تأليف: روبار تيرفوداي1
ترجمة: د. زهير الخويلدي
هل يكون القلق، بالمعنى الهيدجري لهذا المصطلح، نبرة أساسية معزولة؟ وألا ينعتق الدازاين حينما ينثني على ذاته في العزلة 2؟ تتمثل فرضيتنا في أن القلق الكاشف عن الإنية لا يقطع مع دازاين الآخرين. لا يتم اكتساب الذات ضد الآخرين ولا من غير الآخرين. إن كل مسارنا يرنو إلى التحقق من صحة هذا التأويل. نشرع في القيام بثلاث خطوات. نبين في البداية أن القلق الهيدجري لا يتضمن لا نفي ولا حرمان للآخر. يُكوِّن الدازاين القلق وحيدا لأنه يكتشف نفسه وحيدا في مواجهة الآخر. بعد ذلك نثبت هذه النقطة بمناقشة بعض الأبعاد من القراءة السارترية لمؤلف هيدجر. في النهاية نرسم الخطوط العريضة لمقارنة بين القلق حسب هيدجر والقلق حسب كيركجارد.
الإنية والبيذاتية
بالأخذ بعين الاعتبار التمييز الهيدجري بين الأناوحدية الوجودانية والأناوحدية الكلاسيكية، ينبغي التفريق بين نمطين من الوجود مع: النمط الأصيل والنمط غير الأصيل.3 لنبدأ بالالتفاتة في اتجاه الوجود اليومي. من حيث هو وجود في العالم بشكل حدثاني، فإن الدازاين يكون في وجود مع دازاين الغير. من خلال عالم الأشياء المفهوم، فإن الآخر يفهم على نمط الموجود المستمر، انه يدرك في نمط وجوده هناك مع من خلال عالم الأشياء. الدازاين بصورة خاصة يذوب في نمط وجود الآخرين، بحيث يتم إذابة كل تفرقة. يلتزم الهُم بنمط وجود اليومية. إن الإشهار يسلب الدازاين من تحمل كل قرار ومن كل مسؤولية، إلى حد تحمل الوجود. كل واحد يترك للهُم أن يقرروا من أجله بدل أن يصدق قراره الخاص. الهُم يفرغ الدازاين من القلق من أن يكون في وجوده الخاص، وهذا الأخير يقايض القلق من مخاوف مطمئنة.
إن سلطة القلق هي بالتحديد في التفريق بين ماهو غير أصيل وماهو أصيل، بإظهار أن الدازاين هو وجود مع. انه الخوف وليس القلق، الذي يفسر هذا الاندفاع من طرف الآخر على قاعدة الموجود المستمر: الدازاين الخائف يلتقي بالآخر من حيث هو موجود في متناول اليد، بينما يكتشفه، في القلق، من حيث هو موجود في العالم. إن سؤال المَن حسب الوجود في حد ذاته المحطم في الهُم ليس النقطة النهائية للسؤال عن النحن في علاقتها مع الغير. من الواجب التمييز بين الوجود مع غير الأصيل وعين الذات الأصيلة. إن الوجود مع هو قبل كل شيء الهُم، ولكن هيدجر لا يختزل الغير إلى المكان المحبذ للنثر. يقوم بدفع نقد سيلان الفردي في المجتمع التافه إلي حده بتجاوز مرحلة الاجتماعي التاريخي من أجل بلوغ البعد الأنطولوجي.
يمر تملك الذات بواسطة فك الاغتراب عنها، والقلق هو النقطة الأرخميدية للتملك الأصيل للذات. إن القلق المفرد، يحرر الذات من نير الهُم والعلاقات المغلوطة مع الغير. إذا كان الدازاين الخاص في انسحاب بالمقارنة مع الآخرين، فإنه لا يقطع مع الغير. هذه هي كل الإشكالية الأنطولوجية للأناوحدية الوجودانية: لو كان في القلق إمكانية الانفتاح المحبذ، فلأن القلق يعزل. هذه العزلة تقود الدازاين من عابريته échéance وتسمح للأصالة واللاأصالة بأن يتجليا من حيث هما إمكانيتين لوجوده. هذه إمكانيات الأساسية للدازاين التي هي في كل مرة خاصة بنا تُبَيِّنُ نفسها في القلق من حيث هي في حد ذاتها- غير مخفية بواسطة الموجود داخل الدنيوي الذي يتعلق به أكثر من مرة منذ الوهلة الأولى.
يجد الدازاين القلق نفسه في حيرة غريبة وجزئية. هذه الحيرة هي إمكانية فهم نمط عابريته. إنها تعيد قذفه نحو ما يسبب له القلق، نحو القدرة الأصيلة على الوجود في العالم. يكشف المزاج الحجاب عن العلاقة الحقيقية معه. وعندما يكتشف الدازاين العالم من حيث هو عالم. فإن هذه القطيعة تفك قفل الوصول إلى الغير. إن الدازاين القلق هو هذا الهُناك، مكان الوجود مع. إن هناك الدازاين يؤشر حضور الغير 4. أن نطلب عما يكونه السؤال عن الوجود، هو إذن أن نتساءل عن حضور الآخر. بواسطة القلق المقبول فإن الدازاين يخترق الأناوحدية التي كان الهُم قد أحاط بأسوارها. قصد التحرر من الهُم، يصل الدازاين القلق إلى حد وجود مع في ذاته، خارقا إذن الوجود مع. حسب هيدجر، الوجود مع هو تكويني للوجود في العالم. الدازاين هو ملكية من أجل الوجود، ووجود بالنسبة إلى الذات. هذا هو معنى الأناوحدية الوجودانبة: الدازاين هو دائما وحيد في علاقته مع الغير، ولكن وحيد لا تعني أنه بلا غير.
دحض التأويل السارتري للإنية:
لقد أفلتت أصالة الدازاين من مواجهة الغير عند سارتر في كتابه نقد الوجود مع حسب هيدجر. انه ليس الغير من حيث هو توسط ضروري بين الأنا والأنا نفسه 5 الذي يعطي إنيتي بنيتها بصورة مباشرة، بل إنه الوجود مع الذي يضع شروطا لعلاقتي الخاصة مع الغير. أن نقول بأن الإنية تنسكب من علاقتي مع غيري، أليس هو طرح الذات بوصفها مجرد نتيجة لموقعي وجها لوجه مع الغير؟ إذا كانت الإنية متأخرة على علاقتي مع الغير، فإن عين الذات لم تعد موضوعا. يرفض هيدجر اعتبار العلاقة مع الذات من هذه الزاوية. لقد تم وضع الدازاين في عين ذاته على نمط الحدثية. لقد وقع الإلقاء به في عين ذاته مع غيره التي كان قد أقرها. فكيف يتسنى للأنا الدخول في علاقة مع ذاتي لو أنه لم يكن بشكل متقدم منفتحا بشكل الأصيل على وجودي مع؟ إذا اختفى الوجود مع أليس بوصفه الوجود معا هناك؟
على الرغم من تجارب مثل التضحية والحب والمحبة والاستحقاق، لا أحد يريد أن يعيش أو يموت مثلي أو بالنسبة إليَّ 6. إن الإنية مرفوعة في القلق هي وجودانية، طابع أنطولوجي لوجود الموجود الخاص بنا دائما. الخصوصية الوجودانية ليست سلب الوجود معا الخاص بالدازاين. ان الأناوحدية ليست الحرمان البنيوي من الوجود مع، وإنما هي تأسيس له، بما أن علاقتي مع الآخر تتعلق بعلاقتي مع وجودي.
لكن مشكل الآخر لم يقع حله لهذا كله، لقد تم نقله إلى مكان آخر، في الحقل الأنطولوجي، ولذلك ساء. ألم يتمكن هيدجر من إجراء عودة إلى الآخر في العلاقة البيذاتية عندما نزع الجانب النفساني عن الغير من أجل أنطلجته؟ إلى هذا الاعتراض، نجيب بأن تحليلية الوجود مع تجري صعودا إلى أسس البيذاتية. ليس ثمة تعارض بين العزلة والاجتماعية: إن الدازاين القلق تم فردنته وجمعنته في الحركة ذاتها. إنها ليس أبدا العزلة البطولية لإثبات الذات في تناهي الوجود. فرادة الإنسان لا تفرض عليه أن يتيبس حول أناه الصغير الضعيف، الذي تجاوز من قبل هذا أو ذلك الذي يحمل العالم7. لا يرجع القلق إلى أنا معزول، ولكن إلى إرادة وجود في العالم مع موجودات في العالم أخرى. بالقياس إلى أن الوجود في العالم ينتمي الى تكوينه الأساسي، فإن الدازاين الموجود تكون بالأساس وجود مع الغير من حيث هو وجود بالقرب من الموجود الدنيوي الداخلي8. أن توجد مع الغير يعني أن توجد مع موجود آخر في العالم، موجود مطابق مع العالم9. انه هو منذ الوهلة الأولى هو عالم مقتسم مع الغير.
يبدو من غير كاف البحث عن حل لمشكل الأناوحدية من خلال العودة إلى مجرد علاقة الأنا بالأنت10. إن علاقة الأنا بالأنت من حيث هي علاقة دازاين بدازاين لا تُدرَك إلا من خلال التحديد الأنطولوجي للوجود، لوجود الدازاين من حيث هو كائن حاضرا مشتركا في العالم. أن يتم تقييم رهان الحضور المشترك للأنت في نظر الإمكانيات الحدثية هو مشكل آخر: هذه الصعوبة لا تكشف عن التحليل الوجوداني، الذي يستمر على السطح الدقيق الأنطووجوداني، ولكن للتحليل الأنطو وجودي الذي ينتمي إلى الأنثربولوجيا المتعينة. إن الدازاين هو موجود مع الغير بمعنى الأنا ذاته مع الأنا ذاته11.
يكون ذلك بسبب أنه يوجد في العالم الذي يحمله في اتجاه الآخر حسب إمكانيات وجوده. لكن الدازاين يُنسى بارتباطه بالغير عن طريق علاقة وجودية للأنا-الأنت. بإظهار أن دكتاتوريي هيدجر قد أولوا العلاقة مع الغير من خلال التعايش الوجودي غير الأصيل، يمكننا إذن استعادة نقده. انه لا يتم بلوغ الوجود مع بشكل ملائم إلا على قاعدة الإنية المتناولة وجودانيا من حيث هي صوب عين ذاتها12.
هذا المنعطف، هو الذي ينقص سارتر، الذي حسب رأيه: الأنا المطلق يبلغ الوجود لذاته بواسطة القلق. عند هيدجر، الوجود مع يذيب الوجود ذاته في لحظة القلق، الخضوع للتحول، لا يتم، كماهو الشأن عند سارتر، بتغيير الذات عينها من أجل حيازة نظرة مغايرة عن الغير، بل انه، بواسطة الوضع المتداخل للقلق، يتحول إلى الآخر في البعد الحواري13، وليس على نمط المعرفة.
القلق ليس الإحساس بالوجود المطرود من الجماعة، كيف تمكن هيدجر، بعد أن قام بإثبات وجود الدازاين القلق بشكل دائما خارج ذاته نحو الغير، من التفكير في الحصر المقلق للدازاين في الذات؟ أطروحة \"الدازاين هي وجود منفتح بشكل منتظم\" تمنع من الاحتفاظ به في الانثناء على الذات. يذهب النقد الهيدجري للوعي في المعنى الذي يتخلي به عن الأنا المنعزل. إن الوعي، بالمعنى السارتري للكلمة، يكرس الدازاين إلى الأناوحدية بعزله ضمن سجل حيث لا يظهر له الآخر إلا بصورة عرضية. إن القلق يقوم بخوصصتي، ليس بجعلي أنغلق على ذاتي نفسها، بل بفتحي على الآخر. هكذا فإن الوجود مع لا يوقع على علاقة محدثة مع الغير، بل ينتمي إلى بنية انفتاح الدازاين. يجب التمييز بين الكائن الوحيد والوحدة. إن الدازاين غير الأصيل مشتت، وهذا التشتت هو بنية الهُم. إن الطرد الأقصى نحو الذات، التخلي عن الذات يصبح مستحيلا. لا يمكن للدازاين اليومي أن يعرف التجميع. ماهو وحيد لا يمكنه أن يعرف الوحدةǃ تحوز هذه الأخيرة على سلطة أصلية، ليس على الانعزال، بل على إلقاء الدازاين، بسلبه كل الروابط غير الأصلية، في الجوار الواسع لماهية كل شيء. إن الأنية mienneté التي تنكشف في القلق هي الوجود- المجموع للدازاين. هذا الوجود – المجموع يتعارض مع الوجود- المشتت. نحن إذن نحن بعيدين جدا من تعظيم الوحدة.
تختزل بعض القراءات الوجود مع إلى الوجود تحت اليد وتعتبر النقد الهيدجري للوجود-الواحد -مع- الآخر يفترض أن يظل الدازاين الأصيل منعزلا solitaire. لكن، قبول تفردنا لا يبرز العدوانية hostilité تجاه الآخر، بل حسن الضيافة hospitalité. انه بترك الوجود – الآخر في وجوده تقوم الدازاين بالارتقاء إلى وجودها الخاص في حقل الإمكانيات، لأن النقطة القصوى للقلق هي قلق أمام الآخر14. إن الأناوحدية الوجودانية تعني أن الدازاين قُيد إلى ضرورة الانزعاج من ذاته. غير أن، الدازاين ليس حرا ومسؤولا إلا من حيث هو مكرها على الاعتناء بذاته بالاعتناء بالآخر كليا. إنها المواساة sollicitude التي لم يرها سارتر.اللاّتواصلية لا تترتب عن المحتوى الذاتي للتأثير، بل من استحالة التواصل من حيث فعل الوجود ek-sister من أجل الذات عينا. لا تختلط الأناوحدية إذن مع الربونسوية أو مع بغض الجنس البشري.
حاز الدازاين أيضا على مساعدة الآخر في الاعتراف به في إنيته. إن الأمر يتعلق بمنح الواحد إلى الآخر إمكانية الالتقاء في الحقيقة. يقع اكتشاف الأفراد القلقين في ضعفهم الأصلي، ويفهمون أن فعل الوجود ek-sister بشكل أصيل يعرض البعض مع الآخرين. لا يكتفي القلق بالكشف عن الدازاين في إنيته الأصيلة، وإنما أيضا يرفض الإنية غير الأصيلة. إن الدازاين يختبر نفسه وحده على النمط غير الأصيل لأنه محتكر بواسطة الموجود، وباحتمائه بين مواضيع العالم فإنه ينتهي إلى نسيان حضور الآخر الذي يختزله إلى منزلة الشيء. القلق، بإظهاره وجود إمكانيات أخرى لفهم الآخر، يكتسب بعدا اجتماعيا. انه يدرج الدازاين في جماعة من الأفراد في علاقات متكاملة تفرد كل واحد15.
لقد أدى \"الجنب إلى جنب\" اليومي إلى تسليم الفرض الأناوحدي بأن الفرد هو وعي متوحد بشكل أصلي، وبأن الأنا الفردي هو الأول وبأنه، بالنتيجة، يجب تخطي هذه الفردية من أجل تجاوز مسألة صعوبة التواصل بين أشكال الوعي. يصبح التعايش cohabitation إذن انتصارا على الانعزال الأصلي. هذا الخطأ الميتافيزيقي يتأصل، حسب هيدجر، في نظرية الوعي16. إن الخطأ الأناوحدي هو اعتبار ما ليس إلا طريقة وجود، نمط جزئي من الوجود مع، على أنه ماهية الإنسان. يروي هيدجر التاريخ الفلسفي للذاتية ممفصلا بعناية الذات والأناوحدية. على العكس تماما من سارتر، يرجع إلى ديكارت أطروحة الدازاين من حيث هو ذات ووعي. هذه الأطروحة عرفت مع كانط طفرة من أجل أن تبلغ إلى المثالية المطلقة مع هيجل، الذي تعامل باطلاقية مع الأنا- الذات المنعزل. انه في هذا الإطار يدين هيدجر المحاولة السارترية في تجديد النزعة الذاتية من أجل الخروج من الأناوحدية ومن أجل إدراك وجود الإنسان والبيذاتية بشكل مرموق17.
أمكن لهيدجر، إلى جانب نقد سارتر الذي لم يقدر حسب هيدجر على تجاوز الأناوحدية، الاعتراض على أن الحرية السارترية تم إدراكها على نمط الوحدة والقلق. إن القلق السارتري هو قلق الحرية الخاصة بي قبل أن يكون قلق من أجل الغير. إن الأصالة السارترية تنتصر بإضرار الغير، إنها تتكون من حيث هي غياب الآخر، في معنى النزعة الفردانية. كيف للغثيان ألا يحتفظ بالوجود لذاته في الأناوحدية؟ تصديقا للذاتية الأناوحدية، ألا يهدد القلق دائما المشروع السارتري لاستخلاص أخلاق تضع بعين الاعتبار الوجود من أجل الغير؟ لم يكن تعديل القلق كافيا من أجل تحقيق المقاصد المعلنة من سارتر لتأسيس إيتيقا على القلق18. بالنسبة إلى هيدجر، القلق يجري تحويلا: انه يخلصني من غيريتي المحطمة، ومن إنيتي المغتربة، بفتحي على الغير كماهو. لكن هذا هو الذي يتلاءم للتمهيد في الحوار الذي يكون ملتزما بين هيدجر وسارتر بمحاور جديد، حيث تسعى المداخلة إلى إعادة توجيه كل إشكالية الإنية والغيرية في العمق.
الفردية والجماعية
هذا المحاور الجديد، هو كيركجارد: قلنا عنه جديد لأننا، في برهنتنا، اخترنا إشراكه بعد هيدجر وسارتر. لكن من البديهي تاريخيا أن يسبقهما، ويمكننا الانطلاق من كيركجارد من أجل أن نظهر في أي نقطة يلتقي هيدجر وسارتر وفي أي نقطة يفترقان فيها عنه. لكن، باعتماد هذا المنظور، لا نكون أوفياء لمشروعنا، الذي يتمثل في تقييم الأثر الهيدجري من خلال الإضاءات السارترية والكيركجاردية. هذا التدقيق المنصوص عليه، امتحان العناصر الكيركجاردية التي تبدو حاسمة19، قبل الاختتام بإعادة تقييم في ذات الوقت نقدي وتنبؤي للمصطلحات الواضحة هنا.
الفردانية الكيركجاردية لا تقع في الخلط مع تلك التي لسترنر، على سبيل المثال. نيلي فيالانايكس قامت بالتقريب بينهما بطريقة ملتبسة، بما أنها أكدت أن كيركجارد وسترنر يحتفظان معا بالحد نفسه \" في نفس اللحظة ومن أجل الأسباب ذاتها\"20، في حين أن سترنر، من أجل الحصول على نزع اغتراب désaliénation تام، ترى ضرورة عدم \"تأسيس السبب على اللاّشيء\"، أي استخلاص متوحدها من \"العدم الخالق\" وأن يجعله يعود. يجب أن تتقمص العلاقة الوحيدة الممكنة بين \"المتوحدين\" الشكل المجرد لجمعية الأنانيين...بيد أن كيركجارد لا يستطيع أن يتحمل مثل هذه الانتقادات. انه يبلور بثبات أن المتوحد ليس ممكنا إلا قبالة الله، لأن،الله، وحده، الذي ينكشف في المسيح قادر، في قدرته الأبوية المطلقة،على ضمان الحرية الإبداعية لمخلوقه، إضافة إلى أصالته، في حضن الجماعة البشرية\".
إنها إذن نيلي فيالانايكس التي رأت نفسها مجبرة على التفريق بين سترنر وكيركجارد. في الواقع، واضح أن الفرد حسب كيركجارد والمتوحد حسب سترنر ليس هناك بينهما أي تشابه. إن حد المتوحد نفسه – ترجمة معتمدة من ن. فيالانانيكس- ليس مناسبا بالنسبة إلى كيركجارد ويخاطر بارتكاب فظائع مضادة للمعنى. لكن لنحتفظ من تحليل ن. فيالانانيكس على ما يوجد فيه من جيد: تنصيصه على \"قبالة الله\" ما كل فرد مدعو إليه، وبماذا أسس بحق البعد الأصيل للجماعة البشرية21.
إن القلق الكيركجاردي هو النقطة المقاومة للفردانية اللاّمبالية. لا يوافق كبركجارد على انغلاقنا في الانعزال. القلق، مثلما يعرفه، ليس تقاعدا، بل انفتاحا على الآخر وفق روابط أصيلة. فلنعدها بقوة: انه في علاقة عمودية مع الله يتم تشييد جماعة أفقية حقيقية. بكل تأكيد، قلق الإيمان المسيحي يتحقق في وحدة العلاقة مع الله. أن أعتقد هو أن أقرر وحدي. غير أن، هذه الفردانية لا تؤسس لشركة من الأنانيين، بل لجماعة من الأفراد. لا يكون الوجود المنفصل إلا ماهو قبالة الله. وانه في الله يتم تشييد جماعة بشرية حقيقية. الله –الحب \" ليس سوى فرحة واحدة: أن أتواصل\"22. لكن، من أجل أن أتواصل مع الله، أليس من الملائم أن نبدأ في الاستماع إليه.
على العكس، لو أن الكل في هذا العالم من المذنبين أنانيين23، فلأن علاقتنا بالله فسدت. هذا الفساد يعثر على منبعه في انحطاط اللغة، وفي الاستماع، والحب، وفي رفض مواجهة القلق. تم خنق صوت الله بواسطة الثرثرة، وتم احتجاز القول من طرف الضوضاء، وتم اختزال الحب إلى الحب الأناني للذات. الإنسان التافه والمُتَفَّه لا يعرف البتة التحدث مع الآخر، وإذن مع الآخرين. إذا كان يعيش في العالم الذي لم يعد يمتلك معنى، فلأنه بدا أصم أمام نداء الله. العلاقة الشخصية الحية تنحط إلى علاقة غير شخصية، مجردة، نظرية.
بالتواجد في العلاقة وبالواسطة التي يتم الشروع فيها مع الله، يكون الفرد- المنعزل، بالمعنى الكيركجاردي الخاص للكلمة24، موحدا مع نظرائه، الذين هم، وكل واحد، أفرادا- منعزلين. هكذا تؤثر العلاقة الديناميكية مع الله في مستوى الجماعة الروحية للأخوة. إن حب الآخر – الكبير- يقود حب الأخر- الصغير-25: حب الذات لذاتها هو أناني، على الأقل لا يكون بالفعل حبا تجاه الله- ومن هنا يكون الحب تجاه الآخرين\"26. إن حب الله يذهب إلى حد حب الآخر من حيث هو آخر.
عرف القرن التاسع عشر الأوروبي تبلور حركة التخلع عن المسيحية التي أصبحت، منذ أيامنا، واقع لا يمكن إلغائه. في مؤلفه، على سبيل المثال في حساب أدبي27، يحلل كيركجارد أسباب ونتائج هدم القيم الأخلاقية والدينية المرتبطة بالثقافة المسيحية. دون خضوعه إلى سلطة عليا، يتيه الفرد ويغنم، بالتخلي عن مسؤوليته، وبقيام الأفراد بالاختلاط بعضهم ببعض يتأسسون مع بعضهم البعض على نمط اجتماعي للحشد. يؤاخذ كيركجارد الإيديولوجيات التي تؤثر في الحشود وتتلاعب بالمباحث التي يمكن أن تغوي القطيع. يضع يده على مخاطر الإلحاد الذي يتكثف، لكن أيضا على التصور السياسي للمساواة الذي أنزل على الرفوف المساواة الإنسانية الأصيلة. المساواة الوحيدة المقبولة هي، حسب كيركيجارد، تلك التي لكل واحد أمام الله، حسب المعادلة الصالحة بشكل كوني: \"أن يحب قريبه مثلما يحب نفسه\". إن المسيحية، على العكس مما فكر فيها هيدجر وسارتر، لا ترنو إلى تثمين فضائل شريفة، بل إلى تخطي الأنانية بإتباع وصية:\" لنحب بعضنا البعض\"28.
من هذا التشخيص تتبع المعالجة: كل كائن بشري يجب أن يبدأ بإعادة إثبات فرديته الخاصة بالتجرؤ على مواجهة القلق على نحو حر. إن القلق، بشكل مفارق، هو مكان المقاومة لكل أشكال الرعب 29. لكن درب الخلاص هذا يمر عبر القلق من الآخر، أمام الآخر، من أجل الآخر. لهذا السبب يلتقي القلق بمفهوم مركزي عن الفرد- المفرد 30. لنؤكد على هذا المكان الكيركجاردي بشكل خاص. إن الفرد مدعو إلى مواجهة انهيار القيم حيث قام المجتمع الحديث باختبارها أكثر فأكثر. إن القلق هو النجدة من أجل تخليص الإنسان من هذا المضيق: من أجل أن يصير فردية أصيلة، يجب على الإنسان أن يقبل اختبار القلق. إن القلق يجبره على مواجهة الإمكانيات التي هي فيه، وعلى تحمل ألم العالم وعلى الاعتراف بأنه مذنب. يصبح تلميذ الإمكانية وصيحة القلق قبالة القدرة المطلقة للإمكانية. بيد أن كيركجارد لا يتخلى عن الفرد من لأجل القلق. إن هذا الأخير ليس له معنى لو أن الفرد انتصر على الإمكانيات الزمنية من خلال الإيمان بالأبدية. إن القلق يحوز في حد ذاته على مخرجه الخاص بما أنه يكشف في كل واحد الجزء الإلهي الذي يكونه. إن القلق يحافظ على تأهب الذات التي يجنبها أن تتحمل دون تفريق بين المؤسسات أو أن تنسى نفسها في القطيع31. إن المساواة المضللة تتركز بواسطة الخوف وتنبني على الشكل الجديد من الطغيان. وحده قلق الذات من حيث هو قلق قبالة الآخر- الكبير- هو إنقاذ salvatrice. على العكس، إن الحكومة بواسطة الخوف تقود إلى الفوضى. إن بذرة الكوارث المعاصرة توجد في عجز الأفراد عن مصارعة ضغط الحشد، خطأ في التمركز المعطى لقدرة عالية يكشف عنها القلق من الإيمان لوحده.
هيدجر، سارتر، كيركجارد
لنُلَخِّص نقاط الاتفاق، وبالخصوص الاختلاف، بين هيدجر وسارتر، من جهة، وكيركجارد، من جهة أخرى. في البداية، لنُنَصِّص على ما يفصل هيدجر عن كيركجارد حول مسألة البيذاتية. إن النقد الهيدجري للهُم لا يتم دون تذكر الرفض بواسطة كيركجارد للقطيع، وللمجتمع القطيعي، للثقافة الوسطى المدمجة لمساواة مشكوك فيها، ومحل نقد التي ترافق، عند كيركجارد ومثلما هو عند هيدجر، إثبات الفردنة 32individualité. مع هذا الاختلاف، الكبير، الذي لو ينزله كيركجارد على حقل إيتيقي وديني، - القطيع هي الكذب-، مع هيدجر، نكون في بعد أنطولوجي. مع ذلك، مثل كيركجارد، يستخلص هيدجر الوجود الخاص من يومية الوجود المتأثر بالهُم، انه يقوم باستخراجه بواسطة التبيان مع التجريف حيث الكل يوجد منذ الوهلة الأولى مقسم بواسطة الكل. إن القلق حسب هيدجر ينتزع الدازاين من التشتت في التضرع اليومي، لكن، على خلاف الدانماركيين، الأنا ذاته الخاص هو الوجود مع المتوسل إلى الآخر. هذا التوسل يحوز على أساس هو الوجود مع الذي يكون في كل مرة نفسه نحو الغير. لو أن هيدجر التقى كيركجارد بالتفكير في القلق من حيث هو مصعد ممكن نحو الذات عن طريق الانتزاع من اللاأصالة، فان هذا الارتفاع لا يتم قبالة الله، بل مع الغير ضد الهُم. عند هيدجر، القلق لا يقود إلى وجه لوجه مع الأنت المطلق. لو أن الدازاين وجود في مواجهة مع نفسه ذاتها، لو أنه هذا الكائن الذي هو قبالة ذاته، لو أنه وجود نحو الموت، فإنه يوجد من حيث هو كذلك من أجل الغير. إن الوجود مع يمضي مع الوجود الخاص ويمضي عليه. بالنسبة إلى هيدجر، إن القلق هو قلق حيازة على الوجود وليس، مثل سارتر، قلق من الوجود. على الخلاف، بالنسبة إلى كيركجارد، الفرد- المفرد هو فرد أمام الآخر.
سقط هيدجر في الحكم المسبق – الذي تقاسمه معه سارتر- الذي يتمثل في رؤية طقس الفرد المتوحد في الفرد الكيركجاردي، متمركز حول ذاته، بينما في العديد من الصفحات ينصص كيركجارد على فكرة أن كل إنسان في العلاقة مع الآخر ومع الآخرين، يصل إلى ذات حرة. أن يصير ذاتيا ليس عملا منعزلا لذات متمركزة حول علاقة عمودية مع الله، بإضرار الغيرية. على العكس تماما، انه يُوقِّعُ رفض المؤازرة في العدد. في المؤلفات عن الحب، كل واحد يحوز بالقرب منه على قريب. إن القلق يربط بين الآخر والأنا، وبين الأنا والآخر، انه يجعل الواجب متكاملا – أي هنا: المطلب المسيحي- بأن تحب الآخرين بوصفهم آخرين في غيريتهم. لو كان الواجب في حب الآخر، فإنه يوجد أقرباء لا يكون الحب تجاههم إحساسا عفويا: أن تحب، هو أن تحب في كل واحد الإنسان الذي يُشَيِّد النحن وفق جدل الأنا في اتجاه وبواسطة الآخر، والآخر في اتجاهي وبواسطتي الأنا. بكل يقين، حب الذات هو الأول، لكن في القلق يتم الاشتغال على تجاوز الأنانية لصالح الآخر. يتم بلورة التواصل في هذه العلاقة المضاعفة والمتعددة، العلاقة التي أعادت خلقي أنا نفسي من حيث أني آخر، والتي خلقت آخر من حيث هو أنا نفسي33.
يرتبط كل من هيدجر وسارتر بكيركجارد بهذا المعنى حيث أن هذا الأخير ينهض ضد النزعة الإنسانوية التي تذوب في العاطفية ومزاعم المشاعر الطيبة. على غرار كيركجارد، يرفض كل من هيدجر وسارتر المجتمع الذي يرتكز على علاقات مبنية للمجهول، ويدعوان إلى جماعة أصيلة من الأفراد. لكن، بالنسبة إلى كيركجارد، أن الأمر يتعلق، في الحب الحقيقي، بالاعتراف بالآخر من حيث هو مبدع روحاني ينتمي إلى جماعة من محبي المسيح، بالنسبة إلى هيدجر وسارتر، يجب السماح للآخر بأن يكون من حيث هو في وجوده، والاعتراف بالحرية الجذرية للآخر.
لا يأخذ كل من هيدجر وسارتر بعين الاعتبار تشييد جماعة مثل تلك التي تلتزم بالقلق الكيركجاردي. هذه هي نقطة الافتراق الأكثر وضوحا، بما أنه لو عاد إنسان القطيع، حسب كيركجارد، إلى الله بشكل سقيم، فإن القلق يكون، بالمعنى الدقيق، تحولا واستدعاء إلى حياة جديدة سعيدة بحق. أن تقفز في الإيمان القلق، ليس أن تهرب من الجماعة الإنسانية، وإنما أن تقبلها بشكل عميق. لكن هذه الجماعة البشرية المنتظر تحقيقها لا تختلط مع الجماعة السوسيو سياسية المحايثة والمنشئة. ليست النزعة الفردية المسيحية انطواء أناوحديا، إنها تشير، بالعكس، إلى إمكانية اندماج الأفراد في جماعة إنسانية أصيلة، تحت نظر حب الله. بكل تأكيد، لا يتصور المعتقد نفسه إلا وحده في علاقة مع الله، ويتم إثارته للإجابة على المفارقة بشكل شخصي. لكن هذه النزعة الفردية لا تشتبك مع الغير. من حيث هو معتقد، يتم الاحتفاظ بالفرد- المفرد في العناية بالآخر. لو توصلت الذات إلى الإيمان بالوجود الأصيل، فإنها تكون دائما من حيث هي موجودة في صلة مع نظرائها وعلى اجتماع معهم في الرأفة. ليس المعتقد أبدا مجنون الله الذي يقوم باحتقار التواصل والحوار.
هناك خيط قوي جامع لمؤلفينا الثلاثة. لا يعني نقد القطيع، عند كل واحد منهم، كراهية الإنسان العامي. إن الأمر لا يتعلق بالتدفق في الشعوبية أو في النزعة الديمقراطية التي تقوم بنفي خاصية كل كائن بشري. بالنسبة إلى كيركجارد، ليست المساواة المسيحية هي الهوية الحقوقية المجردة، بل الاعتراف بواقع أننا، قبالة الله، كلنا متشابهين في اختلافاتنا نفسها. إن الفرد المفرد يمكن أن يعني الأكثر تفردا من الكل ويمكن أن يعني كل واحد34. كلنا أخوة في فروقنا النوعية. بالنسبة إلى هيدجر، نفي التسطيح لا يمتد إلى تبرير النزعة الأرستقراطية، مثلما يفكر في ذلك سارتر35. بالنسبة إلى كيركجارد، الحب الأصيل الخاص هو في عدم البحث عن مصلحتنا الخاصة، بل في مصلحة القريب في اختلافها غير القابل للاكتناه.
إن اللوم الذي يوجهه كل من هيدجر وسارتر إلى المفكر الدانماركي هو إذن غير مستحق، لأن كيركجارد لم يكن مدافعا على تجميع الأنانيين بجعل العلاقة بالله صلة مجردة. توجد لديه نزعة إنسانية متعينة التي يتم تأسيسها على حب الله. هذا الحب ليس أناوحديا بما أنه ينادي كل واحد إلى الانفتاح على الآخرين. انه يتم الكشف في القلق على أننا جميعنا أخوة. إن الأخوّة في المسيح هي شرط الاجتماع الحقيقي بين البشر. إن القلق لا يتدفق في نزعة أناوحدية من إثنين. لو كان حقا كيركجارد قد شوه سمعة القطيع، فإنه لم ينحدر لا إلى إيتيقا الوحدة التراجيدية ولا إلى الحياد عن النزعة السياسية الانفعالية36.
إن النقد السارتري يترجم بواسطة انزياح ثلاثي للحدثية والحرية والقلق من الموت نحو قلق قبالة الآخر. على العكس، يميز القلق الدازاين في علاقته بالغير. إن النزعة الأناوحدية ذات النظام الأنطولوجي هي غير متساوقة مع الوجود الأصيل في جماعة ما. إن القرار يذهب مع حب الغير، مع التجاور المشترك. بفتح نسيج اجتماعي أصيل، يمنح الوجود معا إمكانية جماعة من حيث هي جماعة وجود. انه المزاج الذي يحمل الدازاين نحو الوجود من حيث هو آخر. لو أنه لم يحدد منذ الوهلة الأولى مجاور ما، فإن القلق يهيئ التعايش برفع شروط إمكان الموضع وفق مسؤولية كل واحد في وجوده الخاص واعتراف الواحد بالآخر، والواحد بواسطة الآخر، والأخر بواسطة الأول37.
بالنسبة إلى هيدجر، الوجود مع هو محدد أنطيقو-وجوداني. عند سارتر، الوجود من أجل الغير هو أخلاقي-وجودي. إن الوجود من أجل الآخر الكيركجاردي هو مقولة ايتقو- دينية. لو أجاب سارتر كيركجارد بواسطة لعب الاستبدال بتشويهه، فإن هيدجر قلبه على نمط قراءة بإبقائه على فكرة أن الذات ليست تأليفا بين الأبدية واللحظة، بين اللانهائي والنهائي، بين الزمني والأبدي، بين الحرية والضرورة، التي لم يتعلق إلا بها في حد ذاتها عن طريق طمس الفعل بأنه ليست العلاقة مع الحقيقة العالية التي تحدد الصلة مع الآخرين، بل، على العكس من ذلك، الرباط مع الغير الذي يعين حدود الصلة مع الإلهي.
اضف تعليق