يعد الفساد والارهاب وجهان لعملة واحدة بكل أشكالهما وصورهما وهما من الظواهر الخطيرة التي تواجه البلدان، حكومات وشعوب، ويهددان امن المجتمعات وحياتها واستقرارها، ويعيق عمليات النهوض والبناء والتطور والتنمية، حيث يدمر الفساد والارهاب الاقتصاد وقدرة الدولة المالية، واصبح الفساد في وقتنا الحاضر مشكلة دولية عابرة...
اعداد: أ.م.د. إســـماعيل نــعمة عبــود-كلـــية القـانون – جامــعة بابـل
بحث مقدم الى مؤتمر (الاصلاح التشريعي طريق نحو الحكومة الرشيدة ومكافحة الفساد) الذي اقامته مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام وجامعة الكوفة/كلية القانون 25-26 نيسان 2018
اولا:- المقدمة:-
يعد الفساد والارهاب وجهان لعملة واحدة بكل أشكالهما وصورهما وهما من الظواهر الخطيرة التي تواجه البلدان، حكومات وشعوب، ويهددان امن المجتمعات وحياتها واستقرارها، ويعيق عمليات النهوض والبناء والتطور والتنمية، حيث يدمر الفساد والارهاب الاقتصاد وقدرة الدولة المالية، واصبح الفساد في وقتنا الحاضر مشكلة دولية عابرة للحدود بفعل انتشار عمليات غسيل الاموال المتحصلة من جرائم الفساد والتي يلجا اليها الجناة لغرض التخلص من المسؤولية الجنائية داخل بلدانهم، ولم يقتصر الامر على ذلك فقط بل اصبحت الاموال المتحصلة من الفساد من المصادر الرئيسية لتمويل العديد من العمليات الارهابية ولأسباب مختلفة منها ماهو سياسي ومنها ما هو ذات بعد دولي اخر ومما زاد من التعقيدات التي تواجه مكافحة الفساد على الصعيد الوطني، لذا كان لزاما ايجاد طريقة معينة في منع كلا الجريمتين، والتعاون الدولي في هذا المجال هو افضل طريق لمنع استخدام الاموال المتحصلة من جرائم الفساد وغسيل الاموال في عمليات تمويل الارهاب.
ويهدف هذا البحث الى بيان مفهوم الفساد واهم صوره وفقا لاتفاقية مكافحة الفساد، ومن ثم ابراز اهم صور ذلك التعاون الدولي والتي تتمثل بــ: -
1-التحفظ على اموال الفساد المهربة وتجميدها.
2- مصادرة الاموال المتحصلة من جرائم الفساد لغرض استردادها.
3- المساعدة القانونية المتبادلة.
بالاضافة الى ذلك سيتم التطرق لاهم معوقات التعاون الدولي في مجال استرداد الاموال ومنع استخدامها في تمويل الارهاب.
ثانيا: هدف البحث:-
1-التعريف بالفساد وبيان صور التجريم لأفعاله الواردة في اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد التي صادق عليها العراق في عام 2007
2- بيان اوجه وصور التعاون الدولي في مجال استرداد الاموال ومنع استخدامها في تمويل الارهاب.
3- بيان اهم المعوقات التي تواجه التعاون الدولي في المجال المشار اليه في اعلاه
4- اقتراح افضل السبل لإنجاح ذلك التعاون.
ثالثا:- مشكلة البحث
تتركز مشكلة البحث ضمن فقرتين:-
الاولى:- الموائمة التشريعية بين الاتفاقيتين والنقص التشريعي في اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد كونها لم تشر ضمن نصوصها على حالة غسيل الاموال لأغراض تمويل الارهاب.
الثانية:- وتتركز في معوقات التعاون الدولي بين الدول في عمليات التحفظ والمصادرة على الاموال المتحصلة من جرائم الفساد ومنها (اختلاف التشريعات المعاقبة على جرائم الفساد بين الدول، السرية المصرفية، والحصانة القضائية).
رابعا:- منهجية البحث:
سنتبع في كتابة هذا البحث المنهج التحليلي الوصفي لنصوص الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بالموضوع كونه الاقرب والانسب لموضوع البحث.
خامسا:- هيكلية البحث
سنقسم البحث الى ثلاثة مباحث نتناول في المبحث الاول مفهوم الفساد وصوره في ضوء اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2007، وفي المبحث الثاني صور التعاون فيما بين الدول، امــا المبحث الاخير فسنخصصه لاهم المعوقات التي تعترض ذلك التعاون، ثم نختم البحث بأهم النتائج والتوصيات المتعلقة بالموضوع.
المطلب الاول
مفهوم الفساد وصوره في اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2007
سنقسم هذا المطلب الى مبحثين نبين في الاول مفهوم الفساد وفي الثاني بعض صوره.
الفرع الاول
مفــهوم الفـساد
من الصعوبة بمكان ايجاد تعريف محدد ومتفق عليه للفساد لأن الفساد متعدد الجوانب والمفاهيم وحسب الزاوية التي ينظر إليه من خلالها بالإضافة لعدم وجود منهج موحد لدراسة ظاهرة الفساد واختلاف وجهات النظر في تحديد مدلوله بين مجتمع وآخر[1]، اذ ان مايعد في مجتمع ما فسادا قد لا ينظر اليه كذلك في مجتمع اخر، وبالتالي ترتب على هذا التعدد وجود أكثر من تعريف للفساد ومن جوانب نواحي مختلفة. [2] فهو من الناحية الاجتماعية يعني انتهاك قواعد السلوك الاجتماعي فيما يتعلق بالمصلحة العامة، إما من الناحية الاقتصادية فان الفساد يعني النشاطات التي تدر ريعا من خلال استغلال الموقع الوظيفي من قبل الموظف غير النزيه. وقد عرف علماء النفس الفساد بأنه خلل في النظام ألقيمي للفرد والمجتمع، مما يؤدي إلى اتخاذ سلوكيات منحرفة عن النظام السليم.[3]
أما الفساد الإداري، فقد عُرف بأنه الانحراف عن الالتزام بالواجبات القانونية الملقاة على عاتق الموظف العام واستغلالها للمصلحة الشخصية بدلا من المصلحة العامة. [4] إلا إن ما يهمنا في هذا الصدد هو بيان واستجلاء مفهوم الفساد من الناحية القانونية الدولية، لارتباط ذلك الفساد بالنصوص الواردة في اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2003، فهنالك اتجاه يذهب إلى إن الفساد يدل على حالات انتهاك النزاهة وإساءة استعمال السلطة العامة، إذ عرف البنك الدولي الفساد بأنه استخدام الوظيفة العامة لتحقيق منافع خاصة، أو الاستغلال السيئ للوظيفة العامة، أي الرسمية من اجل تحقيق المصلحة الشخصية.
أما الاتجاه الأخر، فيرى إن الفساد لا يقتصر على إساءة استعمال السلطة العامة في نطاق القطاع العام، بل يرى إن الفساد يبرز وينتشر بصورة كبيرة ومؤثرة في القطاع الخاص وفي مؤسسات المجتمع المدني بالإضافة للقطاع العام أو الوظيفة العامة، لذا فان منظمة الشفافية الدولية عرفت الفساد بصورة عامة بأنه إساءة استعمال السلطة الموكلة لتحقيق مكاسب خاصة.[5]
ويتحقق الفساد هـنا من خلال الاستفادة من السلطة الممنوحة للشخص واستغلالها سواء كانت في القطاع العـــام أو الخاص لتحقيق مكاسب شخصية، له أو لأحد أفراد عائلته أو لجهة معينة يعمل لحسابها، وهـــذا ما تأكد فعلا في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2003 عندما لم تورد تعريفاً محدداَ للفساد، بل انصرفت إلى الإشارة إليه مـن خلال بيان الحالات التي يتحقق فيها الفساد عن طريق ممارسات فعلية على أرض الواقع ومن ثم القيام بتجريم هذه الممارسات وهي الرشوة بجميع وجوهها وفي القطاعين العام والخاص والاختلاس بجميع وجوهه والمتاجرة بالنفود وإساءة استغلال الوظيفة وتبييض الأموال والكسب (الإثراء) غير المشروع وغيرها من صور الفساد الأخرى.[6]
الفرع الثاني
صور الفساد في اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2003
جاءت الاتفاقية اعلاه ببعض الصور التي تعد من جرائم الفساد، وامتازت بكون بعضها غير مجرم في بعض التشريعات الوطنية، وهذه الجرائم وبصورة مختصرة هي:-
1-جريمة الرشوة:- ولهذه الجريمة صورتان هي رشوة الموظف العام الوطني حيث نصت على ذلك المادة (15) من الاتفاقية، والصورة الثانية وهي رشوة الموظف الاجنبي او الموظف الدولي حسب المادة (16) من الاتفاقية، ويقصد بالاخير (هو كل شخص يشغل منصبا تشريعيا او تنفيذيا لدى بلد اجنبي....او يمارس وظيفة عمومية لصالح بلد اجنبي)[7] وهذه الصورة لاتختلف عن الصورة الاولى الا في صفة جنسية المرتشي لكونه اجنبي.
2- جريمة الاختلاس:- وهي من الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة وخيانة الموظف لامانته على الاموال العامة وتمثل اهدارا لها، ونصت على تجريم هذه الصورة المادة (17) من الاتفاقية بالقول (تعتمد كل دولة طرف ما قد يلزم من تدابير تشريعية وتدابير اخرى لتجريم قيام موظف عمومي عمدا لصالحه او لصالح شخص او كيان اخر باختلاس او تبديد اي ممتلكات او اوراق او اموال مالية عمومية او خصوصية او اشياء اخرى ذات قيمة عهد بها اليه بحكم موقعه او تسريبها بشكل اخر)
ويظهر مما تقدم ان الاتفاقية حصرت هذه الجريمة بالموظف العمومي الوطني دون الاجنبي، وهو ما يختلف عن جريمة الرشوة التي سبق بيانها.
3- جريمة الاتجار بالنفوذ:- ولقد حددت هذه الصورة المادة (18) من الاتفاقية من خلال قيام موظف او اي شخص اخر باستغلال نفوذه المفترض او الفعلي للحصول على منافع او امتيازات غير قانونية من سلطات الادارة او السلطات العمومية.
4- جريمة غسل الاموال:- بسبب سهولة حركة رؤوس الاموال بالاستناد الى وسائل التقدم العلمي في مجال الصيرفة، وخوفا على مصير تلك الاموال، فقد جرمت الاتفاقية غسل الاموال المتحصلة من مصادر غير مشروعة مثل جرائم الفساد، وذلك في المادة (23) من الاتفاقية من خلال تجريم بعض الصور ومنها:-
1-ابدال الممتلكات او نقلها مع العلم انها عائدات اجرامية.
2-اخفاء العائدات الاجرامية او تمويهها بإخفاء مصدرها او مكانها او كيفية التصرف بها او حركتها او ملكيتها او الحقوق المتعلقة بها مع العلم انها عائدات اجرامية.
3-اكتساب العائدات الاجرامية او حيازتها او استخدامها مع العلم انها عائدات اجرامية.
4- المشاركة في ارتكاب اي فعل من الافعال السابقة او التعاون او التآمر على ارتكابه.
5- عرقلة سير العدالة، من خلال التأثير على العدالة واعاقة سيرها، كما في حالة التأثير على الشهود باستخدام جميع وسائل التأثير عليهم سواء كانت مادية او معنوية، او من خلال التدخل في اعمال الموظفين القضائيين والعاملين بأجهزة انقاذ القانون وحسب ما جاء في المادة الخامسة والعشرين من الاتفاقية. [8]
المطلب الثاني
صور التعاون الدولي لاسترداد اموال الفساد لمنع استخدامها في تمويل الارهاب
لا شك ان اموال الفساد تلعب دورا كبيرا في تمويل الجماعات الارهابية، وخصوصا اذا ما كان هنالك ارتباطا وثيقا بين تجار الفساد وتلك الجماعات الارهابية، حيث تعتمد الاخيرة على امكانيات مادية كبيرة في تنفيذ عملياتها، وبدى ذلك واضحا من حجم الدمار التي تحدثه تلك العمليات الارهابية بالبنى التحتية التي تم استهدافها، وامام هذا الوضع الخطير كان لابد من ثمة جهود محلية ودولية لاسترداد الاموال المهربة والمتحصلة من جرائم الفساد، لمنع استخدامها في تلك الاعمال الارهابية، ومن خلال ملاحظة التشريعات الدولية واهمها اتفاقية مكافحة الفساد لعام 2003 حيث جاء في ديباجتها ان القلق المتزايد من حالات الفساد التي تتعلق بمقادير هائلة من الموجودات التي يمكن ان تمثل نسبة كبيرة من موارد الدولة والتي تهدد الاستقرار السياسي والتنمية المستدامة لبعض الدول، بالاضافة الى الجهود المحلية في العراق لاسترداد تلك الاموال وكما يأتي:-
الفرع الاول
التحفظ على اموال الفساد (تجميد الاموال)
عرفت الفقرة (هـ) من المادة الثانية(العائدات الاجرامية) بانها اية ممتلكات متأتية او متحصل عليها بشكل مباشر او غير مباشر من ارتكاب جرم. لذلك يعد التحفظ او حظر او تجميد الاموال والعائدات المتحصلة من جرائم الفساد من اهم الاجراءات التي يجب على الدول المهرب اليها تلك الاموال القيام بها كاجراء اولي، ويعرف التجميد او الحجز بانه (فرض حظر مؤقت على احالة الممتلكات او تبديلها او التصرف فيها او نقلها او تولي عهدة الممتلكات او السيطرة عليها مؤقتا بناءا على امر صادر من سلطة مختصة اخرى).
ويعتبر التحفظ او التجميد من من الاجراءات التحفظية على العائدات الاجرامية لمنع تهريبها الى جهة اخرى ويتم بطلب من الدولة الطالبة بناءا على حكم قضائي صادر من جهة مختصة او بناءا على امر اداري صادر من سلطة قد تكون غير قضلئية، ولقد نصت المادة (31) من الاتقاقية في فقرتها الثانية على ضرورة التعاون الدولي في مجال التحفظ او الحجز على العائدات الاجرامية من خلال اتخاذ كل دولة طرف ما قد يلزم من التدابير للتمكن من كشف اي من الاشياء المشار اليها في الفقرة الاولى من هذه المادة او اقتفاء اثره او تجميده او حجزه لغرض مصادرته في نهاية المطاف، وكذلك نصت المادة(54) من الاتفاقية على اجراءات مهيئة للمصادرة وتكون سابقة لها.
ويبدو من النصوص اعلاه ان الدولة المطلوب منها المحافظة على اموال الفساد تكون ملزمة بذلك قانونا، لكن ما الحكم لو امتنعت تلك الدولة او رفضت القيام بذلك الالتزام؟
بينت الاتفاقية بانه في مثل هكذا حالات فانه يحق للدولة الطالبة للأموال اللجوء الى التفاوض مع تلك الدولة، فإن لم تصل معها الى نتيجة معينة، جاز لها اللجوء الى التحكيم الدولي في هذا المجال، فإذا تعذر ذلك ايضا جاز لها عرض الموضوع على محكمة العدل الدولية من خلال طلب يقدم اليها وفقا لنظام المحكمة الاساسي.[9]
الفرع الثاني
المصادرة للعائدات الاجرامية
حددت المادة (55) من الاتفاقية بعض الاجراءات المتعلقة بحق الدولة الطالبة ذات الولاية القضائية بمصادرة اموالها المنهوبة، فاشترطت تقديم طلب الى الدولة الاخرى لغرض مصادرة امول الفساد (العائدات الاجرامية، مشفوعا بقرار قضائي بالمصادرة ويجب ان يستند طلب المصادرة على الادلة الكافية التي تؤيد وتثبت حصول جرائم الفساد التي تحصلت منها العائدات الاجرامية المهربة والمراد مصادرتها، اذ يتوجب على الدولة الطالبة ان ترسل تلك الادلة ووسائل الاقناع الى الدولة الاخرى، ويجوز وفقا للاتفاقية رفض مصادرة او الغاء الاجراءات التحفظية المشار اليها في الفرع السابق، اذا لم تحصل او تقتنع بالأدلة المقدمة مع الطلب وحسب الفقرة 7 من المادة 55 من الاتفاقية.
وكذلك يجب على الدولة المطلوب منها المصادرة وحسب المادة (31) من الاتفاقية اتخاذ تدابير لغرض كشف عائدات الفساد وتتبع مصيرها ومعرفة فيما اذا تم تحويل تلك الاموال الى ممتلكات اخرى لغرض مصادرتها.
وهنالك نوع اخر للمصادرة يسمى بالمصادرة المستعجلة والتي تتخذ من قبل الدولة المطلوب منها استرداد الاموال والعائدات المتحصلة من جرائم الفساد، وتكون في الحالات التي لا يمكن فيها ملاحقة المتهم بجرائم الفساد بسبب الوفاة او الفرار او الغياب او في حالات اخرى مناسبة. وان الاجراء في هذه الحالة لا تتطلب ادانة جنائية بل تتم بناءا على طلب من الدولة الطالبة.[10]
ومما تجدر الاشارة اليه ان واضعو نصوص الاتفاقية لم يتطرقوا لا من قريب او بعيد الى مسألة استخدام الاموال المهربة في تمويل الارهاب، وبالتالي كان من المفترض ان يكون هنالك نصا يجيز للدولة المطلوب منها الاسترداد بان تقوم بالمصادرة المستعجلة لتلك الاموال والعائدات اذا تبين وجود ادلة او امارات تشير الى استخدامها في تمويل العمليات الارهابية.
الفرع الثالث
المساعدة القانونية المتبادلة
يمكن تعريف المساعدة القانونية المتبادلة بانها التعاون فيما بين الدول في اطار اتفاقية الامم المتحدة او اية اتفاقية ثنائية او جماعية في اطار استرداد العائدات المتحصلة من جرائم الفساد من خلال التحقيقات والملاحقات والاجراءات القضائية في هذا الاطار.
وتعد هذه الوسيلة من ابرز صور التعاون فيما بين الدول في اطار مكافحة جرائم الفساد، ويكمن اساسها القانوني في المادة (46) من اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد والتي نصت على ان تقدم الدول الاطراف الى بعضها البعض اكبر قدر ممكن من المساعدة القانونية المتبادلة في التحقيقات والملاحقات والاجراءات القضائية، وهذا النص يمكن ان يشمل جميع الاجراءات التي يمكن ان تتخذ في البلد مصدر الاموال المهربة من حيث التحري وجمع الادلة والملاحقة لتلك الاموال او مهربيها او من خلال اجهزة الدولة المهرب اليها تلك الاموال. لكن السؤال الذي يثار بهذا الصدد كيف يمكن للدولة متلقية الطلب بالاسترداد تقديم المساعدة في هذا الجانب؟
اجابت الفقرة الثانية من المادة (46) من الاتفاقية على ذلك بالقول بان(تقدم المساعدة القانونية على اتم وجه ممكن بمقتضى قوانين الدولة متلقية الطلب ومعاهداتها واتفاقياتها وترتيباتها ذات الصلة فيما يتعلق بالتحقيقات والملاحقات والاجراءات القضائية الخا صة بالجرائم....) ويلاحظ على النص اعلاه مايلي:-
1-امكانية تفضيل قانون الدولة متلقية الطلب في اطار اجراءات الاسترداد
2-امكانية تفضيل الاتفاقيات والترتيبات الثنائية او الجماعية للدولة متلقية الطلب على اتفاقية مكافحة الفساد
وللمساعدة القانونية المتبادلة صور عدة منها:-
1-المساعدة القانونية بناءا على طلب:- ومن مظاهر هذه المساعدة القانونية الطلب للحصول على افادات وادلة الجريمة فيما يخص الاموال المهربة او اثبات الجريمة، او قد تطلب الدولة من الاخرى القيام بفحص بعض المواقع والاشياء وتقديم معلومات وتقارير للخبرة في هذا الاطار، بالإضافة الى استرداد الموجودات او اي نوع اخر من المساعدة وبما لا يتعارض مع قانون الدولة متلقية الطلب.
وثمة تساؤل اخر مفاده هل ان المساعدة القانونية هنا تكون ملزمة للدولة متلقية الطلب ام لا؟
نجد للإجابة على هذا التساؤل ان الفقرة الثامنة من المادة (46) من الاتفاقية الزمت الدول الاطراف بضرورة تقديم ما لديها من سجلات مصرفية او حكومية او مالية او تجارية او سجلات الشركات او المنشآت او نسخ مصدقة منها، ويبدو ان السبب في ذلك لتتبع الاموال المهربة ومعرفة امكانية تقييد تلك الاموال ضمن السجلات المذكورة في اعلاه.
2- المساعدة القانونية الذاتية:- وتتم بدون طلب يقدم في هذا الصدد حيث اشارت لذلك الفقرة الرابعة من المادة (46) من اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد عندما اجازت للدولة المعنية من خلال سلطاتها المختصة ان ترسل معلومات ذات صلة بمسائل جنائية الى سلطات مختصة في دولة طرف في الاتفاقية عند التيقن بان هذه المعلومات تساعد تلك السلطات في للقيام بالإجراءات التحقيقية بنجاح دون المساس بقانون تلك الدولة مقدمة المساعدة.
3- المساعدة بناءا على شرط:- وقد تكون هذه الصورة بناءا على طلب ولكن مشروطة بعدة شروط من قبل الدولة المطلوب منها تقديم المساعدة، ومنها شرط الكتمان والسرية للمعلومات المقدمة للدولة الطالبة وعد افشائها ولفترة معينة قد تكون طويلة او قصيرة، ولكن الدولة متلقية الطلب يمكنها افشاء بعض المعلومات ذات الصلة اذا كان من شان تلك المعلومات تبرئة متهم وبعد اشعار الدولة المشترطة لذلك.[11]
المطلب الثالث
معوقات التعاون الدولي في مجال استرداد الاموال المتحصلة من جرائم الفساد
ان استرداد الاموال المهربة الى الخارج ليس بالأمر السهل من الناحية العملية وهو ما تعاني منه اغلب الدول المتضررة من الجرائم من هذا النوع، وخصوصا بعد عبور تلك الاموال حدود الدولة، لذلك تواجه تلك العملية العديد من الصعوبات والمعوقات منها ماهو تشريعي يتعلق بتشريعات البلد المطلوب منه تسليم تلك الاموال او اتخاذ اي اجراء بشأنها، ودى توافقه او تعارضه مع تشريعات الدولة الطالبة، او منها ما يتعلق بضعف التعاون الدولي بين البلدين من حيث تبادل المعلومات والخاصة بتلك الاموال او مهربيها، يضاف الى ذلك تمتع اغلب الجناة بالحصانة القانونية لدى البلد الاخر عند لجوئهم اليه بعد ارتكابهم لجرائم الفساد مما يمتنع معه امكانية ملاحقتهم قضائيا لتمتعهم باكثر من جنسية.
وفي جانب اخر فإن السرية المصرفية الخاصة بعمل المصارف وكذلك غياب الشفافية في النظم المالية والاجرائية في مكافحة غسل الاموال تمثل اهم المعوقات في اطار تتبع واسترداد تلك الاموال. وهو ما سنبينه في الفروع الثلاثة الاتية:
الفرع الاول
المعوقات التشريعية
وفي هذا الاطار تتمثل تلك المعوقات اما بالنقص التشريعي (الفراغ لتشريعي) او تعارض التشريعات فيما بين الدولتين، الدولة طالبة الاسترداد والدولة المطلوب منها التسليم، وهو ما يمكن ان نسميه بالتعارض التشريعي فيما بين الدولتين.
وفي هذا الصدد نجد ان اتفاقية الامم المتحدة نصت على مجموعة من الالتزامات على عاتق الدول الاطراف فيما يتعلق بتسهيل عمليات مصادرة واسترداد الاموال المتحصلة من جرائم الفساد، حيث جاء في المادة (57) من الاتفاقية من ان على الدول الاطراف ان تعتمد ووفقا للمبادىء الاساسية لقوانينها الداخلية ما قد يلزم من تدابير تشريعية وتدابير اخرى لتمكين سلطاتها المختصة عندما تتخذ اجراءا بناءا على طلب دولة طرف اخرى من ارجاع الممتلكات المصادرة وفقا لأحكام الاتفاقية مع ضرورة مراعاة حقوق الاطراف حسنة النية.
ومما تقدم يتضح لنا انه في حالة وجود فراغ تشريعي لدولة طرف في الاتفاقية، بحيث لا يتضمن نظامها الداخلي نصوص تتعلق بالالتزامات الخاصة بالاسترداد والتسليم فان تلك الدولة ملزمة باتخاذ اجراءات تشريعية او اية اجراءات اخرى ضرورية بما يتوائم مع نصوص الاتفاقية لتسهيل عمليات المصادرة وتسليم العائدات الاجرامية.
ومن المعوقات الاخرى في هذا الصدد والتي قد تعيق استرداد الاموال هي مسألة التعارض التشريعي فيما بين نصوص التشريعات الداخلية لكل دولة طرف في الاتفاقية وخصوصا فيما يتعلق بإجراءات التحقيق والتحريات والضمانات الخاصة بحقوق الانسان المدنية ومنها على سبيل المثال الحق في الملكية واجراءات الحجز والتفتيش وتقديم الادلة الخاصة بالإثبات وتقديم الادلة الكتابية والمستندات المتعلقة بجرائم الفساد، لذلك فان بعض الدول تشترط مسبقا في مجال المساعدة القانونية ولغرض استرداد الاموال المنهوبة التجريم المماثل من قبل الدول الاخرى، اي ان يكون الفعل (جريمة فساد) في كلا الدولتين، وفي حالة تعذر ذلك فإننا سنكون امام تعارض تشريعي يمثل عائقا امام التعاون الدولي في مجال استرداد الاموال المتحصلة من جرائم الفساد.
والسؤال هنا، ما هو الحل في مثل هكذا حالة؟
اجابت اتفاقية الامم المتحدة على ذلك في المادة (46/7) بالقول بانه يتم تنفيذ الطلب وفقا للقانون الداخلي للدولة الطرف متلقية الطلب، وكذلك وفقا للاجراءات المحددة في الطلب، كما ينفذ بالقدر الذي لا يتعارض مع القانون الداخلي للدولة الطرف متلقية الطلب وحيث ما امكن وفقا للاجراءات المحددة في الطلب بالاضافة الى ذلك فان الاتفاقية كانت قد اشارت الى امكانية عقد اتفاقية ثنائية بين بلدين لغرض تبسيط الاجراءات القضائية في مجال سماع الشهود والخبراء في جرائم الفساد، وكذلك قيام تلك الدولة بتجريم الافعال المنصوص عليها في المواد (15-25) من الاتفاقية لغرض تضييق نطاق الافلات من العقاب.
وثمة اشكالية اخرى قد تمثل عائقا في مجال استرداد الاموال يتمثل في كون الدولة المطلوب منها التسليم لم تكن طرفا في الاتفاقية؟
والجواب على ذلك نجد ان بعض الدول تعتمد على ما منصوص عليه في تشريعاتها الداخلية في عملية اعادة الاموال او تقاسمها بين الدول.
او قد يتم اللجوء الى الاتفاقيات الدولية المعقودة بين الدول ومنها ما نصت المادة (13/9) من اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية والتي تنص على ان تنظر الدول الاطراف في ابرام اتفاقيات او ترتيبات ثنائية بشأن اقتسام عائدات الجرائم او الممتلكات المتأتية من بيع عائدات الجرائم المنصوص عليها في الاتفاقيتين وفقا لقوانينها الداخلية او اجراءاتها الادارية المنصوص عليها وعلى اساس منتظم وحسب كل حالة ووفقا للمادة (80/3) من الاتفاقية.
الفرع الثاني
الحصانة من الملاحقة
من السمات التي يتصف بها القانون وخصوصا الداخلي هو العمومية والشمولية وسريان احكامه على الجميع دون استثناءات، الا انه وفي بعض الاحيان وخصوصا في الدول التي تتستر على المسؤولين الفاسدين، نجدها تلجا الى منح بعض الحصانات القانونية الى فئات معينة من الاشخاص مما يساعد على افلاتهم من العقاب، او في بعض الدول نجد ان المسؤول المتهم بجرائم الفساد يتمتع باكثر من جنسية فاذا ما تم المطالبة بمساءلته فر من البلد الى البلد الاخر الذي يتمتع بجنسيته الثانية لغرض الافلات من العقاب لتعذر اتخاذ الاجراءات القانونية بحقه لانه من مواطني بلد اخر.وهذا النوع من الحصانة يمكن ان نسميه بالحصانة الحكمية.
والسؤال هنا كيف عالجت اتفاقية الامم المتحدة هذا الموضوع؟
لقد نصت المادة (30) من الاتفاقية في فقرتها الثانية على ان على كل دولة طرف ان تتخذ وفقا لنظامها القانوني ومبادئها الدستورية ما قد يلزم من تدابير لارساء او ابقاء توازن مناسب بين حصانات او امتيازات قضائية ممنوحة لموظفيها العموميين من اجل اداء وظائفهم وامكانية القيام عند الضرورة بعمليات تحقيق وملاحقة ومقاضاة فعالة للأفعال المجرمة وفقا لهذه الاتفاقية.
ويبدو ان سبب منح تلك الحصانات وكما هو واضح من النص هو لتمكين أولئك الموظفين من اداء اعمالهم، ولكن يؤخذ على ان هكذا نص يشكل عيبا تشريعيا بصورته المطلقة وكان الاجدر ان يقيد وان يسمح لملاحقة اولئك المسؤولين المتهمين بجرائم فساد. بالاضافة الى كونه يخرق مبدا المساواة ومبدأ سيادة القانون.
الفرع الثالث
السرية المصرفية
تعد مسالة السرية المصرفية من اكثر المعوقات التي تواجه التعاون الدولي في مجال استرداد الاموال المتحصلة من جرائم الفساد، وقد تعد من اهم العوامل المؤثرة والمساعدة في انتشار جرائم غسيل الاموال (المتحصلة من مصادر غير مشروعة مثل الاتجار بالمخدرات او جرائم الفساد المالي والاداري او اي نشاط اخر يدر ارباحا دون التقيد بمعنى محدد لمصدر تلك الاموال.[12] وقد يكون الغرض منها تمويل العمليات الارهابية بشكل خاص.[13]
وتعد السرية المصرفية من اهم ركائز العمل المصرفي والتي بموجبها تمتنع المصارف عن افشاء المعلومات المتعلقة بالعملاء، او انها الواجب الملقى على عاتق المصرف بعدم افشاء الاسرار التي حاز عليها بحكم وظيفته وفقا للقانون والتي يتوجب عليه التكتم عليها، بحيث يعاقب اذا افشاها.[14]
ان ما تم بيانه في اعلاه يمثل القاعدة العامة في العمل المصرفي، الا انه وبفعل تنامي جرائم الفساد المالي وتهريب رؤوس الاموال للخارج، فقد اصبحت السرية المصرفية الغطاء شبه القانوني لعمليات نهب الاموال من قبل كبار المسؤولين بفعل تبيض تلك الاموال، والتي قد يتم استخدامها فيما بعد في تمويل العمليات الارهابية، لذلك اضحى من الواجب وضع قيود على مسالة السرية المصرفية لغرض ابداء التعاون الدولي في مجال استرداد الاموال المهربة، لذلك جاءت الاتفاقية بنصوص تمثل خروجا عن مبدأ السرية المصرفية، فقد نصت المادة (31/7) على انه ولأغراض هذه المادة والمادة (55) من الاتفاقية تخول كل دولة طرف محاكمها او سلطاتها المختصة الاخرى ان تأمر بتقديم السجلات المصرفية او المالية او التجارية او بحجزها، ولا يجوز للدولة الطرف ان ترفض الامتثال لأحكام هذه الفقرة بحجة السرية المصرفية، وكذلك جاءت المادة (40) من الاتفاقية تنص على امكانية تطويع قوانين السرية المصرفية لمتطلبات التحقيق الجنائي في احدى جرائم الفساد.
مما تقد يظهر ان الاتفاقية جاءت بنصوص صريحة تجيز الخروج عن قواعد السرية المصرفية فيما يتعلق بالجرائم المثبتة بها لكونها جرائم غسل الاموال او جرائم فساد مالي، ولكن يؤخذ على الاتفاقية اعلاه انها لم تنص على حالة وجوب الخروج عن تلك القواعد السرية وبصورة فورية اذا ما كانت هنالك امارات او اشارات تدلل ان مصير تلك الاموال سيؤول لتمويل الارهاب. وهذا ما يدعونا الى الدعوة لتعديل نصوص الاتفاقية بما يتلائم مع ما تم بيانه فيما سبق.
النتائج والتوصيات:-
1- تبين من خلال ثنايا البحث ان الاتفاقية حددت طريقين لمصادرة العائدات الاجرامية، الاول بناءا على طلب مشفوعا بقرار قضائي، والثاني بناءا على طلب في الحالات المستعجلة وبدون قرار قضائي، ولم تتطرق الاتفاقية الى مسألة تهريب الاموال لغرض تمويل الارهاب، ولذلك نوصي بان يتم ادراج هذه الحالة ضمن نصوص الاتفاقية او في الاتفاقيات الثنائية في مجال استرداد الاموال وان يتم مصادرة تلك الاموال بالصورة المستعجلة وبناءا على الطلب فقط دون القرار القضائي لخطورة الغرض الذي هربت الاموال من اجله.
2- في اطار المساعدة القانونية المتبادلة من حيث اجراءات التحري والتحقيق وتعقب الاموال المهربة وجدنا ان الاتفاقية قد اجازت للدول الاطراف ان تفضل قوانين الدولة متلقية الطلب بالاسترداد او الاتفاقيات الثنائية على نصوص الاتفاقية، ومن خلال هذا المجال والجواز القانوني نوصي الى ان تتضمن الاتفاقيات الثنائية في مجال الاسترداد ما يأتي:-
أ-ضرورة التحفظ على الاموال المهربة وحجزها بمجرد تقديم طلب من الدولة صاحبة تلك الاموال اذا كانت هنالك اشارات ودلائل لاستخدامها في تمويل الارهاب.
ب- حجز الاموال بصورة فورية اذا كان المتهم بجرائم الفساد يحمل جنسية اكثر من دولة، وكانت الدولة المطلوب منها التسليم احدى تلك الدول.
ج- اذا كانت الدولة المطلوب منها التسليم راعية للارهاب.
3- اشارت الاتفاقية الى مسألة الحصانة القضائية لبعض المسؤولين والموظفين في مجال اداء اعمالهم، ونوصي الى عدم شمول المتهم بجرائم الفساد وله صلة بتمويل الارهاب وبناءا على ادلة قانونية.
4- تبن ان قواعد السرية المصرفية تشكل عائقا امام معرفة مصير الاموال المهربة، ونوصي بان يتم تعديل نصوص الاتفاقية وتضمينها نصا يجيز الخروج عن تلك القواعد اذا كان الغرض من تهريب الاموال تمويل الارهاب وبناءا على اسانيد قانونية.
اضف تعليق