وتبقى الحاجة إلى إعادة النظر بالنظام التربوي والتعليمي لنشر ثقافة اللّاعنف، الذي هو كفيل برفع وتعزيز الوعي بالقانون وبالثقافة الحقوقية، كما يمكن للمجتمع المدني والإعلام أن يلعبا دورًا إيجابيًا في تعزيز مبادئ التسامح انطلاقاً من القيم الإنسانية، فالضمير بهذا المعنى هو القانون الأسمى...

"إنني أترك بعد موتي أمًّا وزوجة وطفلة... واحدة منهنّ بغير ابن والثانية بلا زوج والثالثة دون أب... إنني أرضى أن أُعاقب عقابًا عادلًا، لكن ما ذنب البريئات اللواتي تحمّلن كل هذا العذاب؟"

فيكتور هوغو

من مرافعته في مناهضة عقوبة الإعدام.

أدركُ صعوبة الخوض في مثل هذا الموضوع الإشكالي وحساسيته المفرطة، بسبب الاصطفافات المسبقة والقيود والتفسيرات الدينية والعقائدية، فضلًا عن العادات والتقاليد السائدة والمهيمنة، لكنه لاعتبارات إنسانية وقانونية وأكاديمية لا بدّ من فتح حوار هادئ وعقلاني حول الموضوع، إذْ لا ينبغي إهماله أو السكوت عنه، طالما يمثّل وجهة نظر موجودة ولها مبرّراتها، وهي وإن كانت قليلة ومحدودة، إلّا أنها كبيرة بمدلولها القيمي والإنساني.

وإذا كان القاتل يستحق العقاب، وهو أمرٌ مفروغ منه، فهل القبول بالقتل هو " العقوبة العادلة"؟ والقتل بغض النظر عن الأسباب يتناقض مع مبدأ "الحق في الحياة" المحور الأساسي في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وهو ما وهبه الله للبشر، فكيف يمكن لإنسان سلبه، فهل قتل القاتل يحقّق العدالة؟ وهل جريمة " القتل اللّاقانوني" تقابل "القتل القانوني"؟ وهل سيكون الطريق إلى العدالة سالكًا؟

وحسب المفكر وليد صليبي، مؤسس جامعة اللّاعنف، "جريمتان لا تولّدان عدالة" وسبق لي أن كتبتُ "رذيلتان لا تنجبان فضيلة" و"حربان لا تنتجان سلاماً" و"عنفان لا يحققان أمنًا وطمأنينة" و"انتهاكان لا يوفران كرامة". إذًا علينا البحث عن الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والدينية والعنصرية والنفسية التي تقف خلف الجرائم المُرتكبة، فضلاً عن منظومة التربية والتعليم والقيم المتوارثة بما فيها التقاليد العشائرية والقبلية.

إن إنزال عقوبة الإعدام لن تعيد الحياة للمقتول، إذْ لا يمكن ردّ القتل بالقتل، ولعلّ مثل هذا الأمر سيترك تأثيراً اجتماعياً خطيراً بأبعاده الثأرية والانتقامية، فضلاً عن إشاعة أجواء من الحقد والكراهية، ليس بين المتخاصمين وعوائلهم فحسب، بل في إطاره الاجتماعي الأوسع وامتداداته وترابطاته المختلفة.

وإذا كان حكم الإعدام ليس من السهولة النطق به بشكل عام، وخطيراً إلى درجة كبيرة، فما بالك إذا وقع خطأ في الحكم، فكيف يمكن تصحيحه بعد أن يتم تنفيذه؟ خصوصاً وإن القضاء، أي قضاء حتى وإن كان نزيهاً ومحايداً ومستقلاً عرضةً للأخطاء التي يذهب ضحيتها الأبرياء. ففي الولايات المتحدة ظهرت 159 حالة براءة بعد تنفيذ حكم الإعدام خلال فترة 10 سنوات.

وعلى الرغم من قلّة عدد المطالبين بإلغاء عقوبة الإعدام في عالمنا العربي والإسلامي، إلّا أن ثمّة توجّهات أخذت تتسع تأثراً بالحركة الحقوقية العالمية، المطالبة باستبدال عقوبة الإعدام بعقوبات أخرى حفاظاً على الحق في الحياة، والتمييز بين العدالة والانتقام، وثمة حالات يظهر فيها الأثر الارتدادي لعقوبة الإعدام بما يوسع من جرائم القتل، (كما جرى في العراق في فترة التسعينيات، حيث أصدر مجلس قيادة الثورة قرارًا بتنفيذ عقوبة الإعدام بسارقي السيارات بعد أن أصبحت ظاهرة مؤرقة للسلطات، وهو ما ذكره أحد القضاة بقوله أن نسبة الجرائم ارتفعت بدلًا من انخفاضها، إذ أقدم السارقون على قتل أصحاب السيارات أو السائقين لكي لا يتعرفوا عليهم، وهكذا ارتفعت نسبة الجريمة ارتداديًا بسبب عقوبة الإعدام المقررة).

الإعدام قتل عن سابق إصرار وتصميم وهو وضع حد لحياة إنسان بموجب حكم قضائي، ولذلك توجّهت 142 دولة من دول العالم البالغ عددها 193 لإلغاء العقوبة أو وقف تنفيذها، وكانت الجمعية العامة لـ الأمم المتحدة قد أصدرت قراراً برقم 2857 في العام 1977 خاطبت فيه العالم بضرورة تقليل عدد الجرائم التي تفترض اتخاذ عقوبة الإعدام، وأصدرت بعد ثلاثة عقود من الزمان (2007) قراراً يقضي بتعليق عقوبة الإعدام مع متابعة العمل لإلغائها. ويُعتبر الاتحاد الأوروبي منظمة خالية من عقوبة الإعدام Death Penalty Free بموجب ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد، الذي نصّ على "رفض قبول أي عضو (دولة جديدة) في عضوية الاتحاد، إذا كان الإعدام ضمن نظامه القضائي".

وكان قد ورد في تقرير دولي أن نحو 174 دولة لم تقدم على عقوبة الإعدام في العام 2012، لكن ما هو مثير للقلق أن دولًا كبرى مثل الصين والولايات المتحدة والهند وإندونيسيا ما زالت تطبّق عقوبة الإعدام، في الوقت الذي تعتمد في الكثير من توجهاتها على الذكاء الاصطناعي واقتصادات المعرفة وآخر منجزات العلم والتكنولوجيا، ويحق هنا التساؤل، هل الموت، أي الإعدام الذي يساوي القتل سيكون عاملًا رادعًا للجريمة بالقصاص من الجاني وعبرةً للغير؟

وبالطبع فإن مقاصد العقوبة هي منع الجريمة والحيلولة دون استمرارها وليس إلغاء المجرم، فأسباب الجريمة تتمثّل في الفقر والجهل والأمية، فضلاً عن جوانب أخرى من الحياة الاجتماعية والحرمان والغبن وغيرها مثل: الحروب والنزاعات وأيديولوجيات الكراهية، وخصوصاً الطائفية والدينية والعنصرية.

وعلينا الاستنتاج من أنه لا يجوز لنا أن نشرّع الثأر في القانون، بل نعمل على إزالته من النفوس ومن العادات والتقاليد الاجتماعية البالية العشائرية والقبلية وردود الأفعال غير العقلانية، وبهذا المعنى فإن الدولة لا تمارس الثأر أو الانتقام، بل تعمل على الحدّ منه مجتمعيًا برفع درجة الوعي ومعالجة آثار الجرائم بالقانون وبالعقوبات العادلة من غير القتل، الأمر الذي اقتضى استبدال عقوبة الإعدام إلى عقوبة أدنى مثلًا، مثل الحكم المؤبد أو الحكم ﻟ 25 عامًا.

وبهذا المعنى لا تقع على الفرد المرتكب وحده مسؤولية الجريمة، لأن فيها جوانب مجتمعية بحكم الثقافة والتربية السائدتين، الأمر الذي يعتبر عاملاً مخففاً لا بدّ من أخذه بنظر الاعتبار في تقرير الحكم بحق المرتكب، وهو موجود في كل الجرائم، وقد يذهب ذلك إلى تحديد مسؤولية المجتمع في تعويض أهالي الضحايا وإعادة تأهيل المرتكب، وبالتالي وضع الخطط اللازمة لإصلاح الأوضاع الاجتماعية التي تؤدي إلى تفقيس بيض الجرائم بحكم انتشار الفايروسات التي تساعد على ذلك، لاسيما التعصب ووليده التطرف ونتاجهما العنف والإرهاب.

وإذا كان سجل البلدان العربية والإسلامية حافلاً بإصدار عقوبة الإعدام وتنفيذها، فإن الصراع ما يزال قائماً ومحتدماً بين دعاة وقف وإلغاء عقوبة الإعدام وبين دعاة التمسك بها، وهو صراع بين تيار ديني محافظ في الغالب وتيار حقوقي ومدني، وإن كان داخله من يبرّر تنفيذ عقوبة الإعدام باعتبارها إجراءً ثورياً رادعاً، وغالباً ما سلكت الأنظمة التي أطلقنا عليها "التحررية" أو "الاشتراكية" طريق تنفيذ عقوبة الإعدام على نحو أكثر اتساعاً وبخفّة غير معقولة، راح ضحيتها المئات، بل الآلاف من المعارضين، حتى وإن كانوا بالأمس من أركان النظام وأعمدته الأساسية.

ويروي أحمد الحبوبي أحد أقطاب التيار القومي العربي في العراق في كتابه "ليلة الهرير" أنه تمّ تنفيذ عقوبة الإعدام ﺑ 57 متهمًا بدم بارد وبلا محاكمات في يوم واحد، وذلك ليلة 20 – 21 كانون الثاني / يناير 1970. وحسبما متوفر لدينا أن محكمة الثورة في عهد النظام السابق أصدرت 1700 حكمًا بالإعدام بمحاكمات صورية، وجرى تنفيذ غالبيتها الساحقة. فما أشبه اليوم بالبارحة، إذ يوجد نحو 8000 محكوم بالإعدام في السجون العراقية ينتظرون التنفيذ، وقد نفذت السلطات مؤخرًا وجبة إعدام جماعية زادت عن 30 شخصًا، الأمر الذي أثار ردود فعل عالمية.

الإعدام عنف حتى وإن كان وسيلة للعقوبة، وهذا العنف قتلٌ. فهل القتل الثاني هو التعويض عن القتل الأول أم أن الهدف هو العدل والحق وتعويض الضحايا أو عوائلهم وردع الجريمة؟ تلك هي الفلسفة وراء المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام.

فهل الموت يمكن أن يكون قصاصاً للموت؟ أي الموت ضد الموت، ومسألة مثل تلك تحتاج إلى تفكير عميق فالوسيلة جزء من الغاية، وحسب المهاتما غاندي، إنها مثل البذرة إلى الشجرة، ولا وسيلة للقتل بحجة عدالة الغاية، وإذا كانت الغاية بعيدة، فالوسيلة ملموسة وآنية، تلك التي لا ينبغي أن تتعارض مع الغاية.

إن إلغاء عقوبة الإعدام يحتاج إلى وقتٍ طويل، لكن اتخاذ قرار بوقف تنفيذها، هو ما أقدمت عليه عدد من البلدان العربية، مثل المغرب والجزائر وموريتانيا وتونس ولبنان وغيرها، والعراق هو الدولة الأكثر تنفيذًا لحكم الإعدام في تاريخها، سواء في العهد الملكي أو العهد الجمهوري أو ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق.

وقد مارست التنظيمات الإرهابية القاعدة وداعش وأخواتهما عقوبة الإعدام خارج القانون، ولاسيّما ضدّ أتباع الأديان الأخرى من المسيحيين والإزيديين وغيرهم، إضافة إلى من يختلف معها في تفسيراتها وقراءاتها للنصوص المقدسة ومحاولات تأويلاتها التي تنسجم مع مبدأ العنف، الذي كان هو القاعدة لديها، وعكسه هو الاستثناء، فالعنف هو القاعدة ونظرية العمل والممارسة لدى التنظيمات الإرهابية، مبررة كلّ شيء بالماضي ومتوقفة عنده، رافضة كلّ قيم الحضارة الإنسانية، علمًا بأن العنف لا يقتصر على التنظيمات الإرهابية والإسلاموية فحسب، بل إن القوى الشمولية "التوتاليتارية" تجد فيه وسيلةً لإملاء الإرادة وفرض سطوتها على الآخر بزعم امتلاكها للحقيقة وادّعائها الأفضلية على الآخر.

وتبقى الحاجة إلى إعادة النظر بالنظام التربوي والتعليمي لنشر ثقافة اللّاعنف، الذي هو كفيل برفع وتعزيز الوعي بالقانون وبالثقافة الحقوقية، كما يمكن للمجتمع المدني والإعلام أن يلعبا دورًا إيجابيًا في تعزيز مبادئ التسامح انطلاقاً من القيم الإنسانية، فالضمير بهذا المعنى هو "القانون الأسمى" حسب ديفيد ثورو، ولهذا لا بدّ أن يكون يقظاً، وهو ما يمكن أن يولد قناعة فردية ومجتمعية، علماً بأن الإيمان بالدين يساوي عمل الخير بأبعاده الأخلاقية، لا لتبرير القتل، فالأديان هي للسلام وليست للعنف أو للانتقام.

 وكما جاء في كلام كونفوشيوس "نردّ الخير إزاء الخير ونردّ العدالة إزاء الشر، لا الشر إزاء الشر" .

اضف تعليق