q
إذا كانت الحروب وأعمال الإرهاب والعنف والصراعات، هي التي تتصدّر المشهد السياسي، لكن المياه قد تكون أكثر خطورة في اندلاع الحروب وتأجيج الصراعات وإشعال النزاعات، خصوصاً بازدياد الطلب عليها في ظلّ النمو السكاني المتصاعد وارتفاع درجة الاحتباس الحراري، فضلاً عن شحّ المصادر ونسب الهدر العالية...

يحتفل العالم سنوياً منذ العام 1993 بيوم المياه العالمي، حيث تم اختيار يوم 22 آذار/مارس سنوياً ليكون مناسبة لجذب الانتباه إلى أهمية المياه العذبة والدعوة إلى الإدارة المستدامة لموارد المياه في العالم.

في ضوء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة للاحتفال بيوم المياه العالمي (22 كانون الأول/ديسمبر 1992)، وعلى خلفيته قرّر المجلس الوزاري العربي للمياه في دورته الأولى المنعقدة في الجزائر في العام 2009 تحديد الثالث من آذار/مارس من كل عام للاحتفال باليوم العربي للمياه.

وإذا كانت الحروب وأعمال الإرهاب والعنف والصراعات الدينية والمذهبية والطائفية والإثنية، هي التي تتصدّر المشهد السياسي، لكن المياه قد تكون أكثر خطورة في اندلاع الحروب وتأجيج الصراعات وإشعال النزاعات، خصوصاً بازدياد الطلب عليها في ظلّ النمو السكاني المتصاعد وارتفاع درجة الاحتباس الحراري، فضلاً عن شحّ المصادر ونسب الهدر العالية التي يعاني منها العديد من دول العالم، ناهيك عن الجفاف والتصحّر وغير ذلك.

وإذا لم يعانِ العالم حتى مطلع الخمسينيات الماضية من مشكلة شحّ المياه إلّا على نحو محدود جداً ولعدد لا يتجاوز أصابع اليد من البلدان، فإن أكثر من 26 بلداً بما فيها بلدان الشرق الأوسط تعاني اليوم من ظاهرة شحّ المياه الذي أصبح سلعة استراتيجية تتجاوز أهميتها النفط والغذاء. ويعود السبب إما إلى فجوة الموارد المائية أولاً، والمقصود بذلك الطبيعية، ولا سيّما السطحية والجوفية والصناعية (التحلية والمعالجة)، وثانياً إن متوسط نصيب الفرد من المياه العذبة سنوياً لا يمكن تأمينه، حيث يقدّر بنحو 1000 متر مكعب وهو المعدّل المتوسط؛ ويضاف إلى ذلك أن الماء أصبح سلاحاً فعّالاً في الصراع الدولي، وله أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية وقانونية وجغرافية وجيوسياسية وصحية وبيئية.

أولاً- الأمن المائي:

1- الحق في الماء

أصبح الاهتمام بمسألة المياه عالمياً بفعل ندرتها أولاً، ومن ثم زيادة نسبة التصحّر والتلوث والتغييرات المناخية والبيئة ثانياً، فضلاً عن محاولات تسييسها واستغلالها اقتصادياً ثالثاً، وذلك من خلال الإستقواء بها على حساب الآخرين، ولهذا عمدت الأمم المتّحدة إلى إيلاء اهتمام كبير بها، خصوصاً وقد أدركت يوماً بعد يوم خطورة شحّ المياه على المستوى العالمي، حيث تفيد دراسات معتمدة من جانبها إلى أن 1.5 مليار نسمة يعانون من عدم وجود مياه صالحة للشرب وأن نحو 3 مليارات نسمة آخرين ليس لديهم نظام صرف صحي، وأن ما يزيد عن 35 ألف شخص يموتون يومياً نتيجة النقص الفادح في المياه أو بسبب استخدامهم لمياه ملوثة أو غير صالحة للشرب.

كما تشير دراسات الأمم المتحدة إلى أن 5.3 مليار نسمة، أي ما يعادل ثلثي سكان العالم سيواجهون نقصاً فادحاً في المياه، بعد نحو عقد من الزمان، لا سيّما في ظل التوزيع غير العادل للمياه بما فيه من كميات الأمطار وازدياد السكان، حيث تقدّر نسبة الزيادة سنوياً نحو 90 مليون نسمة وارتفاع نسبة استهلاك المياه، وفي الوقت نفسه سوء استخداماته، إضافة إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض وارتفاع نسبة الاحتباس الحراري وزيادة نسبة مياه البحار.

باختصار يعتبر الماء سلعة تجارية نادرة، ولعلّ هذا ينطوي على مخاطر شديدة على الصحة والأمن والمستقبل، فضلاً عن انعكاساته على التنمية، ناهيكم عن أن نسبة 2.5% إلى 3% من كميات المياه في العالم هي مياه صالحة للشرب وهي نسبة ضئيلة جداً وتشحّ باستمرار، كما أنها في تناقص منذ قرن من الزمان، على الرغم من بناء السدود والخزانات والتقدّم العلمي والتكنولوجي ووجود اتفاقيات دولية لتنظيم استخداماته من دول المنبع وصولاً إلى دول المصب أو على الصعيد الداخلي.

ولعلّ الحق في المياه هو حق من حقوق الإنسان، وهو حق جماعي وحق فردي في الآن ذاته، أي حق كل فرد في الحصول على مياه نقية وبكمية مناسبة، كما أن حقه في الصرف الصحيّ، هو الآخر لا يمكن الاستغناء عنه، الأمر الذي يحتاج إلى تنسيق أفضل على مستوى الموارد الخاصة بالطاقة مثل النفط والغاز والكهرباء وغيرها، فضلاً عن الحوكمة الرشيدة.

وجاء في القرآن الكريم: “وجعلنا من الماء كل شيء حيّ [1]“، وهذا ما يؤكد أن الماء هو مهد الحياة والحضارة الإنسانية، وهو مكوّن لا غنى عنه لجميع الكائنات الحية، وهو في الوقت نفسه منتج الثروات ومطهّر الأجسام وملهم الإنسان، لا سيّما بالعلوم والفنون والآداب، ودائما ما تقام الحضارات والمدن على ضفاف الأنهار وبالقرب من سواحل البحار والبحيرات وتقوم على تنظيم استخدامه قوانين وأعراف وتفصل في نزاعاته محاكم وقضاء.

2- الماء والحياة

إن إلقاء نظرة سريعة على الأرقام المتعلّقة بالمياه العذبة، كافية لأن تؤكد لنا حجم المخاوف الحقيقية على مستقبل الإنسانية، فكم هي شحيحة ومتناقصة لدرجة تثير قلقاً مستمراً، فالمياه العذبة لا تمثل أكثر من 3% من مجمل المياه الموجودة في العالم، فنحو 77.6% من هذه النسبة على هيئة جليد، و21.8% مياه جوفية، والكمية المتبقيّة لا تتجاوز 0.6% هي المسؤولة عن تلبية احتياجات أكثر من سبعة مليارات من البشر في كل ما يتعلّق بالنشاط الزراعي والصناعي وسائر الاحتياجات الحياتية. وإذا كان مثل هذا الأمر على النطاق العالمي، فإن أزمة المياه ترتبط على نحو مباشر بقضايا الحروب والسلام والحقوق والتنمية في منطقة الشرق الأوسط.

وتبلغ مساحة العالم العربي عُشر مساحة اليابسة، إلّا أنه لا يحتوي إلّا على أقل من 1% فقط من كل الجريان السطحي للمياه على المستوى العالمي، ونحو 2% من إجمالي كميّة الأمطار في العالم، ولذلك يعدّ من المناطق الفقيرة جداً في مصادر المياه العذبة، وهو ما ينعكس على مستوى التأمين المائي للفرد، والأمر لا يتعلّق ببلدان الخليج العربي فحسب، حيث الصحارى الواسعة، بل حتى في البلدان ذات الوفرة المائية قياساً بغيرها، بسبب انخفاض كمية المياه والشحّ الذي تعاني منه وقلّة كمية الأمطار والإدارة غير الرشيدة، فضلاً عن التحدّيات التي تواجهها البلدان العربية من دول الجوار العربي والاستثمار غير السليم من جانبها.

وعلى الرغم من أن أزمة الخليج الثانية والتي نجمت عن احتلال القوات العراقية للكويت في 2 آب (أغسطس) 1990 والحرب التي تبعتها في 17 كانون الثاني (يناير) 1991 وفيما بعد احتلال العراق في العام 2003 طغت على الاهتمامات السياسية الأخرى في الشرق الأوسط، إلاّ أن مشكلة المياه أو ما يطلق عليه “الأمن المائي والغذائي”، ظلّت إحدى الهواجس الكبرى المعلّقة والتي تراكمت خلال العقود الأخيرة، وليست ثمة مبالغة إذا اعتبرناها إحدى المعارك الصامتة والمحتدمة في آن، التي تشهدها المنطقة منذ عقود من الزمان ليس لاحتمال بلوغها مرحلة الصدام العسكري المسلح فحسب، بل بسبب أهميتها الاقتصادية وأبعادها السياسية والجغرافية الخطيرة وانعكاساتها على الأمن القومي العربي عموماً والأمن المائي والغذائي، وخصوصاً الأمن الإنساني بما له من تأثيرات لفرض النفوذ والهيمنة.

ظهرت مشكلة المياه إلى العلن، بل طفت إلى السطح على نحو سريع، وتفاقمت على مرّ السنين، حيث لم تحجبها أية معركة أخرى وظلت إحدى المشاكل المنذرة بحروب اقتصادية حقيقية، سواءً بمعناها السياسي أو الاجتماعي أو القانوني، فضلاً عن احتمال تطورها إلى نزاع مسلّح، خصوصاً بالارتباط مع الجوانب الأخرى المشار إليها. وهذه المشكلة تشمل الأنهار الرئيسية التالية: دجلة والفرات والنيل وبانياس والليطاني ونهر الأردن، إضافة إلى شط العرب وملحقاته والمياه الجوفية في الأراضي الفلسطينية المحتلة ويدخل في نطاقها الدول العربية التالية: العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين ومصر والسودان، وذلك إرتباطاً مع الدول المحيطة، لا سيّما تركيا وأثيوبيا وإيران، إضافة إلى “إسرائيل”.

وفيما يتعلق بمياه الأردن والمياه الجوفية ونهر الليطاني ومياه الجولان وبحيرة طبرية وغيرها فإن “إسرائيل” لا تزال مستمرة في مشاريعها في شفط أو تحويل بعضها واستثمارها لصالحها على حساب الأردن ولبنان وسكان البلاد الأصليين، الأمر الذي يتطلب تعاوناً وتنسيقاً بين البلدان العربية التي تواجه مخاطر مائية، فضلاً عن أن مصيرها واحد.

إن التقديرات التي تقول بكون المياه إحدى الصراعات الموازية للصراعات القائمة، بل هي لغم غير موقوت يمكن أن ينفجر حتى دون إنذار، هي تقديرات سليمة، والإشكالية والمشكلة موجودتان وقائمتان، ولم تعودا كامنتين أو غير منظورتين، وهما تمتدان إلى جوهر الصراع في المنطقة ونعني به الصراع العربي- الصهيوني ولبّه القضية الفلسطينية، وإلى صراعات إرادات ومشاريع للقوى الإقليمية والدولية، فلتركيا مشروعها العثماني الأيديولوجي ولإيران مشروعها الفارسي الأيديولوجي، حتى وإن تغلّف المشروعان بمسحة سياسية أو نزعة طائفية أو دينية، لكنهما مشروعان قائمان، إضافة إلى المشروع الصهيوني الأكثر خطراً، خصوصاً بعلاقته العضوية بالمشاريع الإمبريالية القديمة والجديدة، بما فيها صفقة القرن الجديدة، في حين هناك غياب لمشروع عربي موحد، أو حتى لمشروع وطني على مستوى كل بلد عربي يمكن بالتنسيق مع المشاريع الوطنية العربية الأخرى أن يجد مشتركات إنسانية ومصالح متبادلة.

وقد تعاظمت إشكالية ومشكلة المياه منذ عقود من الزمان بين تركيا وسوريا والعراق، وكذلك بين العراق وإيران، إضافة إلى مشكلة نهر النيل بين أثيوبيا والسودان ومصر، والتي ازدادت خطراً بالتعاقدات “الإسرائيلية” – الإثيوبية لبناء سدود على نهر النيل؛ وكذلك باستمرار “إسرائيل” في الهيمنة على الجولان السوري ومحاولتها استغلال مياه نهر الليطاني اللبناني ومياه الأرض الفلسطينية المحتلة، وإقدام إيران على تحويل مياه نهر قارون وعدد آخر من فروع شط العرب إلى داخل الأراضي الإيرانية، فضلاً عن تجدّد مشاكل شط العرب، بخصوص اتفاقية الجزائر بين العراق وإيران الموقعة في 6 آذار (مارس) العام 1975. وأخيراً وليس آخراً محاولة بعض الدول الأفريقية، ولا سيّما أثيوبيا المستفيدة من منبع ومرور نهر النيل استغلاله، دون مراعاة مصالح السودان وجنوبه بعد تأسيس جمهورية جنوب السودان، إضافة إلى القلق المصري المشروع من الأضرار التي قد تتسبب بالأمن المائي المصري، فضلاً عن الأمن المائي على المستوى العربي.

والمقصود بالأمن المائي القدرة الدائمة المستمرة في الحاضر والمستقبل، على توفير الماء غير الملوّث، الصالح للاستخدامات الإنسانية اللّازمة للحياة على أن تكون هذه القدرة، غير مشروطة أو مهدِّدة لطرف خارجي طبيعي أو صناعي، وبكميّات وطاقات تخزينية لمدة مناسبة للاستهلاك وبالقدرة على توفير خزانات محميّة سياسياً وأمنياً وعسكرياً. ومثل هذا الأمر موضوع بالغ الحيوية والخطورة على قضية السلام في الشرق الأوسط.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق