كثيرا ما يجد المواطنون الناخبون أنفسهم في حيرة من أمرهم؛ لأنهم لم يحسموا بعد قرارهم في اختيار المرشح المناسب الذي يمكن أن يمثلهم في السلطة، لاسيما مع تعدد المرشحين وتعدد القوائم الانتخابية، دون مرجحات لصالح هذا المرشح أو تلك القائمة. وقد تكون الوسائل الإعلامية المتنوعة التي تستخدمها الكتل والأحزاب السياسية والمرشحون، في عصر الاتصالات والمعلومات، عاملا مؤثرا على توجهات الناخبين واختياراتهم، وهو الأمر الذي يشوش آراء الناخبين، ويصعب من مهمتهم.
ربما تكون بعض القوائم الانتخابية وبعض المرشحين المستقلين قد أمنوا بنحو من الأنحاء أصوات بعض مؤيدهم ممن ينتمون لهم سياسيا أو عرقيا أو طائفيا، أو على الأقل هم مطمئنون إلى حد ما إلى استمالة تلك الأصوات، ولكن العديد من المرشحين يراهنون على أصوات الأكثرية الساحقة من المواطنين الذين لم يحسموا أمرهم؛ لأن تلك الأصوات-في العادة-هي الورقة الرابحة التي توصل المرشحين إلى المقاعد النيابية أو تنحيهم بعيدا عنها.
كيف يمكن لأكثرية المواطنين أن يختاروا من بين القوائم الانتخابية ومن بين المرشحين من يستطيع أن يمثلهم أفضل تمثيل، وينوب عنهم في البرلمان والسلطة في أحسن صور النيابة؟ كيف يمكن لأكثرية المواطنين الناخبين أن يؤثروا على نحو جمعي على تغيير الأحزاب السياسية والقيادات المتنفذة، ويستبدلوهم بغيرهم ممن يظنون عنده القدرة والمكنة على إحداث تغييرات جوهرية في إدارة البلاد واعتماد السياسات وإصدار القرارات التي من شأنها تعزيز مكانة المواطنين في السلطة، وتحقق رغباتهم في توفير الصحة والتعليم والعمل؟ وماهي الآليات والوسائل والمعايير التي يمكن أن يعتمدها الناخبون في ترجيح بعض المرشحين عن البعض الآخر؟
الجواب ببساطة ودون تعقيد، لا توجد معايير جاهزة يستعين بها المواطنون الناخبون لاختيار ممثليهم، ولا يمكن أن يلتزم الناخبون بأي معايير جاهزة؛ لان أذواق الناخبين متفاوتة، ولأن دوافعهم متعددة، ولان توجهاتهم مختلفة، ولأن قدرة التأثير الدعائية لا تجد استجابة موحدة لدى الجميع. قد يكون ما يراه بعض المواطنين في هذه القائمة وذلك المرشح غير ما يراه المواطنون الآخرون، وربما يكون بعض المرشحين هو الأصلح في نظر بعض الناخبين بينما يكون غيره هو الأصلح في نظر الناخبين الآخرين، سواء كان ذلك الاختيار نابعا عن اعتقاد وقناعة راسخة أو قائما على أساس دوافع سياسية. كما وأن التأثيرات الدعاية الانتخابية التي يتعرض لها بعض الناخبين قد تختلف عن التأثيرات التي يتعرض لها الناخبون الآخرون. فالأمر ليس سيان.
ومع ذلك، لا ينبغي أن تترك المؤسسات الديمقراطية الرسمية وشبه الرسمية، أمر الاختيارات الانتخابية إلى الصدفة، وإلى قدرة الأحزاب السياسية ومرشحيها في التأثير الدعائي على توجهات المواطنين بمعزل عن الوقائع السياسية والمجتمعية والاقتصادية، ولا ينبغي أن تكون فترة الانتخابات ظاهرة سياسية ومجتمعية لا تتعدى محيطها الانتخابي ولا تتجاوز زمنها المحدد.
ولا ينبغي أن يوضع الناخبون بين خيارين مريين، إحداهما عدم المشاركة بتاتا، لأن اليأس بسط قوته وفرض سيطرته على نفوسهم؛ بناء على استقراءات واقعية للفعاليات السياسية ومنتجاتها الغثة، والآخر هو المشاركة المجهولة العواقب، المبنية على أساس الاختيار العشوائي لكل من وصل أسمه للناخبين بمعزل عن سمعة المرشحين وقدراتهم وأهدافهم وغاياتهم الانتخابية؛ نعم لا ينبغي ذلك، لأن من شأن هذين الخيارين إلا يعطلا العملية الانتخابية وحسب، بل العملية السياسية برمتها، لأن المفروض أن تكون أصوات الناخبين مؤثرة على نحو واضح في تغيير القيادات وتعديل السياسات، وأن تكون نتائج أصوات الناخبين منتجة لمبادرات وبرامج تحدث تغيرا في حياة المواطنين واقتصادهم، وتعزز من فرص تحقيق احتياجاتهم، والاعتماد على المنهجين السالفين -قطعا-لا يوصلنا إلا إلى طرق فضاءاتها مسودة.
والآن، وقبل التفكير في المعايير التي يمكن أن يعتمدها الناخبون في تحديد مرشحيهم المناسبين لابد أن نفكر جمعيا، سواء على مستوى المؤسسات الديمقراطية الحكومية والمجتمعية، أو على مستوى الأحزاب السياسية والمرشحين، في كيفية استعادة ثقة الناس بأصل العملية السياسية، وواحدة من محاورها العملية الانتخابية، قبل التفكير في صلاحية هذا المرشح وعدم صلاحية ذلك المرشح؛ فهذا أمر جوهري ويتعلق بالنظام السياسي والمجتمعي والاقتصادي برمته. فخلق ثقافة "الرضا" عن العملية السياسية لدى المواطنين هو مقدمة أساسية للتفكير في القوائم الانتخابية الأكثر مقبولية من غيرها.
لا يخفى على المهتمين، أن هناك قلق واضح عند الجميع، أن الناس ما عادوا ينظرون بإيجابية إلى نظامنا السياسي الجديد، وما عادوا يحترمون مؤسساته، وما عادوا يمجدون رموزه وشخوصه، وما عادوا يتذكرون منجزاته؛ والحقيقة ما عادوا يحترمون الكثير من الأيدولوجيات والشعارات التي تربى عليها جيل بأكمله منذ خمسينيات القرن المنصرم وحتى بدايات القرن الحادي والعشرين،؛ فالنظام السياسي الديمقراطي الحاكم في بلادنا، لم يتجاوز سلبيات ذلك النظام الدكتاتوري، بل كرس بعضها في صور متعددة، ولم يقدم نموذجا يحتذى به، بل عمق الفجوة المجتمعية، وأوجد شرخا في علاقات المواطنة، بتقصير ممنهج، وبمعونة من صناع ثقافة "الفوضى الخلاقة" وبدفع من صناع ثقافة "القتل الطائفي". هذا القلق يظهر جليا في إمكانية عزوف شريحة من الناخبين عن المشاركة في التصويت، فبعض الناخبين قد لا يريد المشاركة في التصويت لأسباب عدة منها استياؤه من الوضع المعيشي والاقتصادي في البلاد، أو عدم اقتناعه بالمرشحين، أو لا يرى أن صوته سيغير الكثير من القيادات السياسية التي تناوبت على السلطة والحكم مؤخرا.
إن خلق "ثقافة رضا المواطن" عن نظامه السياسي، كمقدمة ضرورية لإيجاد دافع وطني لدى الناخبين، لا يعني ولا يجب أن يعني، أن تخصص الدولة مبالغا مالية لإشاعة الدوافع الانتخابية ونشر شعارات من قبيل "مشاركتك في الانتخابات دليل حرصك على مستقبل بلدك" و"إذا لم تشارك اليوم في الانتخابات فلا يحق لك الاعتراض غدا" و"صوتك ولاءك فانظر لمن تعطي ولاءك" وغيرها، فهذه العبارات لا تجد طريقا قطا إلى قلوب المواطنين، ولا يفضل المواطنون تلفظها؛ لأنها بكل وضوح هي شعارات خالية من الصدق، وفارغة من محتواها، وليس فيها روح.
لذلك، لا أنصح المؤسسات الانتخابية أن تلجأ لمثل هذه الدعايات لدفع الناس للمشاركة في الانتخابات، ولا أجد أن الأموال والجهود التي تنفق في سبيل ذلك ستكون ذات جدوى سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية؛ لان عقول الناس رافضة، وقلوبهم مقفلة، ومفاتيحها لا تكون بمثل تلك العبارات، بل علينا أن نفكر خارج الصندوق، ونبحث عن آليات جديدة من شأنها أن تعيد ثقة المواطن بحكوماته وقياداته وأحزابه ومن ثم ممثليه.
إن إعادة ثقة المواطن بمؤسساته الحكومية، ومن ثم خلق دوافع التفاعل الإيجابي مع أنشطة تلك المؤسسات، متوقفة إلى حد ما على يمكن أن نفعله للمواطن لا على ما نقوله، وعى ما نلتزم به من مبادرات وبرامج ومشاريع لا ما بيتنا له أو ما خططنا له في فورة التنافس الانتخابي. فكل شعار أو عبارة أو دعاية أو قول يراد به كسب صوت الناخب دون أن يكون له ما يؤيده في الواقع، ولا يمكن تطبيقه في المستقبل كوعد للناخبين، ربما يكسب بعض المرشحين وبعض القوائم الانتخابية صوتا هنا وصوتا هناك، ولكن في الواقع أن العملية السياسية وتحديدا العملية الانتخابية قد تراجعت واضمحلت وخسرت؛ لان الناخبين المغشوشين قد أدركوا حينها أن تلك الشعارات وتلك العبارات وتلك الوعود هي هواء في شبك، وأن سعيهم قد ضل.
نعم قد يكون من الصعب حقا أن نلزم المرشحين المستقلين بالالتزام بما يقولون ويعلنون من برامج انتخابية-إن وجدت تلك البرامج-فهؤلاء المرشحون لا يشغل بالهم في فترة الدعاية الانتخابية إلا الترويج لأنفسهم لكسب المزيد من الأصوات الداعمة لوجدهم كأعضاء برلمانيين، وقد لا يعني الكثير منهم أن يكونوا ملتزمين بأقوالهم ووعدوهم، فالكذب وخلف الوعد قد يكونا ديدنهم وجزء من طبيعتهم.
وعليه، يصعب فيما بعد أن يحاسب الناخبون ذلك النائب الذي أوعدهم فاخلف وعده، فمن وصل بالحيلة سهيل عليه أن يبرر شرعية وجوده بالحيلة أيضا. وفي كل الأحوال المرشح لوحده عن قائمة انتخابية حزبية أو كان مستقلا لا يمكن أن يحقق ما يصبوا إليه لخدمة ناخبيه ما لم يتفق مع آخرين يوافقونه الرأي ويشاركونه الأهداف نفسها.
لكن ماذا لو كان المرشح ينتمي لحزب سياسي له أفكاره وتطلعاته، وماذا لو كان المرشح ضمن قائمة تضم عددا من المرشحين تجمعهم أفكار متقاربة وأهداف موحدة، وماذا لو كانت الكتل البرلمانية تمتلك برنامجا انتخابيا رصين، وفرص تحقيقه ممكنة. يبدو أن الحديث في مثل هذه الخيارات للناخبين هو حديث مقبول من حيث المبدأ، وهو ملتقى واسع يمكن أن يجمع الناخبين ومرشحهم في أجواء أقرب إلى التفاهم من التنافر.
بيد أن مناقشة تفاصيل هذا الخيار قد لا تكون مشجعة، فإذا قلنا إن توجهاتنا هي أن ننتخب مرشحين ينتمون إلى أحزاب سياسية قوية، وأن ننتخب قوائم انتخابية رصينة، وأن ننتخب قوائم انتخابية لها برامج انتخابية واضحة وممكنة التطبيق، وأن ننتخب قوائم انتخابية ملتزمة بقولها ووعودها، وأن ننتخب قوائم انتخابية فيها مرشحون فاعلون وأقوياء. وإذا قلنا إن من اليسير مساءلة قادة تلك القوائم الانتخابية أو نحاسب مرشحيها، وأن نحملها المسؤولية في الإخفاقات الحاصلة، فكل هذا لا يعني أن الناخبين قد أحسنوا الاختيار، وقد حصلوا على مرادهم، لماذا؟ لأن التجارب الانتخابية الماضية قد بنيت على نحو ما على هذا الأساس، إلا أن نتائجها لم تكن مرضية بل كانت محبطة للغاية!
إن كثيرا من الأحزاب السياسية العريقة في البلد لم تكن موفقة في عملها على مستوى السلطة التشريعية وعلى مستوى السلطة التنفيذية، فهي لم تلتزم ببرامجها الانتخابية بل لم تلتزم حتى بأيدولوجياتها العقدية التي هي أساسيات وجودها، ولم تقدم في كثير من الأحيان مرشحين فعالين ومؤثرين، ولم تحاسب نوابها وممثليها في السلطة عند خروجهم عن الخط العام للحزب أو الكتلة، كما تنسب لها اليوم كل أعمال الخراب والدمار والسرقة والفساد الإداري والمالي... ولم يعد حزب سياسي أو رئيس تكتل برلماني في منأى عن تلك الاتهامات!
إذن لا يمكن لمرشح مستقل لوحده أن ينجز وعده لناخبيه؛ فصوته لا يسمع في قبة البرلمان، ولا يحسب له حساب، ولا يؤثر في القرارات، ولا يمكن للأحزاب السياسية والكتل البرلمانية أن تحقق وعودها لناخبيها مادام نوابها يغتمون غنائم الشعب وينهشون مؤسساته دون رقيب قوي ودون محاسب مؤتمن.
قد يكون الحل، أو ما نسميه مخرجا، لأن نخلق ثقافة رضا عند المواطن عن النظام السياسي الديمقراطي وعن العلميات الانتخابية، وأن يندفع المواطن نحو صناديق الاقتراع ليدلي بصوته وكله أمل أن يغير ذلك الصوت واقعه المرير، وأن يحقق له بعض احتياجاته في الكرامة والسكن والعمل، هو فكرة (أحزاب البرامج) وهي فكرة تتضمن المنهج الآتي:
1. حزب سياسي قوي: أن تفكر المؤسسات الديمقراطية والحزبية والقيادات والرموز بخلق أحزاب سياسية قوية، محكومة بأنظمة داخلية ديمقراطية محددة، لها قوة استقطاب جمهور واسع.
2. برامج سياسية وانتخابية محددة: أن تلتزم تلك الأحزاب السياسية ببرنامج انتخابي واضح له بدايات ونهايات معينة، لا تحيد عنه قيد أنملة، وتلتزم بتطبيق بنوده وفقراته مهما كانت التحديات.
3. قادة صالحون: أن تعمل هذه الأحزاب والكتل السياسية على خلق وإيجاد قادة سياسيين ومجمعيين صالحين يكون لهم دور فعال في عملية التفكير والتخطيط ومتابعة البرامج والخطط والأنشطة السياسية والانتخابية.
4. رأي برلماني موحد: أن تكون آراء المرشحين في البرلمان معبرة تعبيرا حقيقيا عن تنفيذ ومتابعة تلك البرامج والسياسات التي وعد بها الحزب أو التكتل، وأن تكون قيادات تلك الأحزاب والكتل قادة قادرة على محاسبة ومساءلة النواب المخالفين للبرنامج الانتخابي.
5. مساءلة ومحاسبة قيادة الحزب: أن يحاسب الجهور والناخبون قيادة تلك الأحزاب والكتل السياسية على أية خروقات أو سلوكيات أو أقوال أو أفعال قام بها نواب ومسؤولون ينتمون إلى تلك الأحزاب السياسية، على وفق آليات تقدمها قيادة الحزب للجمهور لتكون أداة للتفاعل والتعاون بين الحزب والجمهور لتطبيق برامج الحزب وأنشطته.
.....................................
اضف تعليق