، وهو الامر الذي اسس لمرحلة طويلة من الاحتكار القامع للمنافسة. ومنذُ ذلك الوقت قوت الشركات الاحتكارية العملاقة من نفوذها باتجاهين الاول، ابعاد منافسيها خارج قطاع الاعمال والآخر، هو الاحتماء بعلاقات قوية مع السياسيين. وان مثل هذا الاستقواء قد ساعد على تقويض النظام الرأسمالي الليبرالي في عموم العالم الصناعي ولاسيما في اوروبا. وعلى الرغم من ان قانون (شيرمان) الصادر في العام 1890 في الولايات المتحدة قد وضعَ قواعد قوية ضد الاحتكارات ولاسيما التسعير الثابت إلا ان موجة الاندماجات استمرت لتعظيم الربح ولاسيما الاندماجات الافقية السريعة القصيرة الاجل. فخلال المدة 1850 -1905 اختفت اكثر من 1800 شركة صغيرة في الولايات المتحدة مندمجة في نشاطات كبيرة مماثلة وهو ما اطلق عليه بظاهرة (الترستات) والتي تمثلت كذلك بظاهرة الاندماج بين الشركات الكبيرة نفسها.
اما اليوم وفي ظل عولمة رأس المال ونشوء الشركات المتعددة الجنسيات، فقد امست ظاهرة (التسعير المحول - pricing transfer) هي محور تطور الاحتكار العالمي في القرن الحادي والعشرين.اذ ينصرف مفهوم (التسعير المحول) الى عملية تحديد اسعار السلع والخدمات المباعة بين الكيانات القانونية التي تخضع للسيطرة ضمن الشركة الواحدة. فعلى سبيل المثال قيام شركة تابعة ببيع منتجاتها الى الشركة الام، فان كلفة السلع المدفوعة الى الشركة التابعة هي التي تسمى: بالتسعير المحول. اذ ان نسبة 30 بالمئة من الاستثمار الاجنبي المباشر مازال يتركز في مناطق استثمارية عالمية تعرف (بالملاذات الضريبية) والتي تعد واحدة من المرتكزات الاساسية للتسعير المحول وتعني هنا تحديداً ان الشركات الاحتكارية تتذرع بان ارباحها قد تشكلت في مناطق واجزاء اُخرى من العالم ذلك من اجل التهرب الضريبي من خلال العمل في تلك الملاذات الضريبية، الامر الذي قاد الولايات المتحدة الامريكية الى اصدار قانون الامتثال الضريبي في العام 2010 على الحسابات الخارجية المسمى(بقانون FATCA فاتكا) لملاحقة مدخولات وثروات مواطنيها المقيمة خارج الاراضي الامريكية واخضاعها لضرائب الدخل والملكية اينما وجدت في بقاع العالم من اجل التحاسب ومنع التهرب الضريبي ولاسيما للشركات المحتكرة.
ان تعاظم حالات الاندماج بين الشركات وتوليد احتكارات اكبر صار يهدد المنافسة وشرعية قطاع الاعمال واستقرار المستوى القانوني له. فشركات تكنولوجيا المعلومات والشركات المنتجة للبرامجيات باتت اليوم تستقطب مئات الملايين من الزبائن على صعيد العالم سواء بالهواتف الذكية او التطبيقات المختلفة او اجهزة التلفاز الخفيفة المرشقة وغيرها من الاجهزة الرقمية وان المستهلكين للخدمات الرقمية صاروا هم الاخرين اكثر ميلاً بان تتجمع قاعدة معلوماتهم وبياناتهم بأنماط تكنولوجية موحدة في شركاتها، وهو الامر الذي ساعد على تسارع حالات الاندماج بين شركات المعلوماتية وتكوين احتكارات رقمية عملاقة. اذ تؤكد البيانات المتوافرة ان الشركات المتخصصة بتكنولوجيا المعلومات تقدم خدمات مجانية عن تطبيقاتها لمستخدميها في التحري والتوجيه على صعيد الولايات المتحدة واوروبا بكلفة سنوية تقارب من 250 مليار دولار لإدامة نفوذها الاحتكاري على السوق العالمي.
6- الاستنتاجات:
اولاً: ان الرأسمالية تتجه في مرحلة مابعد بريكست الى عولمة نفسها مركزيا وفق نمط آخر يختلف عن العولمة التي سادت الاتحاد الاوروبي بكونها رأسمالية ذات نمط مركزي عابر للقومية والاختلافات اللغوية والاثنية ولدرجة التفاوت في المقدرة الاقتصادية، بالتحول الى اقطاب من الرأسمالية المركزية ذات التجانس اللغوي والثقافات المشتركة. وعليه يمكن ان نتوقع نشوء عولمة رأسمالية مركزية على مستوى العالم الصيني وعولمة رأسمالية مركزية انكلو سكسونية تضم انكلترا والولايات المتحدة وكندا واستراليا ونيوزيلاندا وغيرها. وربما تتطلع فرنسا الى عولمة الرأسمالية الفرانكفونية مركزياً.
ثانيا: اتاحت العولمة الرأسمالية المركزية وما رافقها من حرية في التجارة والتحويل الخارجي وانتقال مرن في العمل وراس المال الى نشوء كيان هيلامي غير شرعي للعولمة الرأسمالية المركزية وهي: العولمة الموازية. فالتحولات الشاذة في النظام العالمي ولدت اسواق موازية عابرة للسيادة والحدود (من مهربي النفط والخامات المعدنية وتجارة السلاح والرقيق والمخدرات وغسل الاموال وتجارة الاعضاء البشرية وطمر المواد الملوثة والمشعة) والتي تقدر عملياتها السنوية بنحو صار يزيد على 5 بالمئة من الناتج العالمي. اذ ولدت تلك العولمة الموازية كيانات سياسية مارقة، تستخدم ايديولوجية عابرة للأمم كالايديولوجية الدينية. فالكيان (الداعشي) الذي يدعي هيمنته على 37 ولاية مزيفة في شتى بقاع العالم هو انموذوج لولادة ظاهرة شاذة اُسقطت من رحم العولمة الراسمالية المركزية كقوة منفلتة. بعبارة اُخرى جسدت داعش ظاهرة لتطور مشوه في النظام العالمي اتخذ من الدين ذريعة ايديولوجية للامتداد واختراق الحدود الرسمية للدول.ذلك لكون الدين ظاهرة عالمية تُسهل امتداده ليشكل نواة موازية لظاهرة العولمة المركزية والتي يمكن تسميتها اصطلاحاُ بالعولمة الموازية اللامركزية.
ثالثا: ربما سيحل حلف شمال الاطلسي محل الاتحاد الاوروبي في العودة الى تجميع قوى عسكرية مختلفة الثقافات بفاعلية اوسع لإداء دورين: الاول: توليد مظلة عسكرية حمائية معولمة مركزية للقوى الاقتصادية الغربية القديمة كالاتحاد الاوروبي والحاق الجيش الاوروبي يسياساته وقراراته اللوجستية والعملياتية. والثاني، تفادي ولادة قوى حربية مستقلة جديدة ناجمة عن القطبية المتعددة للراسمالية المركزية تسمح باستخدام القوة للهيمنة على مناطق النفوذ الجيوسياسي في العالم او الصراع على الاسواق مجددا ومن ثم اعادة انتاج نمط مماثل للحربين العالميتين (الاولى والثانية) والتي كانت بسبب صراعات الرأسمالية المركزية الميتروبولية الاوروبية واليابانية على اسواق العالم ونهب ثروات مستعمراته. لذا قد يتطلب ولادة جيش افقي نظامي معولم يمتلك اليد الطولى في قمع نشوب حروب افقية محتملة داخل المعسكر الرأسمالي المركزي المعولم المستقبلي المتعدد الاقطاب.
رابعاً: فقد ولدَت العولمة الموازية الراهنة حروباً عمودية النمط من خلال تكوين تشكيلات ارهابية مسلحة غير نظامية متمثلة بداعش التي تمتد ساحتها بين سوريا والعراق وشمال افريقيا والخليج العربي وصولاً الى المركز الرأسمالي نفسه.
ختاما، تقود القوات المسلحة العراقية (من الجيش والحشد الشعبي والبيشمركة والتشكيلات العشائرية الوطنية المؤتلفة) حربا عالمية بالإنابة (وبنمط نظامي افقي) لتحرير بلدات العراق ومدنه لإعادة الاستقرار والامن الى النظام العالمي في مواجهة الارهاب الداعشي ذو (النمط العشوائي العمودي) الذي هو وليد العولمة الرأسمالية المركزية وانفلاتها الى ظواهر موازية بأيديولوجيات شاذة معولمة عابرة لسيادة الامم.
خامساً: مازال العالم الصناعي الاول الذي يضم ربع سكان الارض يستحوذ على اربعة اخماس الدخل العالمي في حين يتخبط جنوب العالم الذي يشغل سكانه اربعة اخماس سكان الارض بالحصول على خمس الدخل العالمي... انه الاغتراب الصناعي المستلب لقوة العمل سواء على حدود المكسيك او في النمور الاسيوية وغيرها من بقاع الارض.
ختاماً: تستعين الشركات الاحتكارية اليوم بأذرع عملاقة من جماعات الضغط التي تتخذ من العاصمة الامريكية واشنطن مركزاً عالمياً لها وهي تضم اليوم زهاء 30 الف شخصية من كبار العاملين السابقين في مراكز القرار في الولايات المتحدة والتي تضع خدماتها لمصلحة الشركات الكبرى بالتدخل والتأثير في التشريعات وصنع القرارات...انها الرأسمالية الاحتكارية التي تخترع نفسها وتجدد ثوبها في محيط التكنولوجيا والتحولات السعرية.
اضف تعليق