في ملتقى النبأ الاسبوعي قدم حيدر الجراح مدير مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث ورقة حملت عنوان (التكريس كآلية من آليات انتاج الاستبداد) جاء فيها:
بعيدا عن الدلالة الدينية لهذا المفهوم في المسيحية والتي تعني: التفرغ للقيام بعمل روحي أو كنسي، في الكهنوت أو الرهبنة، أو إعطاء النفس للرب، ليسود عليها، إذ تصبح ملكاً له، وله وحده.
احاول الاقتراب من هذه الكلمة بدلالاتها اللغوية في المعجم العربي وعلاقة ذلك بالاستبداد واعادة انتاجه في الواقع العربي والاسلامي (سياسة – ثقافة - اجتماع)..
فالتكريس هو: (التأسيس - الترسيخ – التثبيت) وهو ايضا ضم الشيء بعضه الى بعض.
جميع الانظمة العربية انظمة مستبدة، قبل الانتفاضات العربية وبعدها.. قد يكون تغير شيء في شخص الحاكم (مصر – تونس) الا انها عادت تجر اذيالها نحو الصورة الاولى التي عرفتها وعاشتها..
من اجهض مشروع البحث عن الحرية في الانتفاضات العربية، ولم يساعد على صناعتها؟
النظام السياسي والثقافي والاجتماعي..
في منتصف السبعينات قام نظام البعث في العراق بعملية (تبعيث – بعثنة) التربية والتعليم في العراق..
اين هي الان مخرجات هذا التبعيث او البعثنة؟
انها في مناصب ادارية عليا بحكم العمر والخدمة، غيرت وتغير فيها مصائر الكثيرين.
من يساهم في صناعة الإنسان منذ طفولته؟.
الاهل والمدرسة..
ما الذي نعطيه لابنائنا؟
دلالات ثقافية متعددة نعيشها ونورثها لأبنائنا والذين بدورهم يكررون صناعتها وتوريثها الى ابنائهم.
في تحليله لإشكالية التسلط التربوي يؤكد الدكتور علي اسعد وطفة: إن التسلط التربوي يؤدي إلى إنتاج الشخصية السلبية التي تعتريها روح الهزيمة والضعف والقصور، وهو يُشكل الإطار العام لعملية تشريط تربوي سلبية تبدأ في إطار الأسرة وتنتهي في أحضان المؤسسات التربوية المختلفة، ومن شأن ذلك أن يذهب بكل إمكانية لتحقيق عملية النمو والتكامل والازدهار في الشخصية الإنسانية، لأن ما يتعرض له الأطفال من قهر وتسلط تربوي يضعهم في دائرة استلاب شاملة تُكرس كافة مظاهر القصور والسلبية في الشخصية الإنسانية).
وهذا يعني أن التربية في ظل الاستبداد تُصبح أداة مختطفة لتثبيت واقع القهر وتبرير هذا الواقع وإعادة إنتاجه، وفي هذه النقطة يلتقي الكواكبي مع الدكتور وطفة الذي يرى (أن المدرسة في الأنظمة التربوية العربية تُوظف لتلعب دوراَ أيديولوجياً يتمثل في عملية إعادة إنتاج علاقات القوة والسيطرة، وبالتالي فإن إعادة علاقات السيطرة والقوة والخضوع أمر يتم في المؤسسات التربوية ولاسيما في إطار الأسرة والمدرسة، وهذا يعني أن مهمة المدرسة في الأنظمة المتسلطة هي إنتاج قيم الطاعة والخضوع التي تأخذ شكل العلاقة بين المعلمين والمتعلمين في المدرسة، وشكل العلاقة بين الآباء والأبناء في الأسرة، وعليه فإن قيم الطاعة والخضوع لا يمكن أن يتم تعلمها كقيم نظرية، ولذا فإن المدرسة تعمل على تفعيل هذه القيم بصورة حية مجسدة من خلال الممارسة التربوية المستمرة في إطار نسق العلاقات الذي يقوم بين المعلمين والمتعلمين بوصفه نسقاً من علاقات الخضوع والسيطرة والهيمنة كنموذج حيوي للعلاقة القائمة بين القاهرين والمقهورين في إطار الحياة الاجتماعية ».
كيف يحول الطاغية والمستبد (سلطته إلى حق وطاعته إلى واجب)؟ وهو اي الطاغية يدرك انه لايستطيع ان يبقى قويا دون ذلك، كما يعتقد جان جاك روسو.
جميع الطغاة والمستبدين يدركون ذلك، لهذا هم دائما بحاجة الى تكوين ايديولوجية استبدادية جديدة، تعتمد على (الرموز - التابو – المقدس) لفرض الهيمنة التي تعمل على (تطويع – اكراه – خضوع) المجتمع لها. وهي اعمدة ثلاثة لها قوة رمزية ثقافية تملأ الفضاء العام للمجتمع، (الصور – النصب – التماثيل – الاناشيد- الشعارات) مع قوة اخرى مادية هي القوة الامنية.
وهذه الاعمدة الثلاثة هي عبارة عن مفاهيم دينية وتربوية واجتماعية تتسع دائرتها حسب طول مدة الاستبداد وتتحوّل هذه المفاهيم إلى ما يشبه العقائد الراسخة. ويستحيل أن تزول هذه المفاهيم بزوال المستبد، لانها ترسخت في الوجدان والضمير ولا يزيلها أحداث سياسية أو تغييرات في النظام والحكم (يسميها ابن خلدون بالعوائد ويقول عنها: والعوائد إنما ترسخ بكثرة التكرار وطول الامد فتستحكم صبغة ذلك وترسخ في الاجيال وإذا استحكمت الصبغة عسر نزعها).
يؤكد الكواكبي في طبائع الاستبداد: (الاستبداد يُضطرُّ النّاس إلى استباحة الكذب والتحيُّل والخداع والنِّفاق والتذلل. وينتج من ذلك أنَّ الاستبداد المشؤوم يتولى بطبعه تربية الناس على هذه الخصال الملعونة. ثمَّ إنَّ عبيد السلطان غير مالكين لأنفسهم، ولا هم آمنون على أنَّهم يربّون أولادهم لهم. بل هم يربّون أنعاماً للمستبدّين، وأعواناً لهم عليهم. وفي الحقيقة، إنَّ الأولاد في عهد الاستبداد، هم سلاسل من حديد يرتبط بها الآباء على أوتاد الظلم والهوان والخوف والتضييق)..
ويتفاقم الجو النفاقي حتى يعيش الشعب حالة تمثيل جماعي، يعلم فيه كل فرد أن الآخر يمارس تمثيلية ويرد هو بدور آخر من التمثيلية، والآخر يعلم أن الأول يمارس دوره وهكذا. هذا الجو يتفرع عنه كثير من الأخلاق السيئة المعاكسة للأمانة، وهي الكذب والغدر والغش والخيانة.
واذا تفاقمت هذه الأخلاق السيئة تفضي تلقائيا لضرب القيم الأخرى المرتبطة باحترام الذات والآخرين، فتنحسر الغيرة والكرم والفزعة والإيثار وحسن الظن، ويحل محلها البخل والدياثة وسوء الظن والخذلان والأنانية. وهذا بدوره يؤدي إلى انحطاط قيمة الإنسان عند نفسه وعند غيره، فتنهار الكرامة والعزة والثقة بالنفس والاعتداد بالهوية.
(علي اسعد وطفة/التربية على الاستبداد في العالم العربي: هل يأتي زمن التربية على المواطنة؟) وكتاب (رأسمالية المدرسة في عالم متغير: الوظيفة الاستلابية للعنف الرمزي والمناهج الخفية).
القابلية للاستبداد ضمن هذا المنظور ليست ردة فعل مؤقتة على أزمة اقتصادية أو سياسية خانقة كما تطرحه نظرية الزعامة الكاريزمية مثلاً، بل نمط ثقافي ـ اجتماعي يتمتع باستمرارية وعلاقة تفاعلية مع مجموع العناصر المكونة لظروف المعيشة في مجتمع محدد. والثقافة السياسية لمجتمع ما ـ حسب وصف اللوموند ـ هي بمثابة خريطة ذهنية تحدد صورة الفرد كفاعل سياسي مقارنة بغيره من الفاعلين، كما تحدد صور العلاقة بينهما ونوعية الأفعال وردود الأفعال المتوقعة من جانبهم.
هذه التربية لايمكن لها ان تزول إلا بطريقتين، إما القبول بعامل الزمن والاستعداد لموجة من الانتكاسات قبل تنظيف القلوب والنفوس منها، أو بطريقة العلاج بالصدمة الجماعية للشعب، بوسائل نفسية فعالة باستغلال ظروف الحروب والكوارث.
نحتاج الى ثورة أخلاقية، تُستنفر فيها كل القوى الثقافية والدينية والحيل الاجتماعية والحركية لإحياء القيم العليا في نفوس الناس.
المداخلات
كانت للحاضرين في الملتقى عدد من المداخلات جاءت على الشكل التالي:
الدكتور علاء الحسيني التدريسي في جامعة كربلاء: من اجهض مشروع الحرية عاملان، العامل الداخلي والعامل الخارجي، واتصور ان العامل الداخلي دوره اكبر في عملية اجهاض المشروع، مع عدم الاستهانة بالعامل الخارجي بغض النظر عن نظرية المؤامرة، والدور السعودي او القطري، وكيف لعب دورا في اجهاض بعض الثورات في عدد من البلدان العربية، لكن العامل الداخلي هو الاقوى واقصد به التكريس الذي اشارت اليه الورقة، فالشعوب العربية ورثت ما تعودت عليه من نمط معين من المعيشة والتعايش مع السلطات المستبدة، سواء كانت مدنية او عسكرية.
علي الطالقاني مدير ادارة مؤسسة النبأ: هناك نقطتان: الاولى، قابلية المتلقي لهذا التغيير او البحث عن الحرية.. انقسام الشعب المصري على سبيل المثال الى قسمين، قسم يستميت في الدفاع عن النظام السابق وقسم يبحث عن التحرر منه. النقطة الثانية، وجود جماعات خفية او ظاهرة تعمل على احباط التغيير.
الدكتور قحطان الحسيني التدريسي في جامعة بابل: هناك مجموعة من الافكار اصوغها على شكل اسئلة: هل ان المجتمعات العربية تعي اهمية ومفهوم الحرية؟ هل هي مهيأة نفسيا لكي تعمل وفق قيم الحرية؟ ام تختلط عليها المفاهيم حتى لاتعود تفرق بين الحرية والفوضى؟
المجتمعات العربية تبحث عن الحرية ولاتمتلك الابداع او القدرة على صناعتها، صناعة حرية منسجمة مع طبيعة المجتمع العربي، مع قيمه، مع افكاره، مع مايؤمن به، دائما ما تأخذ المجتمعات العربية نماذج جاهزة من الغرب او من مدارس فكرية غير عربية او اسلامية، وتحاول تطبيقه عليها، وبالنتيجة يكون التطبيق فاشلا، لاننا ليس لدينا القدرة او الابداع على انتاج نموذج للحرية يناسب قيم مجتمعنا.
ماحدث في الثورات العربية، ان المنتفضين فهموا انتفاضتهم انها تعبير عن خلاص من الدكتاتور، والمستبد، دون ان يطرحوا بديلا واقعيا وموضوعيا لما بعد الدكتاتورية، وبالتالي برز التناقض المجتمعي على اشده مما ادى الى التصادم والصراع بين اصحاب تلك التناقضات.. وانتجت انماطا من العنف، قادت بالضرورة الى العودة الى نفس النماذج التي اسقطتها. كما في الحالة المصرية او التونسية، وحتى اليمن مرشحة للوصول الى تلك النتيجة.
احمد جويد مدير مركز ادم للدفاع عن الحقوق والحريات: هناك عاملان: العامل النفسي والعامل الاقتصادي.
الشعوب المستقلة اقتصاديا تمتلك حريات اكبر.. في التجربة العربية عندما حكم العثمانيون مارسوا سياسة افقار اتجاه المجتمعات التي حكموها، وعند مجيء الانكليز كما في العراق شجعوا على وجود الاقطاع، ليصبح الشيوخ النافذين والمرتبطين بالسلطة هم القادة في مجتمعاتهم. افراد العشيرة او القبيلة يجدون انفسهم مرتبطين ارتباطا اقتصاديا بهؤلاء الشيوخ الذين هم في المحصلة النهائية ادوات للسلطة. لو كانوا هؤلاء متحررين اقتصاديا لكانوا صنعوا حرياتهم بعيدا عن سلطات الاقطاعيين.
العامل النفسي، اننا دائما نبحث عن الزعامات او البطل والزعيم، ولهذا يمتلك الثائر بريقا خاصا عند مجتمعاتنا ، ونحن مشدودون دائما نحو الاشخاص الاقوياء.
حيدر جابر مسؤول الجودة في جامعة كربلاء: الاعتراض على كلمة الاجهاض.. فحتى لو اساء بعض الثوار الى ثورتهم فان جذوة الحرية لاتنطفيء في داخلهم، فهذه الثورات عندما لاتلبي طموحات الثائرين والقواعد الشعبية، تراهم ينقلبون مرة اخرى على نفس القادة، وبالتالي ان مشروع البحث عن الحرية لم يجهض بل حورب من قبل نفس هؤلاء القادة للثورات.
العامل الثاني هو تخلي الشعوب عن طموحاتها، حيث يشعرون بالاحباط والياس بعد الثورات لانها لم تحقق لهم ماكانوا يطمحون اليه وما خرجوا لاجله.
اضف تعليق