تفاقمت محنة المسلمين ومعاناتهم بعد استحكام مثلث التناقضات الثقافية والعرقية والمصلحية وتعاظم أزمة الثقة بينهم وبين السلطات الحكومية، التي باتت تتوجس أكثر من النافذة الدولية التي فتحت تدريجيا على معاناة الايغور لتجد فيها مبرراً وفرصةً للضغط على بكين ومساومتها في ملفات عالقة وساخنة جدا على الساحة الدولية...

مع قوافل التجار العرب المسلمين، قدم الاسلام الى الصين منتصف القرن السابع الميلادي؛ ليستقر أوائل المسلمين على تخوم طريق الحرير والموانئ الصينية، ويتنامى تأثيرهم وحضورهم الاقتصادي والسياسي والثقافي في المشهد الصيني -لاحقاً- بعد تولي أسرة يوان المنغولية الحكم في الصين للأعوام (1206- 1368) بعد أن استقدمت الالاف من الايغور المسلمين الناطقين باللغة التركية من منغوليا [35] الى منطقة تركستان الشرقية في الشمال الغربي للصين التي تقع اليوم بين منغوليا وكازخستان شمالا، وقيرغستان، طاجكستان، أفغانستان، باكستان، والهند جنوبا، بغية الاستعانة بخبراتهم في إدارة شؤون البلاد وترسيخ نفوذهم.

بيد أن العصر الذهبي للمسلمين الايغور وحكمهم الذاتي في إقليم تركستان، قد انتهى بوصول أسرة (ما نشو تشينغ ) الى سدة الحكم في الصين منذ عام 1644 م. ليبدأ مع إطلالة القرن التاسع عشر عهد من الصراع الدموي المكلل بالثورات التي قادها مسلمو الايغور في تركستان الشرقية ضد محاولات هذه الاسرة الحاكمة لفرض سيطرتها على هذا الاقليم واذلال سكانه من المسلمين وقمعهم، حتى تم له ذلك بصورة رسمية وفعلية في عام 1884، فاستبدل اسمه الى (شينجيانغ - وترجمتها الحرفية بالأراضي الجديدة” ).

وهكذا تسببت عقدة التأريخ والتناقضات العرقية والثقافية والمصالح الاقتصادية في استنبات واستدامة، محنة المسلمين الايغور في الصين التي استوعبت، مع تقادم الوقت، ركاماً متزايداً من الدمار والظلم والتهميش الذي لحق بهذه الاقلية المسلمة من بطش السلطات الحاكمة بذريعة ضمان الامن والوحدة الوطنية ومكافحة الارهاب والافكار الانفصالية الهدامة.

وعلى إثر قيام الثورة الصينية عام 1949 اجتاحت القوات الصينية الماوية اقليم شينجيانغ (تركستان الشرقية سابقا) بعد قتال عنيف. ومنذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، دخل هذا الاقليم الاكبر والاغنى من بين اقاليم الصين في دوامة جديدة من البطش والتنكيل، بعد أن حاول ويحاول النظام الحاكم في بكين، فرض تعاليمه الماوية وثقافته الصينية على سكانه من المسلمين الايغور البالغ عددهم نحو 11 مليون نسمة، بكل الاساليب والوسائل من أجل القضاء على هويتهم الثقافية، وكبح جماح تطلعاتهم الانفصالية، واستغلال ثروات إقليمهم، انطلاقا من مجموعتين من الدوافع والحسابات:

أولها: الحسابات الايديلوجية المعتمدة على نظرة الحزب الشيوعي الصيني لمفهوم القومية والدولة الحضارية باعتبار إن أي مجموعة عرقية لا تنتمي إلى أغلبية “الهان” تصنف على أنها “أقلية عرقية تنتمي الى الشعب الصيني الذي ينطبق عليه وصف الحضارة أكثر من وصف الامة، وهي الفكرة التي ترجمت عند التطبيق الى سلسلة من السياسات الاستيعابية للهويات المحلية للأقليات ومحاولة دمجها القهري في الهوية الصينية، ولعل هذا المنظور الايدلوجي هو ما جعل النظام الصيني ينظر الى الهوية الإسلامية للايغور على انها تشكل خطراً كبيراً على الثقافة الصينية، وتهديدا لأمنها ونسيجها الثقافي؛ ويسعى بكافة الوسائل إلى طمس الشخصية الإسلامية، وإذابتها في بوتقة الثقافة الصينية عبر سلسلة من عمليات غسيل الدماغ والقمع الفكري والتطهير الديني والعِرقي، تحت ذريعة ودعوى القضاء على ما يسمى بـ “الشرور الثلاثة” المتمثلة في “الانفصال والتطرف الإسلامي والإرهاب”.

ثانيها: الحسابات الاستراتيجية المستنبطة من أهمية موقع اقليم شينجيانغ بوصفه أحد معابر ما يسمى بطريق الحرير، والمنطقة العازلة بين الصين من جهة وروسيا والدول التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي السابق في (كازاخستان، وقيرغستان، طاجكستان)، ويشكل من المنظور الاستراتيجي للرئيس الصيني (شي جين بينغ) بوابة الصين نحو آسيا الوسطى ومواردها، حيث تربط شينجيانغ الصين بحقول النِّفط والغاز في قرغيزستان وآسيا الوسطى ما يعني أنَّ للموقع المُميَّز أهمية كبرى، وسبب رئيس في كبح طموحات الايغور الانفصالية.

فضلا عن اهمية الموارد الطبيعية التي يزخر بها هذا الاقليم ذي الغالبية الاسلامية والتي تعد أحد أهم الأسباب التي تدفع الصين إلى التمسك به ضمن حدودها الجغرافية؛ إذ يتمتع الإقليم بالموارد المعدنية الطبيعية من اليورانيوم، الذهب، والبترول. كما يعتبر من أكبر الأقاليم المنتجة للغاز الطبيعي في الصين وثالث أكبر منتجي النفط في المنطقة.

وهكذا خضع المسلمون الايغور منذ خمسينيات القرن المنصرم لسلسلة متواصلة من حملات القمع والترهيب والتهميش التي شنها ضدهم النظام الشيوعي الصيني، أسفرت عن استفزازهم (أي المسلمين) وإشعارهم بالتهديد والقهر والعزلة والاعتزاز التام بثقافتهم الاسلامية ولجوئهم المتكرر الى أعمال العنف والتخريب الذي بلغت ذروته في أحداث عام 2009 التي راح ضحيتها أكثر من 200 شخص.

وحتى بعد انطفاء جذوة الحرب الباردة عام 1991، لم يخلع النظام الشيوعي الصيني، عباءته الايديلوجية، ولم يتخل عن سياسته الاستيعابية والقمعية للمسلمين الايغور في اقليم شينجيانغ، فكان إعلان الولايات المتحدة الامريكية الحرب على الإرهاب في أعقاب هجمات 11 سبتمبر عام 2001، فرصةً ذهبيةً إقتنصتها حكومة بكين لشن جولة جديدة من حملات التصفية العرقية والتضييق على الحريات الدينية ضد المسلمين الايغور تحت ذريعة مكافحة الارهاب والتطرف، عبر سلسلة من الممارسات والاجراءات الممنهجة يمكن إجمالها بالاتي :

- تعزيز الاجراءات الامنية ضد مسلمي الايغور بتكثيف حملات المداهمة الدورية لمنازلهم واعتقال الالاف منهم[1]، وإغراق إقليم شينجيانغ بعشرات آلاف من العناصر الامنية وكاميرات المراقبة ومراكز الشرطة في كل منطقة ضمن الاقليم. وقد ذكر تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" أن السلطات الصينية تستخدم نظاماً واسع النطاق مبنياً على تكنولوجيا دُمجت في شبكات الصين الضخمة لكاميرات المراقبة للتعرف على وجوه الايغور وتتبعهم في أنحاء الصين.

- التعذيب والتغييب لألاف الايغور داخل السجون الصينية تحت ذريعة محاربة الارهاب او الانفصال والتطرف. وفي هذا السياق يقول الدكتور (مانفريد نوفاك) -المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالتعذيب-” على مدى السنوات الماضية استخدمت السلطات الصينية الكثير من طرق التعذيب منها الهراوات والصدمات الكهربائية والسياط، وأغطية الرأس والعينين، والإبر، والزيت الحار لتعذيب السجناء من بين أشكال أخرى مثل الحرمان من النوم وغمر المياه وتشويه الجسد. وتشير مصادر المعارضة الإيغورية أنه منذ عام 2000 قتل ما يقرب من 190 من الايغور تحت التعذيب في السجون الصينية “

- العزل الجماعي للمسلمين الايغور ببناء "سور عظيم من الفولاذ" حول مقاطعة شينجيانغ بأمر الرئيس الصيني (شي جينبنغ) منذ عام 2009 بعد سلسلة من أعمال الشغب في عاصمة المقاطعة؛ تبع ذلك قيام السلطات المحلية في هذا الاقليم عام 2014 بأنشاء “معسكرات للاعتقال الجماعي لأكثر من مليوني مسلم من الايغور تحت ذريعة ومسمى إعادة التثقيف السياسي”.

- زيادة القيود على ممارسة الشعائر الدينية للايغور ولاسيما بعد عام 2016 حينما اتخذت السلطة المحلية للإقليم حزمة من القرارات التي تحد من الحريات والشعائر الاسلامية بذريعة مكافحة التطرف والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. من بينها (حظر بعض الأسماء الإسلامية للأطفال الرضع، ومنع اللحى الطويلة والحجاب، تجريم عدم مشاهدة التلفزيون الحكومي وعدم إرسال الأطفال إلى المدارس الحكومية). كما حظرت السلطات الصينية الصيام على الموظفين والطلاب والمدرسين، طوال شهر رمضان في اقليم شينجيانغ”

- التهجير والتصيين للمنطقة والمسلمين الايغور بتهجير جماعة “الهان” لسكن اقليم شينجيانغ بعد اغرائهم بتوفير المساكن وفرص العمل لهم ومنحهم الاولوية في التوظيف في مقابل إهمال الحكومة لجماعة الايغور وعدم تمكينهم من تقلد المناصب السياسية أو الاقتصادية في الإقليم من خلال وضع عدد من العراقيل والقيود عليهم لتقلد المناصب السياسية، الى جانب إجبارهم على تعلم اللغة الصينية الرسمية (المندارينية) ووضعها كلغةٍ أصلية في شينجيانغ في محاولة لمحو ثقافتهم الاسلامية والعرقية التركية المختلفة ودمجهم في الثقافة الصينية.

- استمرار عمليات التدمير لمساجد ومساكن الايغور والأماكن التاريخية في مدن اقليم شينجيانغ بحجة تطوير المدينة وإقامة مساكن حديثة يسكن فيها الهان المهاجرين من داخل الصين إلى الإقليم. وكشفت صور التقطت بالأقمار الاصطناعية أن ثلاثين مسجدا اختفى منذ 2017 في شينجيانغ ولم تعد ستة مساجد أخرى تستخدم إذ إن قبة ومئذنة كل منها لم تعودا موجودتين.

وفي الوقت الذي تستمر فيه السلطات الصينية بحملاتها القمعية ضد المسلمين الايغور، فإنها تدعي بانها تأتي في سياق الجهود الدولية لمكافحة الارهاب والتطرف المتزايد في الاقليم، فضلا عن كونها استجابة حكومية اضطرارية لفرض الامن والنظام في مواجهة محاولات الانفصال والاضطرابات المفتعلة من جانب مسلمي الايغور.

على صعيد متصل تنفي الحكومة الصينية التقارير الدولية حول حالات الاعتقال الجماعي والتعذيب والتعقيم القسري وغيرها من الاجراءات القمعية، وتصفها بانها مجرد "أكاذيب ومزاعم سخيفة"، وإن المعسكرات في شينجيانغ ليست معسكرات اعتقال وإنما "مراكز تعليم وتدريب مهني تصان فيها الحقوق والحريات".

وما بين الانكار والاثبات وتبادل التهم بين حكومة بكين والايغور، تفاقمت محنة المسلمين ومعاناتهم بعد استحكام مثلث التناقضات الثقافية والعرقية والمصلحية وتعاظم أزمة الثقة بينهم وبين السلطات الحكومية، التي باتت تتوجس أكثر من النافذة الدولية التي فتحت تدريجيا على معاناة الايغور لتجد فيها مبرراً وفرصةً للضغط على بكين ومساومتها في ملفات عالقة وساخنة جدا على الساحة الدولية، وبكل الاحوال لم ولن تتخل هذه الاخيرة عن خططها المستقبلية وسياساتها الاستيعابية لاحتواء الايغور ودمجهم القسري بالثقافة الصينية، وغدا لناظره لقريب..

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2021
www.fcdrs.com

....................................
مراجع مختارة
- عبد الامير رويح، الايغور في الصين: اقلية تضطهد في صمت، على الرابط: https://m.annabaa.org/arabic/rights/19825، تاريخ الزيارة 29 /3/2021.
- منى عبد الفتاح، الايغور في الصين... اقلية خذلها طرق الحرير، على الرابط، https://rawabetcenter.com/archives/105241، تاريخ الزيارة 28/3/2021
- حنان صبحي عبد الباقي، مشكلة الايغور وأبعادها الجيوبوليتيكية من المنظور الصيني، بحث منشور على الموقع الالكتروني للمركز الديمقراطي العربي بتاريخ 16/7/2020، على الرابط: https://democraticac.de/?p=67829
الهوامش
(1) من ذلك على سبيل المثال قيام السلطات الحكومية عام 2006 باعتقال 18 ألف إيغوري تحت ذريعة محاربة الانفصاليين والمتطرفين.

اضف تعليق