كيف تسمح لنفسها اليوم أن تلاحق قادة دول ومنظمات وحركات تحرّر شعبية وفقاً لقوانينها في حين أنها ترفض مثول أفرادها للقضاء الدولي عن جرائم ارتكبوها بحق شعوب ودول مستقلة بموجب مواثيق واتفاقيات دولية، من جانب محكمة تتلقّى ملفات يحيلها إليها مجلس الأمن الدولي في الكثير من الأحيان؟...
"فرضنا عقوبات على أعضاء المحكمة الجنائية الدولية، وسوف تُتخذ الإجراءات المناسبة في حال إقدامها على إصدار قرارات بشأن الجنود الأمريكيين، ونرفض قرارات المحكمة التي تتعلّق بإسرائيل، ولن نقبل أن يمس أحد أفرادنا وحلفاءنا..." هذا ما قاله مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي في مؤتمر صحفي عقده نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس، ضمّه إلى وزير العدل ويليام بار ووزير الدفاع مارك أسبر ومستشار الأمن القومي روبرت أوبراين.
وإذا ما عرفنا أن هذا الكلام يقال بمناسبة صدور أمر تنفيذي من الرئيس دونالد ترامب تحت عنوان "حماية الأمن القومي الأمريكي"، سندرك أهمية، بل خطورة، مثل هذا الكلام الذي يأتي عقب اتخاذ المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية قراراً في شهر مارس (آذار) المنصرم، قضى بالمضي بتحقيقات بخصوص الجرائم التي ارتكبها الجنود الأمريكان في أفغانستان، حيث خدم فيها نحو 800 ألف جندي منذ غزوها العام 2001 ولغاية العام الجاري 2020، وكانت واشنطن قد قررت الانسحاب من أفغانستان بعد توقيع اتفاقية مع تنظيم طالبان في فبراير (شباط) الماضي 2020.
أما روبرت أوبراين فقد أضاف على كلام بومبيو بأن واشنطن ستفرض عقوبات على مسؤولي المحكمة وعائلاتهم في حال اتخاذها إجراءات ضد جنود الجيش الأمريكي وأفراده، وزاد على ذلك وليام بار اتهام المحكمة بالفساد مؤكداً أن النظام القضائي الأمريكي هو أفضل من أي نظام، وقال إن القرار يهدف إلى الدفاع عن "السيادة الأمريكية" وأن المحكمة تستهدف "العدالة الأمريكية".
وقارب مارك أسبر المسألة من زاوية أخرى حين قال: لن نسمح بمحاكمة مواطنين أمريكيين بقضايا " غير شرعية"، وأن رجال ونساء الجيش الأمريكي لن يمثلوا بأي حال من الأحوال أمام المحكمة الجنائية الدولية، وإننا نعمل على دعم القانون وحقوق الإنسان.
وتطرح هذه المعطيات ثلاث قضايا قانونية دولية أمام الباحث:
أولها- لمن العلوية للقانون الوطني أم للقانون الدولي؟ وهي إشكالية قديمة- جديدة، وإذا كان هناك في واشنطن من يقول سمو القوانين الأمريكية على جميع القوانين، لأنها الأفضل والأرقى، فلماذا تطالب الولايات المتحدة دول العالم وشعوبها بالخضوع للقانون الدولي؟ ولعلها لا تتحرّج عن مثل هذا التناقض الصارخ الذي لا يقبله المنطق القانوني ولا ترتضيه الدول مهما كانت صغيرة أم كبيرة.
وثانيها- فكرة السيادة، التي لم تعد "مطلقة" ، بل إن واشنطن هي من أوائل الدول التي بشّرت بهدم مبدأ السيادة التقليدي واعتبار قاعدة حقوق الإنسان ذات سمة أرقى من بقية قواعد القانون الدولي المعاصر، وكانت تصرّ خلال صراعها الآيديولوجي مع المعسكر الاشتراكي على ذلك، ونجحت في تثبيت هذه القاعدة العلوية كقاعدة مستقلة في مؤتمر هلسنكي للأمن والتعاون الأوروبي العام 1975 الذي حضرته مع كندا، إضافة إلى 33 دولة أوروبية ، فكيف لها أن تقول بتقدّم السيادة على حقوق الإنسان؟
وثالثها- موضوع العدالة الدولية وعلاقتها بالعدالة الأمريكية ، فكيف تهمل واشنطن ما تراكم من قواعد قانونية دولية ذات صفة إنسانية فيما يسمى بالقانون الإنساني الدولي، وخصوصاً اتفاقيات لاهاي لعام 1899 و1907 واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، وتضع نظامها القضائي فوق النظام القضائي الدولي، بل تهدّد الأخير بالعقوبات ، ضاربة عرض الحائط التراكم الدولي التاريخي على هذا الصعيد.
والسؤال اليوم إذا كانت واشنطن ترفض إخضاع جنودها للمحكمة الجنائية الدولية التي تأسست في روما العام 1998 وسبق لها أن انضمت إليها ومعها "إسرائيل"، ولكنها حين دخلت حيّز التنفيذ العام 2002 انسحبت منها ومعها حليفتها، فكيف تسمح لنفسها اليوم أن تلاحق قادة دول ومنظمات وحركات تحرّر شعبية وفقاً لقوانينها في حين أنها ترفض مثول أفرادها للقضاء الدولي عن جرائم ارتكبوها بحق شعوب ودول مستقلة بموجب مواثيق واتفاقيات دولية، من جانب محكمة تتلقّى ملفات يحيلها إليها مجلس الأمن الدولي في الكثير من الأحيان؟
ومن المفارقة أن واشنطن حين تتحلّل من القوانين الدولية وتزدري القضاء الدولي، تسمح لنفسها بفرض قوانينها الخاصة على الآخرين، كما هو "قانون قيصر" الذي دخل حيّز التنفيذ ضد سوريا بفرض حصار مشدّد عليها وعقوبات على من يتعامل معها، باعتبارها صاحبة " حق" يميل معها حيثما تميل ، مثلما قامت بقصف مدينتي هيروشيما ونكازاكي اليابانيتين بالقنابل الذرية في العام 1945 عشية انتهاء العمليات الحربية، واستخدمت " سياسة الأرض المحروقة" في حربها ضد فيتنام ومارست حصاراً ضد كوبا لمدة 6 عقود من الزمان، واحتلت أفغانستان بزعم القضاء على الإرهاب الدولي، وكانت قد فرضت حصاراً شاملاً ضد العراق لأكثر من 12 عاماً استهدفت منه تجويع وإذلال شعب كامل ، ثم قامت باحتلاله وتدمير الدولة العراقية بجعلها عرضة للعنف والإرهاب وفرضت عليها نظاماً طائفياً إثنياً؛ فعن أي عدالة نتحدث وكيف يمكن مساءلة المرتكبين عن جرائم دولية حسب القانون الدولي؟!
اضف تعليق