الإجماع العالمي حول حقوق الإنسان يتفتّت تحت وطأة الطغاة والمستبدّين والأوليغارشيين، بعض التقديرات تفيد بأن الطغاة يتحكّمون اليوم بحوالى ثلث الاقتصاد العالمي، أي أكثر من ضعف ما كانت عليه هذه النسبة قبل 30 عاما. بعض قادة العالم اليوم يتذرّعون بالأمن القومي ومكافحة الإرهاب لتبرير انتهاكات وخيمة. قوى إقليمية...

تراجعت الحريات على مستوى العالم العام الماضي، مع تشديد الأنظمة الاستبدادية قبضتها، إلا أنه كان هناك تحسن ملحوظ في جنوب آسيا، وفق ما أفادت مؤسسة “فريدوم هاوس” في تقريرها السنوي.

ورفعت مجموعة البحوث التي تتخذ من واشنطن مقرا، بلدين إلى مرتبة ما تسمى بالدول “الحرة” هما السنغال حيث انتصرت المعارضة بعد إحباط محاولة الرئيس المنتهية ولايته تأجيل الانتخابات، وبوتان التي عززت التحول إلى الديموقراطية عبر انتخابات تنافسية.

وكانت مملكة بوتان الصغيرة الدولة الوحيدة في جنوب آسيا التي صنّفت على أنها دولة حرة. لكنّ بلدانا أخرى في المنطقة أظهرت تحسنا من ناحية الديموقراطية دون تغير في التصنيف مثل بنغلادش التي فرت زعيمتها الشيخة حسينة في مواجهة تمرّد طالبي وسريلانكا حيث انتُخب أنورا كومارا ديساناياكي رئيسا حاملا برنامجا لمكافحة الفساد بعد كسر القبضة الخانقة للحزبين اللذين هيمنا على البلاد لفترة طويلة.

وسُجِّل أكبر تحسن في المؤشر الذي يتتبع البلدان والأقاليم، في كشمير الخاضعة للإدارة الهندية، والتي نظمت انتخابات للمرة الأولى مذ ألغت الحكومة القومية الهندوسية في نيودلهي الوضع الخاص للمنطقة ذات الأغلبية المسلمة عام 2019.

لكن منظمة “فريدوم هاوس” قالت إن الهند ككل شهدت تدهورا إضافيا في الحريات، متحدثة عن جهود رئيس الوزراء ناريندرا مودي لكسب النفوذ على التعيينات القضائية. وخفضت المجموعة تصنيف أكبر ديموقراطية في العالم من “حرة” إلى “حرة جزئيا” عام 2021.

وقالت يانا غوروخوفسكايا التي شاركت في صياغة التقرير إن هذا العام هو التاسع عشر على التوالي الذي تنخفض فيه الحرية على المستوى العالمي، لكن عام 2024 كان متقلبا بشكل خاص بسبب العدد الكبير من الانتخابات الي أجريت.

وأشارت إلى أن كلا من بنغلادش وسوريا التي أطيح رئيسها بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر، شهدتا تحسنات فورية في الحريات المدنية، لكن الطريق سيكون طويلا لرؤية مكاسب في التمثيل السياسي.

وقالت إن الحقوق السياسية “تعتمد إلى حد كبير على المؤسسات. وهذه من السهل تدميرها لكنْ من الصعب جدا بناؤها”.

وكانت الأردن من بين الدول القليلة في الشرق الأوسط التي رفع تصنيفها من “غير حرة” إلى “حرة جزئيا”، إذ أشارت المنظمة إلى إصلاحات سمحت بإجراء انتخابات أكثر تنافسية في المملكة.

ومن ناحية أخرى، خفض تصنيف أربع دول من “حرة جزئيا” إلى “غير حرة” وهي الكويت والنيجر وتنزانيا وتايلاند.

وفي تايلاند التي تغيّر تصنيفها مرارا في هذا المؤشر، حلّت محكمة الحزب الذي فاز بأكبر عدد من الأصوات في الانتخابات وأقيل رئيس الوزراء من الحزب الثاني في البلاد بعد شكوى أخلاقية قدّمها أعضاء مجلس الشيوخ المدعومين من الجيش.

من جهته، حلّ أمير الكويت البرلمان عقب الانتخابات، في حين شنّت في تنزانيا حملة قمع للمتظاهرين في عهد الرئيسة سامية سولوهو حسن، وفق المنظمة.

أما النيجر فأصبحت تحت السيطرة الكاملة للجيش بعد انقلاب عام 2023 الذي أطاح الرئيس المنتخب محمد بازوم.

وشهدت تونس والسلفادور وهايتي انخفاضا في تصنيفاتها. والدولة الوحيدة التي نالت علامة 100 كاملة في مجال الحرية هي فنلندا، تليها نيوزيلندا والنروج والسويد بحصول كل منها على 99.

عودة الطغاة

من جهته حذّر المفوّض الأممي لحقوق الإنسان فولكر تورك من أن عهد “الطغاة” الذين ارتكبوا جرائم فظيعة “قد يتكرّر”، داعيا إلى يقظة لتجنّب وضع “غاية في الخطورة”.

وخلال افتتاح الدورة السنوية لمجلس حقوق الإنسان في جنيف، قدّم تورك صورة قاتمة عن الوضع في العالم الذي يشهد “تغييرا مزلزلا” على حدّ قوله.

وهو لم يأت على ذكر أيّ بلد بالرغم من التداعيات العالمية للحرب بين روسيا وأوكرانيا والتغييرات الجذرية في الولايات المتحدة وتعاظم نفوذ الصين.

وقال في كلمته الافتتاحية “خلال القرون الماضية، كان الاستخدام المتفلّت للقوّة من المتنفّذين والهجمات العشوائية على المدنيين ونقل السكان وعمالة الأطفال ممارسات شائعة. وكان في مقدور الطغاة أن يأمروا بارتكاب جرائم فظيعة تقضي على حياة عدد كبير من الأشخاص”، مضيفا “احذروا: هذا قد يتكرر”.

وقال المفوّض السامي أمام مجلس حقوق الإنسان إن “الإجماع العالمي حول حقوق الإنسان يتفتّت تحت وطأة الطغاة والمستبدّين والأوليغارشيين”، مشيرا إلى أن “بعض التقديرات تفيد بأن الطغاة يتحكّمون اليوم بحوالى ثلث الاقتصاد العالمي، أي أكثر من ضعف ما كانت عليه هذه النسبة قبل 30 عاما”.

وأشار تورك إلى أن بعض قادة العالم اليوم “يتذرّعون بالأمن القومي ومكافحة الإرهاب لتبرير انتهاكات وخيمة”.

واستنكر من دون ذكر جهات محدّدة “قوى إقليمية محايدة أو معادية لحقوق الإنسان تزداد نفوذا”.

وقال “نشهد أينما كان محاولات لتجاهل حقوق الإنسان أو تقويضها أو إعادة تعريفها”.

وحذّر المفوّض السامي لحقوق الإنسان من “جهود حثيثة تبذل لإضعاف المساواة بين الجنسين وحقوق المهاجرين واللاجئين وذوي الاحتياجات الخاصة والأقلّيات على أنواعها”.

وأعرب عن قلقه من التكنولوجيات الرقمية “التي يساء استخدامها على نطاق واسع لقمع حقوقنا وتقييدها وانتهاكها”، مشيرا إلى تهديدات باتت أكثر خطورة في ظلّ الذكاء الاصطناعي مثل “الرقابة والكراهية على الإنترنت والتضليل الإعلامي المؤذي والمضايقات والتمييز الممنهج”.

ورأى في انتشار شبكات التواصل الاجتماعي سببا في “انعزال الأفراد وتشرذم المجتمع وتقلّص الفضاء العام المشترك”.

وفي ظلّ الاضطرابات التي تعصف بالعالم والأزمة المناخية التي تشكّل بدورها “كارثة في مجال حقوق الإنسان”، حذّر تورك من أوجه انعدام المساواة والظلم المتنامية التي تغذّي التوتّرات الاجتماعية و”الضغينة التي غالبا ما توجّه ضدّ اللاجئين والمهاجرين والفئات الأكثر هشاشة”.

وأسف لواقع الحال بعدما أصبح أغنى الأغنياء الذين يشكّلون 1 % من إجمالي السكان “يتمتّعون بثروة أكبر من تلك التي هي في حوزة السواد الأعظم من البشرية”.

وشدّد فولكر تورك الذي من المرتقب أن يلقي خطابا مطوّلا أمام مجلس حقوق الإنسان في جنيف الأسبوع المقبل على الحاجة إلى “مجهود جماعي يبذله كلّ فرد لضمان أن تبقى حقوق الإنسان ودولة القانون في صميم ركائز المجتمعات والعلاقات الدولية” وإلا “سيكون الوضع غاية في الخطورة”.

 أوليغارشية رقمية

مت جهتها حذرت منظمة غير حكومية رائدة من ظهور “أوليغارشية أرستقراطية” ناشئة تتمتع بنفوذ سياسي هائل ومستعدة للاستفادة من رئاسة دونالد ترامب في الولايات المتحدة. 

وقالت منظمة أوكسفام الخيرية العالمية في تقرير إن فوز ترامب في الانتخابات وخططه لخفض الضرائب هي نعمة لأصحاب المليارات الذين نمت ثرواتهم مجتمعة بمقدار 2 تريليون دولار إضافية في العام الماضي إلى 15 تريليون دولار. 

وأكدت أوكسفام في تقريرها السنوي حول كبار الأثرياء الذي يصدر تقليديا قبل منتدى دافوس، “يتم منح تريليونات الدولارات في الميراث، مما يخلق أوليغارشية أرستقراطية جديدة تتمتع بقوة هائلة في سياستنا واقتصادنا”.

ورددت المنظمة بذلك كلاما مماثلا صدر الأسبوع الماضي عن الرئيس الأميركي المنتهية ولايته جو بايدن، الذي حذر من أوليغارشية فائقة الثراء “تهدد حرفيا ديمقراطيتنا بأكملها”. 

وأشارت أوكسفام إلى أن مالك شركة تيسلا ومنصة إكس إيلون ماسك ساعد في تمويل حملة ترامب. 

وقال المدير التنفيذي للمنظمة الخيرية أميتاب بيهار “جوهرة التاج لهذه الأوليغارشية هي رئيس ملياردير، يدعمه ويشتريه أغنى رجل في العالم إيلون ماسك، ويدير أكبر اقتصاد في العالم”. 

وأضاف بيهار “نقدم هذا التقرير كنداء تنبيه صارخ بأن الناس العاديين في جميع أنحاء العالم يتعرضون للسحق بسبب الثروة الهائلة لقلة قليلة”.

وبحسب التقرير الذي حمل عنوان “الآخذون لا الصانعون”، ظهر العام الماضي 204 مليارديرات جدد، أي بمعدل أربعة كل أسبوع تقريبا، ليصل الإجمالي إلى 2769. 

وسجلت ثروة المليارديرات الإجمالية العام الماضي نموا أسرع بثلاث مرات من العام 2023، إذ زادت ثروة كل منهم بمعدل 2 مليون دولار يوميا في المتوسط.

 ووفقا لأوكسفام، قد يظهر خمسة تريليونيرات في غضون عقد من الزمن.

ورأت المنظمة أن انتخاب ترامب “أعطى دفعة كبيرة إضافية لثروات أصحاب المليارات، في حين من المتوقع أن تؤجج سياسته نيران عدم المساواة”.

 وقالت رئيسة أوكسفام فرنسا سيسيل دوفلو “في الولايات المتحدة، نحن في وضع حيث يمكنك شراء دولة، مع خطر إضعاف الديمقراطية”.

وأوضح لفرانس برس “أخشى أن نشهد اضطرابات مدنية إذا لم نغير الأمور”.

الديمقراطية والعنف

وقد واجهت الديمقراطية تحديات في عام 2024 لكنها لم تنهزم. في عام أجرت فيه بلدان تمثل ما يقرب من نصف سكان العالم انتخابات، واجهت الديمقراطيات أعمال عنف ومخاوف كبيرة لكنها أثبتت أيضا قدرتها على الصمود.

نجا الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب من محاولتي اغتيال، وعلى الرغم من المخاوف بشأن نتيجة متنازع عليها واضطرابات، يعود إلى البيت الأبيض بعد انتصار ساحق ويبدو مستعدا لانتقال السلطة سلميا الشهر المقبل.

سجلت المكسيك الانتخابات الأكثر دموية في تاريخها الحديث مع اغتيال 37 مرشحا قبل التصويت، لكنها مضت قدما لتنتخب أول امرأة ترأس البلاد وهي كلوديا شينباوم.

في أربع قارات، أزيح زعماء من مناصبهم في انتخابات أشعلت العنف في كثير من الأحيان، لكنها حققت في نهاية المطاف الهدف الرئيسي للديمقراطية ألا وهو الانتقال المنظم للسلطة وفقا لرغبات الناخبين.

واحتفظت الأحزاب الحاكمة منذ فترة طويلة في جنوب أفريقيا والهند بالسلطة لكنها خسرت أغلبيتها المطلقة.

اضف تعليق