ما تزال مصر بعد مرور أربع سنوات على ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، التي أنهت حكم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، تعاني الكثير المشكلات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، والتي تعد من أهم واخطر التحديات للحكومة الحالية ورئيسها عبد الفتاح السيسي، الذي استطاع ومن خلال تحريك المؤسسة العسكرية، إزاحة جماعة الإخوان المسلمين عن حكم البلاد واعتبارها منظمة إرهابية محظورة ، وهو ما أثار حالة من الاستياء في صفوف أنصار الجماعة التي سعت الى تكثيف جهودها الانتقامية، واستهداف الأمن العام وإثارة الاضطراب والفوضى في الشارع، وارتكاب أعمال الشغب وتفجير السيارات المفخخة واستهداف رجال الجيش والأمن وباقي مؤسسات الدولة، بقصد إثارة الشارع المصري وإحداث بلبلة داخلية وإعاقة عمل وأهداف الحكومة وبالتي التأثير على الإصلاحات والخطط الاقتصادية خصوصا وان مصر تعاني من انخفاض احتياطي النقد الأجنبي، وزيادة حجم الدين المحلي، وزيادة الواردات، وارتفاع معدلات التضخم كما يقول بعض الخبراء.
من جانب أخر يرى بعض المراقبين ان مصر اليوم وعلى الرغم من ثورتها الكبيرة وما تبعها من تغير، تعيش حرب داخلية لتصفية حسابات سياسية سواء من قبل الحكومة التي سعت الى اعتماد قوانين خاصة في سبيل تصفية وإقصاء الخصوم من خلال الملاحقات القضائية وغيرها من الإجراءات الأخرى، وهو ما اعتبره البعض عودة جديدة لنظام مبارك لكن بوجوه مختلفة، خصوصا وان الوقائع الأخيرة تشير الى صحة مثل هكذا فرضيات، والدليل هو تبرئة العديد من رموز ورجال النظام السابق من تهم كثيرة منها قتل المتظاهرين والفساد واستغلال السلطات وهو ما قد يمهد الى عودتهم من جديد الى الحياة السياسية في مصر، فقد أصدرت المحاكم المصرية احكام تخص تبرئة الرئيس المصري السابق حسني مبارك وابنيه ووزير داخليته وكبار مساعدي الوزير، وهو ما أثار موجة ما الاستياء لدى العديد من المصريين، من جهة أخرى اعتبر بعض المحللين ان تبرئة رموز النظام او ملاحقة جماعة الإخوان، هي مسائل قضائية بعيدة عن التدخلات السياسية والحزبية لكنها تستغل بشكل إعلامي من قبل بعض الأطراف خارجية وداخلية من اجل ضرب الاستقرار في مصر.
إخلاء سبيل ابنيّ مبارك
وفي هذا الشأن فقد قال مسؤولون في مصلحة السجون المصرية إن علاء وجمال ابني الرئيس الأسبق حسني مبارك أخلي سبيلهما في خطوة يمكن أن تزيد التوترات. وكانت محكمة مصرية أصدرت حكما بإخلاء سبيلهما على ذمة اعادة محاكمتها في قضية اتهما فيها مع والدهما بتحويل أموال من اعتمادات القصور الرئاسية لبناء وصيانة قصور ومكاتب مملوكة لهم. وقال مسؤولون أمنيون إن ابني مبارك وهما من مجموعة رجال الأعمال الذين ظهروا في عهده وقامت بينهم صلات سياسية ومالية وثيقة أخلي سبيلهما وكان في انتظارهما المحامي الموكل عنهما وعدد من الحراس الشخصيين. وأضافوا أنهما توجها إلى منزلهما في حي مصر الجديدة في شمال شرق القاهرة. بحسب رويترز.
وقال مسؤولون أمنيون وطبيون إن علاء وجمال زارا والدهما الذي لا يزال محتجزا في مستشفى عسكري في جنوب القاهرة. وتقول مصادر قضائية إن باستطاعة مبارك ترك المستشفى قريبا انتظارا لإعادة محاكمته في قضية فساد. وكان مبارك قائدا للقوات الجوية واختاره الرئيس الراحل أنور السادات نائبا له عام 1975. وحقق الرئيس المنتخب عبد الفتاح السيسي الذي جاء من الجيش أيضا درجة من الاستقرار بعد نحو أربع سنوات من الاضطراب السياسي والاقتصادي أعقبت خلع مبارك.
ويرى مصريون كثيرون أن حكم مبارك الذي استمر 30 عاما ضاعف ثروات الصفوة ومنها ابناه على حساب ملايين الفقراء. ويقول محللون سياسيون إن ما أعتبر خططا من مبارك لتوريث الحكم لابنه جمال أثارت نفور الجيش وإن ذلك جعل القادة العسكريين يغمضون عيونهم بشكل كبير عن الاحتجاجات التي ساعدت في إنهاء حكم القبضة الحديدية الذي انتهجه 30 عاما. ويتهم منتقدون السيسي بإعادة الحكم الاستبدادي لكن الحكومة تنفي ذلك.
أحداث عنف واتهامات
في السياق ذاته قتل 25 شخصا على الأقل في مظاهرات مناوئة للحكومة وأعمال عنف أخرى في الذكرى الرابعة للانتفاضة التي بعثت الآمال في حريات أكبر ومحاسبة للمسؤولين في مصر الحليف الوثيق للولايات المتحدة وصاحبة النفوذ في العالم العربي. ويقول شهود عيان إن قوات الأمن استخدمت طلقات المسدسات والبنادق ضد محتجين. ودعا البعض إلى انتفاضة جديدة. وقال المسؤولون الأمنيون إن 19 شخصا قتلوا في حي المطرية في شمال شرق القاهرة وهو معقل لجماعة الإخوان المسلمين التي أطاح بها السيسي من السلطة عندما كان قائدا للجيش عام 2013 بعد احتجاجات حاشدة على حكم الرئيس السابق المنتمي إليها محمد مرسي.
وقال وزير الداخلية محمد إبراهيم إن أعضاء جماعة الإخوان المسلمين أطلقوا النار على حشود في المطرية خلال الاحتجاج وقتلوا أناسا بينهم شرطيان. وأضاف أن قوات الأمن ألقت القبض على 516 من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في القاهرة والمدن الأخرى التي نظمت فيها احتجاجات. وأضاف أن مصر ملتزمة بمحاربة "الإرهاب". وفي نوفمبر تشرين الثاني قالت محكمة جنايات القاهرة بعد إعادة محاكمة لمبارك بتهم تتصل بقتل المتظاهرين خلال الانتفاضة إنه لا وجه لإقامة الدعوى عليه بمثل هذه التهم. وألقي القبض على مبارك وابنيه في ابريل نيسان 2011 بعد نحو شهرين من الانتفاضة التي استمرت 18 يوما.
من جانب اخر قتلت العضو القيادي في حزب التحالف الشعبي الاشتراكي شيماء الصباغ خلال مظاهرة في وسط القاهرة. وألقى مقال في الصفحة الأولى من صحيفة الأهرام التي تملكها الدولة باللوم عن مقتلها على الاستخدام المفرط للقوة. وقال في انتقاد نادر من صحيفة حكومية للسيسي "حق شيماء في رقابنا جميعا وفي مقدمتنا الرئيس المنتخب والمنوط به حماية أرواح أبناء هذا الوطن من إساءة استخدام السلطات."
وأضاف "استشهاد شيماء الصادم هو إدانة جديدة لقانون التظاهر المتخم بالعوار وإدانة لمنطق القوة الغاشمة لإرهاب المسالمين الذين لا علاقة لهم بالعنف." ويشير المقال الذي كتبه رئيس مجلس إدارة الصحيفة أحمد السيد النجار إلى قانون أصدرته مصر في 2013 يقيد بشدة الحق في التظاهر. وقالت ساره ليا ويتسون مدير الشرق الأوسط وشمال افريقيا في منظمة هيومن رايتس ووتش "بعد أربع سنوات من الثورة المصرية لا تزال الشرطة تقتل المتظاهرين بانتظام." واضافت "بينما كان الرئيس السيسي في دافوس (أمام المنتدى الاقتصادي العالمي) يلمع صورته الدولية كانت قواته الأمنية تستخدم العنف كالمعتاد ضد المصريين المشاركين في المظاهرات السلمية." بحسب رويترز.
وفي وسط القاهرة اشتبكت قوات مكافحة الشغب التي ترتدي الزي المدني مع محتجين في الشوارع. وفي أحد الحوادث استهدفت عبوة ناسفة تمركزا لقوات الشرطة خارج ناد رياضي في منطقة الألف مسكن بالقاهرة مما أسفر عن إصابة ضابطين بقوات الأمن المركزي بحسب وزارة الداخلية. ونقلت وكالة أنباء الشرق ألأوسط الرسمية قول المتحدث باسم وزارة الداخلية اللواء هاني عبد اللطيف إن مصابي الشرطة 11 من الضباط والمجندين. وأضاف أن الشرطة ألقت القبض على نحو 150 ممن وصفهم بمثيري الشغب. وظهرت مؤشرات على عدم الرضا قبل ذكرى الانتفاضة وبعد يوم من مقتل شيماء الصباغ التي تنتمي لحزب اشتراكي.
وشارك نحو ألف شخص في تشييع الناشطة الاشتراكية في مدينة الإسكندرية الساحلية مرددين هتافات ضد الجيش والشرطة بحسب شاهد عيان. وقال المتحدث باسم وزارة الصحة إن شيماء الصباغ أصيبت بطلقي خرطوش في الوجه والظهر. وقال شاهد إن نحو ألف شخص شاركوا في جنازتها بمدينة الإسكندرية.
وقال هاني عبد اللطيف المتحدث باسم وزارة الداخلية إن تحقيقا يجرى في الواقعة مضيفا "لا أحد فوق القانون". وقال مدحت الزاهد نائب رئيس حزب التحالف الشعب الاشتراكي الذي تنتمي له القتيلة "شيماء قتلت بدم بارد." وقالت وكالة أنباء الشرق الأوسط إن النيابة العامة أمرت بإخلاء سبيل 11 من أعضاء الحزب بضمان محال إقامتهم على ذمة التحقيق معهم بتهمة تنظيم مظاهرة دون إخطار مسبق للسلطات.
اعلان حالة الطوارئ
وفي شبه جزيرة سيناء قرب الحدود الإسرائيلية. وأعلنت الحكومة مد حالة الطوارئ في مناطق بشمال سيناء حيث قتلت هجمات إسلاميين متشددين يتمركزون في المنطقة مئات من رجال الجيش والشرطة منذ عزل مرسي. وأعلن المتشددون مبايعتهم لتنظيم الدولة الإسلامية الذي يسيطر على أجزاء واسعة من العراق وسوريا. وبعد أربع سنوات من الاضطرابات السياسية والاقتصادية عقب الإطاحة بمبارك غض كثير من المصريين الطرف عن المزاعم بانتشار انتهاكات حقوق الإنسان وأشادوا بالسيسي لنجاحه في استعادة قدر من الاستقرار.
واتخذ السيسي الذي كان قائدا للمخابرات الحربية في عهد مبارك إجراءات جريئة لإصلاح الاقتصاد مثل خفض دعم الوقود. لكن منتقديه يتهمونه بإعادة الحكم الاستبدادي وإجهاض الحريات التي كسبها المصريون من الانتفاضة التي أنهت 30 عاما من حكم القبضة الحديدية في عهد مبارك. بحسب رويترز.
وقال علاء لاشين وهو مهندس (34 عاما) كان يحتج قرب التحرير "الأوضاع زي قبل أربع سنين. وبتتجه للأسوأ. النظام لم يسقط." وأثنى الرئيس المصري في كلمة تلفزيونية على الرغبة التي أبداها المصريون في التغيير قبل أربع سنوات لكنه قال إن الصبر مطلوب لتحقيق كل "أهداف الثورة". ودعا رجل الدين يوسف القرضاوي المولود في مصر والمقيم في قطر المصريين إلى الخروج في احتجاجات في ذكرى الانتفاضة وقال إن مرسي هو الرئيس "الشرعي" للبلاد. ويؤيد القرضاوي جماعة الإخوان. وساهم دعم القرضاوي الصريح لجماعة الإخوان في تعميق خلاف دبلوماسي لا سابق له بين قطر من جهة وجيرانها الخليجيين ومصر من جهة أخرى إذ يعتبرون الإخوان تهديدا أمنيا.
تحديات كبيرة للحكم
الى جانب ذلك فمن غير المتوقع أن تثير اجراءات أمنية صارمة ضد المحتجين اضطرابا واسعا يهدد حكم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في حين يتطلع معظم المصريين إلى وضع حد لسنوات من الاضطرابات السياسية التي عرقلت آمالهم في الازدهار. دبلوماسيين ومحللين يقولون إن من المستبعد أن تتصاعد الاضطرابات بشكل كبير إذ يدعم غالبية المصريين جهود السيسي لتحقيق الاستقرار للبلاد التي أنهكتها الاضطرابات منذ الإطاحة بحسني مبارك في انتفاضة عام 2011 . وربما يعتمد البقاء السياسي للسيسي على المدى الطويل على جهوده لحفز الاقتصاد واستحداث وظائف في أكثر الدول العربية سكانا حيث ارتفع معدل البطالة في البلاد إلى 13 بالمئة من 8.9 في المئة قبل الانتفاضة على مبارك.
ومن العوامل التي تصب أيضا في مصلحة السيسي ما يلقاه من تأييد من القوى الغربية التي تنفق مليارات الدولارات في صورة مساعدات لمصر كل عام على الرغم اتهامات من جماعات حقوق الإنسان بحدوث انتهاكات واسعة النطاق. ومع أن الحلفاء الغربيين لمصر يدعون إلى إصلاحات ديمقراطية فإنهم لم يتخذوا إجراءات صارمة لتحفيز القاهرة على التغيير. ويقول السيسي إنه يخوض حربا لمكافحة الإرهاب وهي حجة تلقى صدى بين الدول الغربية التي تشعر بالقلق من صعود مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية.
وقال دبلوماسي غربي رفيع "الاحتجاجات ليست خطرا على حكم السيسي لكنها تظهر أن البلاد ما زال تشهد سخطا وانه ينبغي معالجة أسبابه." ويقول المنتقدون إن السيسي أعاد الحكم المتسلط إلى مصر لكن المقربين منه يدافعون عن أساليب الشرطة ويقولون إن البديل قد يؤدي إلى اضطرابات وفوضي. وقال كريم عنارة الباحث في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية "القطاع الأمني في مصر ولاسيما الشرطة في شكلها الحالي عبء ثقيل على أي محاولة ديمقراطية أو غير ديمقراطية للمضي بهذا البلد للأمام."
ولكن في وسط القاهرة حيث جرت احتجاجات نادرة تشير الأحاديث مع المتسوقين إلى أن المصريين سيستمرون في التغاضي عن الانتهاكات المزعومة لحقوق الإنسان مادام السيسي يحقق لهم الاستقرار. وباستثناء حلفاء الإسلاميين فإن قليلا من الناس هم الذين يشعرون بالضيق لمقتل إسلاميين على أيدي قوات الأمن. وقالت حمدية حسين (64 عاما) التي تعمل في متجر للأدوات الكتابية "البلد بات منهكا". وقالت إنها تتمنى لو أن آلاف الإسلاميين المحتجزين في السجون ماتوا فيها. واضافت "يجب على قوات الأمن أن تكون أكثر صرامة حتى تقضي عليهم."
ولم تركز إصلاحات السيسي الأولية على قطاع الأمن بل على إعادة بناء اقتصاد مصر. وقلص الدعم على الوقود وهو ملف حساس سياسيا الأمر الذي لقي إشادة من المستثمرين الأجانب الذين انصرف الكثير منهم عن مصر إلى جانب السياح بسبب الاضطرابات السياسية والاجتماعية منذ الإطاحة بمبارك. ورغم أن التحرك لم يلق شعبية في الداخل ولاسيما بين الفقراء في الريف لكن لم يحدث رد فعل خطير على المستوى السياسي.
وقد يعتمد بقاء السيسي سياسيا على المدى البعيد على مشاريع ضخمة تستهدف تعزيز الاقتصاد واستحداث وظائف. وتشمل هذه المشاريع حفر مجرى مواز لقناة السويس بروح المشاريع الوطنية الطموحة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وسيتوقف الكثير أيضا على ما إذا كانت دول الخليج الثرية مثل السعودية والإمارات -اللتين تعتبران الإخوان المسلمين خطرا على وجودهما- ستبقى متحمسة لدعم السيسي ماليا رغم الانخفاض الكبير في أسعار النفط. وقالت فلورنس عيد من مؤسسة أرابيا مونيتور البحثية "الخطر الأكبر هو أي تراجع حاد في مساعدة (الخليج) إذا استمر انخفاض أسعار النفط قبل أن تنفذ مصر إصلاحات جادة وتجتذب استثمارا أجنبيا مباشرا بصورة جدية."
وقال مصدر مطلع على آليات تفكير الحكومة في دولة الإمارات العربية إن دعم أبو ظبي للسيسي وسياساته "لن يهتز". ولا يبدو كبار مسؤولي الأمن في مصر قلقين من المظاهرات الأخيرة والتي أعقبتها سلسلة تفجيرات استهدفت الشرطة. وقال العميد جمال مختار مدير ادارة المتابعة وقيادة الرأي العام بوزارة الداخلية في مؤتمر صحفي إن الإخوان المسلمين فشلوا في حشد الدعم للمظاهرات ووصف التفجيرات بأنها النزع الأخير للجماعة. بحسب رويترز.
وأصبح الوضع في مصر أهدأ كثيرا مما كان قبل عام عندما ألحقت مظاهرات الإخوان ضررا كبيرا بالسياحة وهي أحد أعمدة الاقتصاد. لكن محللين يقولون إنه إذا انتشر الاستياء بشأن أساليب الشرطة شديدة الوطأة فمن المرجح أن تلجأ الشرطة عندها لإجراءات أشد قد تقوض مساعي السيسي لانقاذ الاقتصاد. وقال أنجوس بلير رئيس معهد سيجنت البحثي "حتى لو لم تقع هجمات في مناطق سياحية وكانت في أمان فان الاحتجاجات السياسية والعنف تحتل عناوين الأخبار." وتابع قوله "عندها سيتولد مفهوم قد يثني بعض السياح والمستثمرين عن المجيء إلى مصر أو الاستثمار فيها."
البحث عن عمل
على صعيد متصل تدفع الأوضاع الاقتصادية الصعبة في مصر الكثير من الشباب المحبط للمغامرة والسفر إلى ليبيا المجاورة بحثا عن فرصة عمل رغم ما تشهده من فوضى وقتال بين جماعات مسلحة تسعى لبسط نفوذها فضلا عن تعرض 27 مصريا للخطف هناك. والتصدي لأزمة البطالة في مصر حيث يشكل من هم دون 25 عاما نصف عدد السكان الآخذ في التزايد أحد أصعب التحديات التي تواجه الرئيس عبد الفتاح السيسي.
وإلى جانب البطالة لا يزال الحصول على مسكن والزواج من الأمور العسيرة على الشباب غير القادر على كسب العيش حتى في ظل حكم السيسي. وتسبب الاضطرابات السياسية والاجتماعية منذ الإطاحة بمبارك في رحيل المستثمرين الأجانب والسياح عن مصر أكبر بلد عربي من حيث عدد السكان بنحو 90 مليون نسمة. وفاقم ذلك من أزمة البطالة إذ وصل معدل البطالة إلى أكثر من 13 بالمئة في الوقت الراهن بعدما كان يبلغ 8.9 قبل الانتفاضة. وسافر آلاف المصريين إلى ليبيا بحثا عن عمل منذ 2011 رغم تحذيرات الحكومة من السفر إلى واحدة من أخطر دول المنطقة.
ويمكن مشاهدتهم يعملون في مواقع البناء والمصانع والمطاعم والمحلات في مختلف المدن ليبيا التي انزلقت إلى الفوضى منذ الانتفاضة التي أطاحت بمعمر القذافي قبل أربع سنوات وحيث تتنازع حكومتان على السلطة. وفي قرية العور التابعة لمحافظة المنيا بصعيد مصر (على بعد نحو 200 كيلومتر جنوبي القاهرة) يسهل معرفة لماذا يخاطر الشبان المصريون بحياتهم.
فالقرية بلا طرق ممهدة وتفتقر لمياه الشرب النظيفة والرعاية الصحية الملائمة وهي نفس الظروف المعيشية التي كانت تدفع الشباب للانضمام للجماعات المتشددة في السابق. وكان رجال عاطلون يجلسون بجوار قناة ري (ترعة) مليئة بالقاذورات والمياه الراكدة. وكان صموئيل ألهم يعيش مع زوجته وأطفاله الثلاثة في غرفة واحدة بمنزل أسمنتي من طابق واحد يعيش فيه أيضا ثلاثة من أشقائه وأطفالهم ووالديه المسنين. ومثله ككثير من المصريين كان يحلم بأن يقدر يوما ما على شراء قطعة أرض صغيرة لبناء منزل مستقل لأسرته الصغيرة.
وسافر الرجل البالغ من العمر 30 عاما السفر إلى ليبيا للعمل سباكا لكن قراره كان باهظ الثمن. فقد خطف على يد مسلحين خارج مدينة سرت الليبية وهو في طريقه عودته لمصر برا لقضاء عيد الميلاد مع أسرته. وقالت أمه وهي تبكي بحرارة "أنا عايزة ابني حبيبي يجيلي. حرام عليكم ده كان طالع يشتغل مش طالع يسرق ولا طالع يعمل حاجة وحشة.. عشان يربي عياله." "ده هو سلاحي يا ولاد ... ده هو اللي نافعنا يا ولاد."
وصموئيل واحد من 27 عاملا مصريا يشتغلون بمهن متواضعة ويتلقون رواتب ضئيلة وتعرضوا للخطف في ليبيا. وبدأت عمليات الخطف منذ أغسطس آب واستمرت حين خطف 13 مرة واحدة. وجميع المخطوفين مسيحيون. وربما كانت ديانتهم سببا في تعريضهم لخطر أكبر من مواطنيهم المسلمين. وأعلن متشددون موالون لتنظيم الدولة الإسلامية المتشدد -الذي استولى على مساحات واسعة في سوريا والعراق- مسؤوليتهم عن خطف من وصفوهم "بالأسرى الصليبيين".
وأعلنت الحكومة عزمها ضخ استثمارات وتنفيذ خطط للتنمية في المنيا التي كانت يوما ما أيضا معقلا للمتشددين الإسلاميين في التسعينات خلال عهد مبارك. وقالت أيضا إن خططها تشمل باقي مناطق الصعيد بعد عقود من التهميش والإهمال. لكن السيارات التي تحمل لوحات معدنية ليبية على الطرق القريبة من العور تظل تذكرة للقرارات الصعبة التي تفرض نفسها على سكان المنطقة. كما يحمل أحد محلات البقالة في بلدة قريبة من العور اسم الجماهيرية وهو الوصف الذي كان يطلقه القذافي على نظامه السياسي.
ولم يكن بمقدور أبانوب عياد وهو في أوائل العشرينات من العمر تلبية احتياجات أسرته التي يعولها ناهيك عن توفير المال لشراء أو بناء شقة ليتزوج فيها. وينفق أبانوب على والديه المسنين وأخوه وأخته الطالبين في الجامعية. وجرب أبانوب حظه في ليبيا كعامل بناء رغم حصوله على شهادة الثانوية الفنية.
وتوقفت الأموال التي يرسلها لأسرته فجأة في وقت سابق عندما اقتحم متشددون مسكنه في سرت وخطفوه 12 عاملا مصريا آخر. وقالت والدته عزيزة يونان في منزل الأسرة المتواضع "مفيش شغل في البلد يساعد... الناس تصرف منين وتأكل منين وتتعلم منين؟" وأضافت "البلد مش مساعداهم ولا نصفاهم... يعملوا إيه؟ الناس تعمل إيه؟ اللي قادر عايش واللي مش قادر يأكل طوب."
وقال السيسي في كلمة بالمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس إن مصر تستهدف خفض معدل البطالة إلى عشرة بالمئة بحلول عام 2020. وأعلنت حكومته عن مشروعات بنية تحتية عملاقة مثل مشروح حفر قناة السويس الجديدة ومشاريع كبرى لبناء طرق وجسور بهدف توفير وظائف. لكن هذه التعهدات لم تنعش الآمال بعد في قرى مثل العور. وقال بشرى شحاتة عن ابنه الذي لا يزال يبحث عن عمل رغم تخرجه من الجامعة قبل تسع سنوات "حاولت كل المحاولات عشان أعين (أوظف) ابني سواء كان تعيين رسمي أو تعيين خاص مش قادر." وأضاف مرددا نفس الشكوى التي يرددها المصريون في عهد كل حاكم يتولى السلطة في البلاد "كل اللي بيتعين.. بيتعين بوسايط (محسوبية)."
وشارك أكثر من 100 شخص من أقارب العمال المخطوفين في وقفة احتجاجية صامتة أمام مكتب الأمم المتحدة في القاهرة بعد اجتماعهم مع مسؤولين في وزارة الخارجية المصرية. وبينما كانوا يحملون صور لأحبابهم حث الأهالي الحكومة على بذل المزيد لتأمين إطلاق سراحهم. وقال رجل وعيناه مغروقتان بالدموع إنه يتطلع لأي معلومة عن ابنه وأبناء شقيقه الثلاثة المخطوفين في ليبيا. ويقول المسؤولون إنهم يبذلون قصارى جهدهم لإعادة العمال سالمين. بحسب رويترز.
لكن في مكان آخر بالمدينة كان مصريون ينتظرون لشراء تذاكر سفر في مكتب الخطوط الجوية الليبية بالقاهرة. وكان أحد هؤلاء عامل طلاء أثاث من محافظة الدقهلية بدلتا النيل عاد إلى مصر من ليبيا قبل خمسة أشهر بحثا عن فرصة عمل تبعده عن الخطر. لكنه قرر العودة لليبيا قائلا إنه لا يملك أي خيار آخر بعد فشله في الحصول على عمل. وقالت السلطات الليبية إن رجلين مدججين بالسلاح اقتحما فندقا فخما في العاصمة طرابلس يتردد عليه كبار المسؤولين الليبيين والوفود الزائرة ليقتلا تسعة أشخاص على الأقل بينهم أجانب قبل أن يفجرا نفسيهما. وقال عامل الطلاء قبل أن يهرع إلى شباك حجز التذاكر لدى سماع النداء على رقمه "احنا بنروح وربنا بقى اللي بيسترها."
اضف تعليق