وبما ان تعريب المصطلح وتفسيره وترجمته تعد مسألة فنية صرفة، فلابد وان تتولى هذه المهمة جهة فنية مختصة، وتقدم تقريرها الفني بهذا الصدد، ولا يجوز للمحكمة او القاضي ان يبدي رأيه او تفسيره الشخصي للمصطلح الأجنبي وبيان دلالته على معلوماته الشخصية، وحتى لو كان على...
تتولى المحاكم بجميع أنواعها ودرجاتها مهام الفصل في المنازعات بين الخصوم وتطبيق القانون، واثناء هذه المهمة تمارس عملية تفسير النصوص سواء القانونية او الدستورية احياناً، لكن يجب ان يكون هذا التفسير بمناسبة نزاع قائم، بمعنى ليس بمهمة مستقلة بذاتها، فضلاً عن غاية التفسير هو الوصول الى الحكم العادل، لان مهمة تفسير النصوص الدستورية تتولاها المحكمة الاتحادية العليا بموجب المادة (93/2) من الدستور، اما مهمة تفسير النصوص القانونية يتولاها مجلس الدولة بموجب احكام قانون مجلس شورى الدولة رقم 65 لسنة 1979،
الا ان بعض القضايا التي تنظرها المحاكم يصادف فيها مصطلحات فنية او هندسية او أدبية او في ميادين أخرى، وهذا المصطلح له اثر مهم في الفصل في النزاع وقد يكون هو محل النزاع، مثال ذلك ما ورد في الدعوى التي نظرتها المحكمة الاتحادية العليا العدد 326/اتحادية/2023 محل البحث، حيث ان المدعي طلب الحكم بعدم دستورية عبارة (الجندر) الواردة في تعليمات تشكيلات دوائر الأمانة العامة لمجلس الوزراء ومهماتها رقم 4 لسنة 2017.
ولوحظ ان المدعي أسس دعواه على ان استخدام (عبارة الجندر) باعتبارها مفهوم مخالف لقيم الإسلام، وفسر المدعي هذا المصطلح على انه غطاء لأفكار منحرفة، ثم استجابة المحكمة الموقرة الى هذا الطلب واعتبرت عبارة (الجندر) غير دستورية، وعند تسبيب الحكم بعدم الدستورية تطرقت المحكمة الى بيان ماهية هذا المصطلح (الجندر) وبنت حكمها على تفسير لها وتعريب لهذا المصطلح، كما انها اعتبرت ان العبارة إنكليزية انحدرت من اصل لاتيني وتعني الجنس من حيث الذكورة والانوثة.
المناقشة:
1- ان اعتماد المحكمة للحكم بعدم الدستورية استند بتمامه على أساس تعريف للمصطلح سواء بتعريبه باعتباره مصطلح دارج في اللغة العربية بنطقه الأجنبي، او ترجمة للمصطلح، من خلال إيجاد مفردات عربية تقابل المصطلح وتمنحه المفهوم الذي قصده، والسؤال الذي استهله عنوان هذه القراءة، هل هذا التفسير للمصطلح، من مهام المحكمة؟ فاذا كان التفسير والتعريب للمصطلح او ترجمته، هو مسألة قانونية، فإنها بلا أدنى شك تكون من مهام المحكمة، لأنها تعنى بالمسائل القانونية.
2- اما اذا كان تفسير المصطلح الأجنبي وإيجاد ترجمته او تعريبه او بيان دلالته اللغوية والاصطلاحية، بما يقابله في اللغة العربية، فإنها تخرج عن اختصاصها لأنها أصبحت من الأمور الفنية التي لابد من وجود جهة فنية مختصة تتولى بيان دلالة هذا المصطلح الأجنبي، او تعريبه حتى يتبين معناه ودلالته، في ضوء سياق النص، وبما ان المحكمة الاتحادية تعمل على وفق قانون الاثبات رقم 107 لسنة 1979 المعدل وعلى وفق ما ورد في المادة (19) من النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا رقم (1) لسنة 2022، في ما يتعلق بالخبرة الفنية فان القانون الزم المحكمة بالاستعانة بالخبراء المختصين في المسائل الفنية وعلى وفق احكام المادة (132) من قانون الاثبات.
3- وبما ان تعريب المصطلح وتفسيره وترجمته تعد مسألة فنية صرفة، فلابد وان تتولى هذه المهمة جهة فنية مختصة، وتقدم تقريرها الفني بهذا الصدد، ولا يجوز للمحكمة او القاضي ان يبدي رأيه او تفسيره الشخصي للمصطلح الأجنبي وبيان دلالته على معلوماته الشخصية، وحتى لو كان على درجة عالية من المعرفة ويتوفر على الكفاية اللازمة، لان ذلك يتعارض مع مبدأ امتناع القاضي عن الحكم بناء على رأيه الشخصي، وعلى وفق ما ورد في المادة (8) من قانون الاثبات التي جاء فيها الاتي (ليس للقاضي ان يحكم بعلمه الشخصي الذي حصل عليه خارج المحكمة، ومع ذلك فله أن يأخذ بما يحصل عليه من العلم بالشؤون العامة المفروض المام الكافة بها.) وحتى لو كان هناك من يرى ان معرفة مفهوم ودلالة المصطلح مما يحيط بعلمه الكافة، فان (الجندر) هو محل خلاف فقهي ولغوي، ولا يمكن ان يكون من علم الكافة.
وانما لابد من وجود المختص فضلاً عن آلية تعريبه التي حصرها القانون بجهة واحدة وهي المجمع العلمي العراقي، وتبقى هذه من مهام الخبير، وهذا ما قررته اغلب كتب الفقه القانوني، واحكام محاكم التمييز او النقض في بعض البلدان العربية، حيث يرى هؤلاء الفقهاء وشراح القانون بان القاضي لا يمكن له ان يكون ملما بكافة العلوم والفنون، وذلك مؤداه أن على المحكمة ان تلجأ الى الخبرة إذا صادفتها مسألة فنية أو علمية تخرج عن الإطار القانوني.
4- اما في القانون العراقي فان تعريب المصطلح الأجنبي له جهة فنية مختصة، وهي المجمع العلمي العراقي وعلى وفق مال ورد في المادة (9) من قانون الحفاظ على سلامة اللغة العربية رقم 64 لسنة 1977 التي جاء فيها الاتي (يكون المجمع العلمي العراقي المرجع الوحيد في وضع المصطلحات العلمية والفنية وعلى الاجهزة المعنية الرجوع اليه بشأنها)، وفي هذا النص وجوب قانوني على أي جهة تتعامل مع المصطلح سواء الادبي او العلمي او الاجتماعي، بان تعود الى المجمع العلمي العراقي حتماً، فضلا عن المادة (3/خامساً) من قانون المجمع العلمي العراقي رقم 22 لسنة 2015 التي جاء فيها الاتي (يسعى المجمع العلمي العراقي الى تحقيق اهداف هذا القانون بالوسائل الآتية: خامساً – وضع مصطلحات العلوم والآداب والفنون والالفاظ الحضارية التي تسهم في حركة التعريب.)
الخلاصة: ما يخلص اليه هذا العرض، بان بيان ماهية مصطلح الجندر لابد وان يكون بتقرير فني يقدمه المجمع العلمي العراقي لأنه صاحب الاختصاص الحصري على وفق ما تقدم، اما الخوض في بيان دلالته ومعناه اللغوي او الاصطلاحي او حتى ترجمته، لا يجوز ان يكون سبباً للحكم، مهما كانت الجهة التي تولته متوفرة على الكفاية اللازمة، او انها اعتمدت على كتب المختصين في اللغة وعلومها، لان تبقى هذه دراسات فقهية قابلة لإثبات عكس ما ورد فيها، والقانون منح هذه الصلاحية للمجمع العلمي العراقي حصراً.
والفرضية التي من الممكن اثارتها، ماذا لو كان للمجمع العلمي رأي اخر في تعريب هذا المصطلح، ويتقاطع مع ما استندت اليه المحكمة، فما هو الموقف من الفقرة الحكمية التي تتمتع بالإلزام للسلطات كافة، وبين الاختصاص الحصري الذي يلزم الجميع باتباعه والوارد في نص قانون الحفاظ على سلامة اللغة العربية، مع التنويه الى ان قرار الحكم لم ترد فيه أي إشارة الى استعانة المحكمة بالمجمع العلمي العراقي.
اضف تعليق