اعدت الكثير من الدراسات للنزاعات والحروب الداخلية بالمنهج الفرضي الاستنتاجي الذي طوره الاقتصاديون، وقوامه ترشيح فرضيات للتوصل الى نموذج نظري يتخذ شكل العلاقة السببية، ثم تحليل الوقائع احصائيا لاختبار الفرضيات.
ومهما تباينت التصورات النظرية فان المعالجات التجريبية تحاول تفسير حدوث الحروب الداخلية ومدياتها الزمنية بعناصر التكوين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي ولذا تدور حول: متوسط الدخل للفرد والنمو والبنية القطاعية للإنتاج والصادرات؛ ونظام السياسة، بما في ذلك موقع الحكم بين الشمولية والديموقراطية الكاملة، وتداول السلطة ودرجة التشظي الحزبي والفئوي في هيئات الحكم؛ وحجم السكان ونموه وانتشاره الجغرافي؛ والتعليم والعمل والفقر؛ والتفاوت في توزيع الثروة والدخل؛ والخصائص الجغرافية والطبوغرافية للبلد؛ والبنية الاثنية والدينية بين التجانس والتنوع والاستقطاب؛ وتاريخ العنف في البلد المعني؛ ودول الجوار والتدخل الخارجي؛ وغيرها مما تتوفر عنه بيانات. وتهدف الدراسات الى اكتشاف انماط عامة تساعد على التنبؤ لتجنب الحروب او انهائها او تقليل خسائرها.
وقد عالجت تلك الدراسات كما كبيرا من وقائع الحروب الداخلية لجميع الدول ولمدد تتراوح من خمس سنوات الى اربعين سنة. ويجد المتابع ان تلك الحروب تسمى أثنية Ethnic عندما تنشب بين جماعات سكانية، لغوية-ثقافية، ولا تكون الدولة طرفا مباشرا فيها. وتسمى اهلية Civil عندما تدور بين جماعة، اثنية او دينية، والدولة، وقد تسمى تمردا Insurgency عندما يتطور النزاع بين الدولة وجماعة معارضة الى مواجهات مسلحة. اما الارهاب فهو القتل من جانب واحد، تزاوله جهة ليست حكومية يستهدف المدنيين والمنشئات ولا ينحصر في ساحة المواجهة مع القوات المسلحة للدولة، ومن ضمنه استهداف جماعات دينية او اثنية بعينها.
وايضا نجد الكثير من الدراسات تستخدم مفردة الاثنوية بمعنى اصطلاحي فهي شاملة للدين واللغة والعنصر اي انها تتجه لجماعة بشرية بهوية مغايرة، لكنها تختلف عن الارهاب مبدئيا إذا انحصرت بين المنظمات المسلحة او الاجنحة العسكرية للاثنيات المتناحرة.
ومن أشهر تلك الدراسات، التي يشار اليها غالبا، أعدها باحثان برعاية البنك الدولي وهما كوليير وهوفلر ثم نشرت لاحقا في اوراق اكسفور الاقتصادية عام 2004، تناولت الحروب الداخلية بين عامي 1960 و1999. بعنوان " الأطماع والمظالم في الحرب الاهلية".
واختبرت الدراسة نموذج المظالم Grievance ونموذج الاطماع Greed والثاني يسمى ايضا نموذج الفرص. وللنموذج الاول كانت المتغيرات التفسيرية: التنوع الأثني؛ والتنوع الديني؛ والاستقطاب الأثني او الديني؛ والهيمنة الاثنية بالمقياس العددي؛ والديمقراطية؛ ومدة السلام بعد الحرب؛ والطبيعة الطبوغرافية للبلد، جبلية ام منبسطة واحيانا وجود غابات كثيفة تغطي مساحات واسعة من عدمه؛ والانتشار الجغرافي للسكان؛ وحجم السكان؛ والتفاوت في توزيع الدخل؛ والتفاوت في توزيع الارض.
وللنموذج الثاني كانت المتغيرات التفسيرية: صادرات السلع الاولية نسبة الى الناتج المحلي الاجمالي؛ والمستوى التعليمي؛ ومستوى الدخل؛ ونمو الدخل؛ ومدة السلام؛ وفيما اذا شهدت الدولة حربا سابقة ام لا؛ والطبيعة الجغرافية؛ والتنوع الاجتماعي، ديني واثني، وحجم المهاجرين من الدولة في الخارج.
وتوصلت الدراسة الى ان دافع الاطماع والفرص هو الاقوى في تفسير حدوث الحرب الاهلية اي ان الجماعة المحاربة تنظر الى المسألة من زاوية الجدوى او العقلانية العملية عبر مقارنة التكاليف بالمنافع واحتمالات النجاح. فالحرب هنا اداة للوصول الى مكاسب سياسية والسيطرة على الموارد. ولذلك كلما كانت كلفة الفرصة البديلة اعلى انخفض احتمال الحرب، بمعنى إذا تسببت الحرب بانقطاع مصادر دخل للمنخرطين فيها أو للجماعة السكانية الحاضنة للتمرد المسلح، او خسائر اخرى، وكانت تلك التكاليف بمجموعها كبيرة تتضاءل دوافع الحرب. وايضا إذا ساعدت الحرب المسلحين في السيطرة على موارد او تحصل على مصادر تمويل يرتفع احتمال الحرب.
وفي دراستهم، جيمس وليتن، المنشورة في المجلة الامريكية للعلوم السياسية عام 2003 توصلا الى نتائج تؤيد كوليير وهوفلر. وتؤكد عوامل اخرى من اهمها ضعف الدولة والفساد. ولقد تناولت الدراسة المدة بين عامي 1945 و1999 وشملت 161 دولة. ووقعت الحروب الداخلية في 73 من تلك الدول، وعدد الحروب 127 حربا وضحاياها أكثر من 16 مليون انسان. وكان وسيط مدة الحرب الداخلية 6 سنوات. وقد بينت الدراسة ان علاقة الحروب الداخلية ضعيفة بنهاية الحرب الباردة وتغير النظام الدولي، وهي نتاج لتراكم فعل عوامل مغيبة استمرت منذ بداية خمسينات القرن الماضي.
كما انها شككت بالعلاقة المفترضة بين غياب الديمقراطية والحروب الداخلية، اذ توجد دول ديموقراطية تشهد مثل تلك الحروب. كما انها لم تكتشف صلة قوية بين المظالم الاثنية ووقائع الحروب الداخلية لوجود دول لم تشهد مثل تلك الحروب رغم التمييز الاثني والقهر الديني.
ولكن الدراسة ايضا، حسب تعريف المتغيرات وطريقة التحليل، توصلت الى نفي العلاقة المفترضة بين التنوع الديني والاثني والحرب الداخلية. اي ان المتغيرات الثقافية والديموغرافية لا علاقة قوية لها بالحرب.
وعلى حد تعبيرهم، بتصرف يحفظ المعنى، "ليست الاختلافات الدينية والاثنية والمظالم هي التي تحدد الحرب الداخلية بل ضعف الحكومات المركزية، ماليا وتنظيميا وسياسيا، تجعل التمرد المسلح ممكنا وجذابا".
ويبدو ان أثر التنوع الديني والاثني في الحرب يتسم بقدر من التعقيد، فهناك ابحاث استنتجت ان التنوع الواسع مثل التجانس كلاهما من عوامل السلم الاهلي. وذلك لان التحليل الاحصائي عندما لا يكتشف فرقا جوهريا بين التنوع الواسع والتجانس بالعلاقة مع الحرب الاهلية يقال لا صلة للتشظي الاثني–الديني بالحرب.
وقد تمكنت دراسة مونتالفو ومارتا رينال بعنوان "الاستقطاب الاثني، والنزاع المحتمل، والحروب الاهلية" والمنشورة في مجلة الاقتصاد الامريكية في حزيران 2005 من حل هذا اللغز. فقد كانت الدراسات السابقة تعرّف التنوع الاثني باحتمال وجود اثنين من مواطني البلد لا يتكلمون نفس اللغة، وبنفس الاسلوب يعرّف التنوع الديني، وقد تبين ان التعريف الملائم هو الاستقطاب الاثني او الديني وليس التنوع بذاته.
ويظهر الاستقطاب في المجتمعات حيث تكون اقلية، اثنية او دينية، كبيرة في مقابل اغلبية. وللتبسيط في مجتمع 50 بالمائة من سكانه مجموعة دينية او لغوية والنصف الآخر من السكان يتوزع على عدد كبير من المجموعات، او يتكون سكان البلد من ست او سبع مجموعات بأوزان سكانية متقاربة في الحالتين لا يوجد استقطاب. لكن اقلية بنسبة 30 بالمائة من السكان، ومجموعة أكبر نسبتها 60 بالمائة من السكان الى جانب عدد من المجموعات الاخرى الصغيرة في هذه الحالة ينشا الاستقطاب.
وارى ان الاستقطاب ليس في توزيع السكان دينيا او قوميا او غير ذلك بل يتطلب قوة الاحساس بالهوية الدينية او الثقافية او القومية. وقد بينت دراسات اخرى ان التنوع الديني والقومي له نتائج سلبية على النمو الاقتصادي والاستثمار وربما بصورة غير مباشرة يؤثر في عدم الاستقرار. ولكن الحرب الداخلية ترتبط بالاستقطاب وليس مجرد التنوع.
هناك دراسات اخرى رجحت التفسير الثقافي وعندما تعرّف الثقافة بأوسع من الحضارة او المدنية. وتطرح الفرضية الثقافية المعارضة فرضية اخرى تسمى الحداثوية وتنصرف الاخيرة الى العوامل الاقتصادية وتوزيع الثروات والدخول، وبنية الانتاج ومستوى التطور الاقتصادي ومدى الاعتماد على صادرات المواد الاولية... وهكذا. اما الفرضية الثقافية فتولي اهتماما كبيرا بالجانب المؤسساتي السياسي الى جانب التنوع الاثني والديني. لكن هذه المقاربات تعتمد الفهم الليبرالي الامريكي للمشكلة السياسية فهي تتحدث عن الديمقراطية والمشاركة، ولكنها بالنتيجة تستخدم تعاريف للمفاهيم تقيس مدى اختلاف المجتمع عن المعايير الامريكية المعتمدة لدى فريدوم هاوس، وهي لا تراعي النسبية الثقافية، وتخلط عمدا بين مستويات التطور الاجتماعي والاداري والتنظيمي من جهة والنظام السياسي من جهة اخرى.
وعلى سبيل المثال، نيكولاس سمبانيس، في دراسته المنشورة في مجلة حل النزاعات بالانكليزية، ميز بين الحروب الاثنية وغيرها. وقد استنتج ان غياب الديمقراطية، له صلة قوية بحروب الهوية ويقصد بها الدينية والقومية معا. وفي نفس الوقت اكدت التحليلات التي اجراها، لمدة اربعين سنة وشملت 161 دولة، فاعلية التنوع الهوياتي في الحروب الاهلية أي ان هذه المجتمعات أكثر عرضة للحروب الداخلية. ومن نتائج دراسته ان العوامل الاقتصادية اهميتها ضئيلة في تفسير حروب الهويات، وبذلك ينقض الفرضية الحداثوية لتأكيد الثقافة-السياسة.
وبينت المعالجات الاحصائية أثر المنطقة في الحروب الداخلية، وان الجوار الديمقراطي يشجع المعارضة الايديولوجية، ولكنه يخفف من غلواء الاندفاع للحرب. في حين الحروب الداخلية في بلدان الجوار لها أثر العدوى فتساعد على اندلاع حروب اهلية في البلد المجاور. وهذا الاستنتاج الاخير لاحظته الكثير من الابحاث التي تناولت الحروب الاهلية بعد الحرب العالمية الثانية.
وفي دراسة اخرى اجراها ابراهيم البدوي مع سمبانيس بعنوان "التدخل الخارجي ومدة الحروب الاهلية" بالانكليزية. بينت ان التدخل الخارجي يطيل امد الحروب الداخلية.
وفي عام 2016 ظهرت دراسة لابراهيم البدوي وكريستينا بودي نشرت من RESEARCH GATE بعنوان "هل ان الحروب الاهلية والانقلابات والشغب لها نفس الاسباب البنيوية". وقد استخدمت الدراسة نفس المتغيرات التفسيرية لأشكال عدم الاستقرار العنيف الثلاثة، وعند النظر في التقديرات الاحصائية تفاوت تأثير هذه المتغيرات بين الانقلاب والحرب الاهلية والشغب.
وتوسعت الدراسة في تصنيف النظام السياسي حسب درجات الديمقراطية من جهة الانتخابات وتمثيل الفئات الاثنية في التشكيلة الحاكمة. وشملت 149 دولة بين عامي 1950 و2007 وانتهت الى استنتاج اهمية كبيرة للنظام السياسي. ولم تستبعد صحة فرضية حرف يو المقلوب بين احتمال الحرب الاهلية والديمقراطية والذي بينته العديد من الابحاث. بمعنى ان المرحلة الانتقالية بين التسلطية، او الشمولية، والديموقراطية الكاملة يرتفع معها احتمال الحرب الاهلية والشغب والانقلاب، بينما الديمقراطية التامة والشمولية ينحسر معهما احتمال الحرب الاهلية.
ومن الاستنتاجات ان الديمقراطية الكاملة، والتسلطية الجزئية، لا يستبعد معهما الانقلاب. ومع تزايد المجموعات المشاركة في الحكم يزداد احتمال الحرب الداخلية والشغب دون الانقلاب، والمقصود، كما افهم، التعددية الواسعة الحزبية والفئوية في البرلمان والسلطة التنفيذية. وايضا الديمقراطية الجزئية الفئوية تزداد معها فرص الحرب الاهلية والانقلاب والشغب، وايضا الحكم العسكري من عوامل الحرب الاهلية.
وتوصي الدراسة بتهيئة الارضية للديمقراطية قبل التحول اليها، ولكن عمليا كيف يمكن هذا، هل ان الانظمة الشمولية او التسلطية تسمح بذلك ام المقصود بقاء الانقلابيين مدة اطول لحين تهيئة الاسس المناسبة، وهل لدى هؤلاء الاستعداد للتخلي عن السلطة احتراما لرغبة الشعب؟
هذه مراجعة لبعض الدراسات ذات المنهج التجريبي، وهناك الكثير منها لكنها ليست بعيدة في منطلقاتها النظرية واساليب معالجتها للبيانات عن هذا السياق.
وقد اهملت تلك المحاولات على الاغلب وسائل العنف في الحروب الاهلية واين تتجه، وهذه مسائل غاية في الاهمية في حجم الدمار والمآسي. بيد ان كي ام. ثالر في دراسته "الايديولوجية والعنف في الحروب الاهلية"، المنشورة عام 2013 من روتلج، اوضح وعبر استقصائه للمجريات التفصيلية للحروب الاهلية في موزمبيق وانغولا كيف تلعب الايديولوجية الدور الحاسم في الاختيار بين الانضباط وعدم التمييز في توجيه السلاح.
وقد لاحظ ان الجماعة المحاربة التي لا تستهدف المدنيين عمدا تتبنى اصلا ايديولوجية لا تسمح بعدم التمييز. وقد قلل من أثر العامل الاقتصادي في استهداف المدنيين لصالح الايديولوجية. غير انه بين، وهو محق في ذلك، ان جميع الحروب تطال المدنيين بشكل او بآخر لكن الاختلاف في المديات. لان الحروب الاهلية التي تمزق نسيج المجتمع تؤدي تدريجيا الى تآكل القيم الاخلاقية التي تمنع تعريض المدنيين لنيران الحرب. وقد عرّف الايديولوجيا بانها منظومة المعتقدات والقيم المستقرة نسبيا والتي من خلالها تفَسر وتبرر غايات ووسائل الفعل الاجتماعي المنظم. وبغض النظر عما إذا كان ذلك الفعل يهدف الى الحفاظ على النظام القائم او تعديله او الغائه او اعادة بنائه.
وارى ان العنصر الايديولوجي كان فاعلا اساسيا في صناعة مآسي العنف في منطقتنا ولا ينبغي التهوين من دوره ومسؤوليته عما جرى ويجري.
ويلاحظ ان جميع الاسباب التي افترضتها الدراسات لا تفسر الا جزءا من الظاهرة عند النظر في نتائج التحليلات الاحصائية. لأن الحروب الداخلية بأشكالها المختلفة وان اشتركت في بعض الوجوه لكنها تبقى حوادث فريدة مثل فرادة المجتمعات وتشكيلاتها الاثنية والدينية، وتاريخها السياسي، واوضاعها الاقليمية، وتعامل السياسة الدولية مع تلك النزاعات ومقدماتها.
وقد يساعد الاطلاع على مثل هذه الجهود في الانفتاح على التناول الموضوعي لمسلسل العنف في بلادنا، وعدم الاصرار على تبرير الارهاب وسفك دماء الابرياء من اجل مطالب صغيرة وحجج ضعيفة. فالدكتاتورية وحدها لا تقود الى الحروب الاهلية والارهاب، والديمقراطية في مرحلة انتقالية ليست سببا بذاتها للعنف بل لأن الحكومة ضعيفة لا تستطيع فرض القانون. كما ان الحروب الداخلية ليست دائما بسبب الظلم والطغيان، ولا الجماعات المتمردة بالضرورة تنشد العدالة والديمقراطية، بل ربما تبحث عن نفوذ أكبر او انفصال او غير ذلك. ولا يخفى ان التدخل الخارجي، اقليمي ودولي، والاستقطاب على اسس دينية او قومية من شانها خلق البيئة المساعدة للعنف.
كما ان التغذية المتبادلة والصاعدة بين الحروب الداخلية وضعف الحكومة ومختلف اوجه الفساد والفشل، لا يمكن انكارها، بل ان هذه النتائج من اهداف التمرد المسلح والارهاب لتبرير المزيد من الحرب والقتل. والحروب الداخلية هي تولد الظلم، لأن العدالة وحقوق الانسان ورعاية الضعفاء هذه لا مكان لها في ساحة الحرب. والحروب الدينية والاثنية وعمليات الارهاب تعني ان الوطن بأكمله أصبح ساحة للحرب. وفي هذه الاوضاع تزداد المظالم بسبب الحروب ذاتها، وتضيع فرص النماء والازدهار، وبالتالي تؤسس الحرب لمزيد من نوعها. والبداية الصحيحة نبذ العنف السياسي والديني والقومي والتخلي عن الارهاب، والتزام الوسائل السلمية والانسانية لمتابعة المطالب المشروعة.
اضف تعليق