المقدمة:
لم يختفِ الصراع من الحياة... ولا يتوقع له ان ينتهي في يوم من الايام، رغم كل الخطابات والمنادات والمحاولات التي يتبناها القوى المحبة للخير والسلام والتعاون والعمل الصالح، من اجل تحقيق تعايشا سلميا.
فالخلافات والصراعات كحقيقة ازلية تفرز مستجداتها وتطوراتها واهتماماتها السياسية والاقتصادية والامنية والعسكرية... والثقافية والاتصالية والاعلامية، مما يتطلب تبني مسؤوليات جادة من قبل صناع القرار والمسؤولين عن برامج السياسات العامة للدولة.
فاذا كان البعض ينادي بالتعايش السلمي كهدف انساني قيمي في المجتمع خاصة وبين المجتمعات عامة، فان هناك مسؤوليات كبيرة وملزمة تقع على عاتق العمليات الاتصالية والاعلامية تتحدد في ترسيخ قيم التعايش والمحافظة على استمراريتها بين الناس واشاعة المشاعر والتقاليد والاعراف التي تبلور مفاهيم التعايش السلمي في معانيها الدينية والدنيوية.
اذن هناك مسؤوليات ثابتة تتولاها المؤسسات الاتصالية والاعلامية، كجزء من المهام السيادية والدستورية في الدولة، ومتابعة ومراقبة المتغيرات السلوكيةالتي يفترض العمل على تحويلها من حالاتها السيئة الى حالاتها المفيدة والصحيحة ودفعها نحو الاحسن والافضل.
ان هذه العلاقة بين العمليات الاتصالية والاعلامية وبين موضوع التعايش السلمي انما هي من صميم مفاهيم الدولة الحديثة وعلاقتها مع قضية الانسان العراقي الذي يعيش اصعب ظروفه بل انها ايضا قضية الانسان في كل مكان وزمان، (الاحتياجات، وطموحاته الشخصية، القلق والعلاقات مع ذاته ومع الاخر ومع المؤسسات ومع التاريخ والزمن ذاته)، وواقع المسؤوليات المشتركة التي تتضمن الحقوق والواجبات في اطار نظام الدولة وقوانينها، وهذا ما نعنيه بالتفاعلية الاجتماعية: (interactionism social ).
والبحث يضع تساؤلا معاصرا لقضية التعايش السلمي وهو: (هل تتمكن العمليات الاتصالية والاعلامية ايجاد متغيرات سلوكية لدى البنية الاجتماعية العراقية وفق مفاهيم وقيم الهوية الوطنية والمواطنة الصادقة؟، لتاسيس تعايش عفوي ينبع من القناعة والثقة والايمان به كحقيقة اجتماعية ايجابية في الحياة العراقية.
فالمهام الاتصالية والاعلامية في علاقتها مع التعايش السلمي في العراق تبدا من الاحساس بالاشكالية، كبداية لمعرفة التصور المستقبلي للمجتمع العراقي كحقيقة اجتماعية ايجابية تتضمن السلام والاستقرار والتقدم والرفاهية والمحبة وتعزيز الهوية والسيادة الوطنية.
وتفرض السلوك الاجتماعي التفاعلي الذي يخدم اعادة خلق الحقيقة الاجتماعية هذه.. مقابل الرد ورفض ونبذ المظاهر السلبية التي تتضمن التفرقة والتناحر والخلافات والصراعات والحروب الاهلية. ووضع المحاذير لما تخلفه هذه المظاهر من حالات كالتخلف والتاخر والحقد والكراهية والاضطراب وفقدان الهوية والسيادة الوطنية.
ان هذا المدخل الوظيفي للعمليات الاتصالية والاعلامية، يقدم افكارا مجردة تساعد في كشف السلوك الكلي الايجابي للمجتمع العراقي والتنبؤ به...
والذي هو بالنتيجة يخدم عدد كبير من المدخلات الوظيفية لبقية العمليات في برامج السياسة العامة للدولة.
أولاً:ماذا نقصد بالمسؤولية الاتصالية والاعلامية؟...
نقصد بالمسؤوليات الاتصالية هي كل عملية (كلية) تتضمن الاتصال والعلاقة بين الحاكم والمحكوم وبين الفرد والمجتمع وبين الفرد والبيئة المحيطة به وبين الفرد ونفسه، ونقصد بالمسؤوليات الاعلامية هي كل عملية وظيفية (جزئية) تتعامل مع الواقعة والحدث زمانا ومكانا.
ان هذه المسؤولية تتحدد في تشخيص وتوصيف المشاهد والاحداث اليومية والمستمرة الصغيرة والكبيرة، للافراد والفرد باعتبار الواقع الميداني يظهر لنا السلوك الكلي والجزئي ويتطلب درجات محكمة في الدقة لمعرفة طبيعة التفاعل او التنافر في السلوكيات الكلية والجزئية الايجابية والسلبية. الامر الذي يتوجب الاخذ بنظر الاعتبار ما يلي:-
1- طبيعة السلوك العام المسبب للحدث، هل مع التعايش ام ضده؟.
2- تحديد وتشخيص الافراد المساهمين في الحدث الداعي للتعايش او الرافض له.
3- تقييم العلاقات الاجتماعية التي تقف موقفا ايجابيا او سلبيا من حقيقة التعايش السلمي.
ان الاستفادة من تكنولوجيات الاتصال والاعلام والتدريب عليها وامتلاك الخبرة والمهارة الجيدة اصبحت ذات اهمية كبيرة في تنظيم هذه المسؤوليات، وجعلها قوة اساسية في المجتمع العراقي.
ان ادخال العمليات الاتصالية والاعلامية في نطاق (المسؤولية) تعني ان يتم ايجاد مجموعة من القوانين والتعليمات والضوابط التي يمكن ان تكون ثابتة عندما تتغير الاحداث والسلوكيات وتنحرف عن مسارها الايجابي، فلقد اسهمت الكثير من المؤسسات او الوكالات الدعائية في محاولاتها العدائية والتخريبية بزرع الفتنة والفرقة والخلافات بين الفئات الاجتماعية العراقية ووظفت لذلك الاساليب والبرامج والتمويل المالي لاستهداف ذهن المتلقي (المواطن)، فعملية فهم وادراك الاضرار والمخاطر واتخاذ الاجراءات المسبقة للسيطرة على الحدث تعتبر من اهم المسؤوليات التي تتولاها المؤسسات الاتصالية والاعلامية في العراق من اجل ايجاد نظام مسؤول ينظم ويثبت العلاقات الاجتماعية في مضامينها المدنية والحديثة والانسانية ويمكن ان نسمي هذا (تقنية التنظيم الاجتماعي). لان التقنية الاجتماعية المنظمة لا تنحصر في اطار تبادل او نقل المعلومات بين الافراد، وانما في اطار عملية التفاعل والتواصل الذاتي في فهم الافكار والتحاور بها مما يعطي الحراك الاجتماعي طابعا مستمرا وملازما وملزما باهمية التعايش السلمي، كضرورة لاستخداماته الاجتماعية، وهذا يجعل عملية فهم التعايش السلمي كحقيقة ثابتة مشروعة وليست مجرد حدث طارئ غير مشروع. لهذا فالمسؤوليات الاتصالية والاعلامية تعتبر شرط اساسي لاستمرارية تقنية التنظيم الاجتماعي، ضمن المتطلبات السياسية لاية دولة، باعتبارها لسان حال منتظم للحكومة التي حصلت على ثقة الشعب عبر الممارسة الديمقراطية والانتخابية.
ان استخدام العمليات الاتصالية والاعلامية المرونة والمجاراة التي تنسجم مع المنهج الملائم للتعايش السلمي، لفترة قصيرة او لموضوع او موضوعين، يعد من متطلبات المسؤولية من اجل الاهداف المركزية التي تتحدد في اطار تثبيت قيم وتقاليد ومبادئ التعايش السلمي عبر جميع الرسائل الاتصالية، والعمل بهاكاستراتيجية للخطاب الوطني وجوهره وهذا ينسحب على مسؤوليات السلطة الحكومية لتثبيت اطر البرامج والمواضيع ومتابعتها وفق القوانين والتعليمات وتقريب الحقائق واستبعاد غير الملائم منها.
ان الواقع السياسي لتشكيل الحكومة العراقية اصبح امرا لابد من اخذه بنظر الاعتبار في عزل حالات التفاوت في وجهات النظر السياسية واختلافاتها، يتطلب استبعادها من اجل تقليل انعكاس ذلك على اليات برامج المسؤولية الاتصالية والاعلامية واضعافها.
ان تثبيت المسؤوليات الاتصالية والاعلامية في نطاق ترسيخ الهوية الوطنية والمواطنة وحقوقها وواجباتها وابراز اهمية التعايش السلمي في العراق كمنهج يزيل ويقلل من المظاهر السلبية في العلاقات الاجتماعية واشاعة الثقافة الحقيقية للتعايش، وجعل المتلقي رغم انتماءاته وميوله المذهبية او العرقية او السياسية.. يظل يبحث عن حقيقة التعايش السلمي وبعين فاحصة في اطار علاقاته الاجتماعية، بل انه يتمرد لصالح اهمية التعايش والهوية الوطنية، خصوصا في اجواء الازمات والصراعات التي تضر بأمنه واستقراره ورفاهيته.
ثانيا:ضرورة الاعتقاد بالتعايش السلمي.
ان الاعتقاد بامكانية التعايش السلمي بالعراق انما ينطلق من طبيعة المجتمع العراقي وخصائصه الاجتماعية عبر سلسلة من الدلالات والاستنطاقات والذي اشرت ان الاتجاه والرغبة لدى الفرد والافراد نحو التعايش اعلى واكبر من مؤشر الاتجاه نحو التفرقة والتناحر.
فالاعتزاز بالانتماء لهوية معينة قد يجعل الفرد امام مسؤولية ابراز الهوية وعرضها واشهارها.
وبعكس ذلك فان اللا تعايش هو هيمنة اجواء من الشك والريبة وعدم اطمئنان المكونات القومية والعرقية والدينية لبعضها البعض، لا بديل عن التعايش الانساني والاخاء غير العنف والدمار والقتل وهو ما حصل ويحصل اليوم بكل اسف.
وفي مؤشر غير احصائي يمكن مراجعة علاقات المصاهرة الاجتماعية والعلاقات الاقتصادية والتجارية والزمالة الدراسية والتربوية والتعليمية في اطار قطاع التربية والتعليم والتي تتم بعيدة عن تاثيرات المذهب والعرق، ولعل الهوية الوطنية والثقافية للمجتمع العراقي كانت قد اجهضت وافشلت برامج التفرقة والتناحر والخلاف خلال فترات السيطرات الاستعمارية من قبل دول متقدمة الى جانب عدم حصول عمليات اندماج مع ثقافات وايدلوجيات الاطراف الاستعمارية، ويبقى المجتمع العراقي محافظا على عاداته وتقاليده وقناعاته الايجابية، حتى ترسخت كمعتقد وطني بان التعايش كمجتمع مندمج ومزيج واحد تجمعهم الاجراءات والاهداف في الحياة.
ان المعتقدات تمثل نظرتنا للوجود الاجتماعي وان هذه المعتقدات الاجتماعية السلمية توفر امكانية المجتمع العراقي ان يعمل بشكل صحيح وما يتفق عليه وباجتماعية عالية اي ان هذا الامر يستند على الاعتقاد بالاشياء الصحيحة والصادقة والمفيدة التي يؤمن بها المجتمع العراقي مرورا بالاشياء التي تحتاج الى التاكد منها وفحصها وتقديرها كسياق ينسجم مع التعايش السلمي العراقي.
ان التعايش السلمي موضوع مرتبط بالاعتقاد اولا ويصبح سلوكا ملموسا عندما يعبر عنه الفرد والافراد ويتصفون بموجبه كمبدئ قيمي وطني.
ولكن تبقى المشاعر الوطنية (كقوة هادئة) في المجتمع معيارا لخلق معتقدات راسخة وقوية يصعب ازاحتها او تغييرها والى الحد الذي يتبنى المجتمع العراقي بكل افراده الى التصدي الى كل من يحاول ان يخرب ويفكك الاعتقاد الراسخ بالتعايش السلمي.
ان الادراك الحسي للهوية الوطنية ينبع من فهم المجتمع للواجب والحقوق ولعاداته وتقاليده ولذكرياته المتراكمة.
هذا الادراك الحسي يجعل المجتمع في حالة من الاهتمام اليومي لموضوع التعايش السلمي، بالوقت نفسه ان هذا الاهتمام قد يتعرض الى التناقص أو التناقض أو الاضطراب نتيجة تباين مستوى المعرفة والوعي لدى الجماعات او الافراد وللتجارب والاحداث السابقة والقائمة والمتوقعة.
من هنا يتطلب توسيع الادراك الحسي بوسائل تنظم عمليات الاتصال مع البيئة الاجتماعية، وان هذه المسؤوليات كعمل منظم ومركب معاً، لا يمكن البدء بها دون ان تتكون لنا فكرة عن طبيعة الوحدات الاجتماعية ومستويات العلاقة بينهما.
فالوحدات الاجتماعية في المجتمع العراقي هي المدخل الاساسي لعملية الاتصال والاعلام ونقطة البداية في اعتبار المجتمع حقيقة مادية تتطلب ايجاز تحليلي لوضع المسؤولية في اطارها العلمي، وبذلك نفرز المستوى الاجتماعي كصورة كلية عن الشخصية (الفرد) كصورة جزئية، فالاولى متعددة الاصول وذات تاريخ وطبائع وانماط سلوك تتفوق على الثانية (كسيرة شخصية).
فالمسؤوليات الاتصالية والاعلامية تصبح ملازمة مع الحياة الاجتماعية لاحياء التعايش السلمي وليس كنتيجة او استجابة للحافز او الاثارة الشخصية، وكما يعتمده ويستخدمه الخصوم في خطاباتهم الدعائية الموجهة الى المتلقي العراقي.
اذن هذه المسؤوليات هي نشاطات انتاجية تتعامل مع المعلومات لغرض بثها واستلامها وخزنها ضمن النظام الاجتماعي، وتزيد من قابلية المجتمع على تبني سلوكيات متقدمة في التعايش السلمي وتمنحه قدرة على التنبؤ المسبق للاحداث الضارة لكي تجعل التعايش السلمي حالة مستمرة في المجتمع.
ثالثا:الاجراءات الاتصالية والاعلامية:-
تتوسط الاجراءات الاتصالية والاعلامية بين تاثير الاعتقاد بالتعايش السلمي من قبل المجتمع وبين المسؤوليات الاتصالية والاعلامية التي تقرها الدولة..
فاذا حصل هناك اتفاق مشترك على الاجراءات تتحقق نتائج ايجابية، اما اذا لم يحصل اتفاق او تطابق مع الاجراءات او لم تستند هذه الاجراءات على فعل رسمي او قانوني تصبح النتائج سلبية في حماية وصيانة التعايش السلمي وصعوبة اشاعته في المجتمع العراقي.
وفي جانب من حالات الخلل التي تصيب الاجراءات الاتصالية والاعلامية انها تتجه اضطرارا او نفاقا الى ممارسة المحاباة والتستر التعتيم والتحريف والتجاهل للمعالجات المنطقية والعلمية، الامر الذي يجعل الاطراف الاتصالية والاعلامية تفقد مصداقيتها وحياديتها، وتتقاطع في عملها مع المواثيق والشروط الدستورية التي تم تشريعها وتدوينهالتأخذ مفهوم (المنهج) الذي يعالج متطلبات المسؤولية لمدة زمنية طويلة، لهذا يعد من المهم جدا ان تتواجد عمليات الرقابة الاتصالية والاعلامية للسيطرة على حركة وسريان مضامين (المنهج) من جهة وتصفية او تنقية المعلومات والرسائل المرسلة والتأكد من سلامة معانيها وغاياتها، وبطبيعة الحال كلما كانت الرقابة ذات مضمون اجتماعي ينسجم مع المضمون السياسي للدولة.. تصبح الرقابة عملية تقويم وتطوير وتجدد.
اضف تعليق