لماذا تستبدل الدولة وظيفتها، وهي حفظ وتنظيم حياة الناس وضمان أمنهم وممتلكاتهم وتطبيق النظام العام بوظيفة جماعة خارجة على القانون، في حين أن مسؤولياتها تأمين التطبيق السليم للقانون على الجميع؟ وهل تستطيع الدولة أن تتذرع بعدم معرفتها؟ وهل بإمكان المسؤولين فيها إعفاء أنفسهم من المساءلة؟...
إن خبر اختفاء الناشر والإعلامي مازن لطيف، صاحب دار ميزوبوتيميا والإعلامي والكاتب توفيق التميمي في بغداد، يعيد إلى الأذهان ملف الإختفاء القسري الذي ظلّ يتضخّم باستمرار، حيث يعاني 88 بلداً منه، وامتدّ خلال العقود الأربعة الماضية إلى معظم القارات والبلدان منها العراق ولبنان وسوريا وليبيا والجزائر والمغرب وإيران وتشيلي والأرجنتين والعديد من دول أمريكا اللاتينية وبعض دول آسيا وأفريقيا، ولم تسلم منها بلداناً متقدمة مثل فرنسا، ولعلّ جيلي يتذكّر حادث الاختفاء القسري للمهدي بن بركة من مقهى ليب في باريس.
اختفاء قسري
وأستطيع القول أن قلّة من الذين اختفوا قسرياً أُجلي مصيرهم، فقد ظلّ المرتكبون حريصين على إخفاء كل أثر لهم، وباستعادة أسماء لامعة اختفت قسرياً منذ سنوات طويلة المهدي بن بركة 1965؟ موسى الصدر 1978 صفاء الحافظ وصباح الدرة وعايدة ياسين 1980؟ عزيز السيد جاسم 1991؟ عز الدين بحر العلوم وعدد من عائلته وعائلة آل الحكيم 1991؟ شبلي العيسمي 2011؟ والاستثناء في ذلك هو إجلاء مصير منصور الكيخيا الذي اختفى منذ العام 1993 في القاهرة، حين كنّا في اجتماع للمنظمة العربية لحقوق الإنسان، ومنها نُقل إلى طرابلس بصورة سرّية حسبما انكشفت القصة لاحقاً، ومكث في معتقل سرّي لغاية العام 1997 وتوفي بعدها.
الكيخيا لم يُدفن حينها وإنما استبقي في ثلاجة (برّاد) لغاية العام 2011؟ وكُشفت ملابسات اختفائه بعد أن أدلى عبدالله السنوسي مدير المخابرات السابق باعترافاته. وقامت الدولة- الثورة بتكريمه في حفل مهيب (ديسمبر /كانون الأول/2012) ووجه حينها رئيس الوزراء علي زيدان ورئيس المؤتمر الوطني محمد المقريف دعوة لكاتب السطور لحضور الاحتفال الرسمي الذي أقيم تكريماً له وسبق لي أن أصدرت كتاباً عنه (1998) بعنوان "الاختفاء القسري في القانون الدولي- الكيخيا نموذجاً".
زاوية حقوقية
وفي كل عام بين ديسمبر (كانون الأول) وشباط (فبراير) وما بعده أستعيد ظاهرة الاختفاء القسري وملابسات العديد من الحالات التي اشتغلت عليها، من زاوية حقوقية وفلسفية واجتماعية وأخلاقية وقانونية، فالمرتكبون في السابق والحاضر يراهنون على النسيان وذبول الذاكرة، لاسيما بمرور الزمن فتضعف المطالبة بإجلاء مصير المختفين قسرياً، وتتلاشى القضية تدريجياً، بل ويصبح الأمر مجرد ذكرى، ولهذا فهم يعمدون على التعتيم ويثيرون غباراً من الشك لإبعاد الموضوع عن دائرة الضوء وإبقائه في دائرة الظلّ، ولعلهم يأملون أن تتآكل القضية مع مرور الأيام وذلك في إطار دورة الزمن وازدحام الأحداث.
وكنتُ أتساءل مع نفسي عند كل حالة اختفاء قسري، لماذا تمارس سلطة رسمية أو جهات تابعة لها أو بمعرفتها مهمات أبعد ما تكون عن وظائف الدولة، وكأنها أقرب إلى مهمات "عصابة" فتخفي أثر مواطنة أو مواطن أعزل وتضيّع سبل الاهتداء إليه أو الاستدلال على مكانه، وبالتالي معرفة مصيره، وبإمكانها إلقاء القبض عليه وتقديمه إلى القضاء إذا كان "متهماً" بارتكاب " جريمة" ما أو قام بمخالفة ما، عوضاً عن إخفائه قسرياً في جنح الظلام، علماً بأنه لا يملك إلا الامتثال للإجراءات القانونية.
رأي عام
ويسأل الرأي العام: لماذا تستبدل الدولة وظيفتها، وهي حفظ وتنظيم حياة الناس وضمان أمنهم وممتلكاتهم وتطبيق النظام العام بوظيفة جماعة خارجة على القانون، في حين أن مسؤولياتها تأمين التطبيق السليم للقانون على الجميع؟ وهل تستطيع الدولة أن تتذرع بعدم معرفتها؟ وهل بإمكان المسؤولين فيها إعفاء أنفسهم من المساءلة؟ وأين هي التحقيقات اللازمة؟ فتلك أسئلة برسم الدولة والقانون والقضاء.
إن ارتكاب جريمة " الاختفاء القسري" تعني انتهاك قواعد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان في أكثر من محور، سواء لحقوقه الفردية أم لحقوقه الجماعية المنصوص عليها في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، ويمكننا مقاربة ذلك من خلال:
حق الحياة
1- حق الحياة والحرية والأمان الشخصي.
2- الحق في ظروف احتجاز إنسانية، أي عدم التعرّض للتعذيب أو المعاملة القاسية أو الحاطة بالكرامة.
3- الحق في الاعتراف بالإنسان كشخصية قانونية، فالاختفاء القسري يحجب عن الإنسان الحق في إعلان شخصيته، لأنه مجهول المصير والمكان.
4- الحق في محاكمة عادلة .
5- الحق في حياة أسرية طبيعية.
وكانت الأمم المتحدة قد أولت قضية الاختفاء القسري اهتماماً متزايداً، ففي العام 1979 أصدرت قراراً بعنوان "الأشخاص المختفون" وفي العام 1980 أنشئ الفريق العامل المعني بمتابعة حالات الاختفاء القسري، وفي العام 1992 أصدرت إعلاناً أطلقت عليه "إعلان بشأن حماية الأشخاص من الاختفاء القسري أو غير الطوعي" معتبرة ذلك جريمة مستمرة باستمرار مرتكبيها في التكتم على مصير الضحايا، وهي جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم ولا يستفيد مرتكبوها من أي قانون عفو خاص. واعتمدت اتفاقية دولية في العام 2006 نصت على منع الجريمة والتحقيق في معاقبتها تساوقاً مع قرارها رقم 39 الصادر في العام 1994 والذي عبّرت فيه عن قلق المجتمع الدولي إزاء استمرار هذه الظاهرة.
اضف تعليق