q
شهدت أنتيوخيا زلازل كثيرة، واحدًا كل قرن عمليًا، دمّرتها وأُعيد إعمار المدينة مرارًا. أبرز الهزّات التي ضربتها كانت عامَي 147 و37 قبل الميلاد، وفي عامَي 115 و458 بعد الميلاد. سنة 526، قضى 250 ألف شخص وفي 1054 قُتل 10 آلاف شخص. مهد الأحداث التاريخية كما أنها مهد الهزّات الأرضية...

على مرّ تاريخها الذي يتجاوز ألف سنة، توالى على أنطاكية، أنتيوخيا سابقًا التي أسّسها الإسكندر الأكبر عام 300 قبل الميلاد، الإغريق والرومان والبيزنطيون والفرس والعرب والعثمانيون وحتى الفرنسيون لفترة وجيزة بين الحرب العالمية الأولى و1939 عندما سُلّمت لتركيا.

وشهدت أنتيوخيا زلازل كثيرة، واحدًا كل قرن عمليًا، دمّرتها وأُعيد إعمار المدينة مرارًا. أبرز الهزّات التي ضربتها كانت عامَي 147 و37 قبل الميلاد، ولاحقًا في عامَي 115 و458 بعد الميلاد. سنة 526، قضى 250 ألف شخص وفي 1054 قُتل 10 آلاف شخص.

أنطاكية مدينة تقع على الضفة اليسرى لنهر العاصي على بعد 30 كم من شاطئ البحر المتوسط في محافظة هتاي التركية.

بعد انقضاء الحرب العالمية الأولى عادت أنطاكية إلى سوريا ليحكمها السوريون بعد أن خرج الحكم العثماني التركي من البلاد العربية، ولكن سلطات الإنتداب الفرنسي على سوريا بين 1920 م و 1946 م تخلت عن منطقة لواء الإسكندرون لتركيا ومن ضمنها مدينة أنطاكية سنة 1939 م، وذلك تحقيقا لمصالح معينة مخالفةً بذلك بنود اتفاقية الانتداب بالحفاظ على وحدة أراضي الدولة المنتدب عليها. وهكذا تقع هذه المدينة اليوم في الأراضي التركية ضمن محافظة هاتاي، علمًا بأن لواء الإسكندرون في سوريا لا يزال يرسم ضمن الخارطة الوطنية السورية كجزء من أراضي البلاد.

6 آلاف هزة ارتداية

بعد نحو أسبوعين كاملين من الزلزالين اللذين ضربا جنوب تركيا وشمال سوريا في السادس من فبراير/شباط الماضي، ضرب زلزال جديد ولاية هاتاي جنوب تركيا في الساعات الأولى من مساء أمس الاثنين، 20 فبراير/شباط، قدر بقوة 6.4 درجات على المقياس، الأمر الذي تسبب في سقوط بعض المباني، وعودة الرعب مرة أخرى إلى الأجواء، سواء في تركيا أو في غيرها من البلاد، حيث وصل أثر الزلزال كذلك إلى لبنان وسوريا وفلسطين، وشعر به الناس في مصر وعدة دول أخرى.

لكن ما لا يدركه الجميع ربما أن هذه المنطقة قد تعرضت إلى أكثر من 6 آلاف هزة ارتداية خلال تلك الفترة القصيرة، البعض منها بالفعل كان أكبر من 5 و6 درجات على المقياس، لكن الزلزال الأخير في هاتاي كان كبيرا كفاية ليشعر به الناس ويخافون مقارنة بالهزات السابقة له خلال أسبوعين مضيا، ورغم أنه إذا ما قورن بالزلزال الرئيسي بقوة 7.8 درجات على المقياس فسنجد أنه أصغر بخمسة وعشرين ضِعْفا، فإنه يظل عموما من الزلازل المتوسطة إلى القوية التي يمكن أن تتسبب في أضرار.

وبالطبع فإن التأثير القوي المحتمل لهذا الزلزال يعود بشكل رئيسي إلى حقيقة أن المباني كانت قد تضررت بالفعل من الزلزال الأول، وبالتبعية ستكون هشة في مواجهة أية ضربات جديدة، إلى جانب مخاطر حدوث انهيارات أرضية وتسرب الغاز والحرائق وسقوط الصخور التي يمكن أن تؤدي أيضا إلى تعقيد جهود الإنقاذ، لكن الجانب الإيجابي للأمر يتعلق بأن الخسائر في الأرواح على الأغلب ستكون محدودة، لأن الناس بالفعل ابتعدوا عن المباني المتضررة، كما أن أفراد فِرَق الإنقاذ يعرفون بالفعل بوجود هذه الهزات الإضافية ويتخذون احتياطاتهم لمواجهة الأمر.

أبناء انطاكية أمام معضلة المغادرة او البقاء

ينهي بلال جاوير جمع مقتنيات عائلته في شاحنة صغيرة استعدادا لمغادرة مدينته أنطاكية التي دمرها زلزال عنيف في السادس من شباط/فبراير.

ويقول بأسى "ليس لدينا عمل ولا حياة كيف يمكننا العودة للعيش هنا؟ هذا يحطم قلوبنا".

صمد منزل بلال لكنه لا يعرف إن كان آمنا للسكن. فلجأ مع زوجته وابنيته إلى أشجار الليمون المحاذية لدارته.

ومثله، يجد ملايين الأشخاص الذين ضرب الزلزال بلداتهم من دون أن يأتي على منازلهم المعضلة ذاتها: هل يعودون إلى ديارهم أو ينتقلون للعيش في مناطق أخرى؟

قضى أكثر من 44 ألف شخص في هذه الكارثة الطبيعية التي ضربت جنوب تركيا وسوريا المجاورة.

ويقول عامل البناء هذا متنهدا وهو يثبت مقتنياته على الشاحنة "قرار المغادرة مؤلم وصعب، لدينا ذكريات كثيرة هنا: ابنتاي ولدتا هنا وتزوجنا هنا".

سينتقل بلال جاوير للاقامة لدى عمه هادي البالغ 63 عاما في أضنة على بعد أقل من 200 كيلومتر شمالا التي لم يضربها الزلزال البالغة قوته 7,8 درجات.

في الشارع، يستعد الجيران ليحذوا حذوهم. عدنان وابنته ديلاي يضعان أكياسا كبيرة تحوي ملابس في شاحنة صغيرة.

يقول عدنان الذي رفض الكشف عن اسمه كاملا "لا نعرف ما الذي سيحل بمنزلنا، هل سيهدم؟"

على غرار عائلة جاوير، يرفض عدنان التكهن بمتانة أسس المبنى الذي كان يقطنه.

وتتأمل والدة ديلاي المطبخ الذي تنتشر على أرضه شظايا الزجاج وأواني المائدة المحطمة "لا يمكنني انقاذ أي شيء هنا".

واستفاقت العائلة على الزلزال الذي ضرب المنطقة قرابة الساعة الرابعة صباحا وهرعت إلى الخارج بلباس النوم. وستنتقل الآن للعيش في شقة في مدينة مرسين الساحلية على بعد 270 كيلومترا من أنطاكية.

في شارع قريب، غطى ركام المباني المجاورة سيارة بيضاء بالكامل.

لكن وسط هذه الكارثة، لا يفقد البعض حسهم التجاري.

فقال سائق رافعة لنقل الحمولات الثقيلة أتى من شمال المدينة إنه رفع اسعاره إلى 75 يورو في الساعة مع 47 يورو إضافيا عن كل عامل تحميل وشاحنة، في حين تنزل رافعته من الطابق الخامس سجادة وإطارات صور وخلاطة أكل.

ويبرر الرجل الذي امتنع عن الكشف عن اسمه "زدنا الأسعار بسبب عامل الخطر".

سنعيد البناء

في المدينة القديمة، يفتش جنيد إروغلو صاحب متجر لبيع النظارات (45 عاما) الذي لم تصب عائلته بأذى جراء الزلزال، بين ركام متجره ويحاول التخفيف من وطأة المأساة.

ويقول "مدام هاجر إذا كنت تسمعينني نظاراتك باتت جاهزة" فيما يضع جانبا مظاريف أخرجها من طبقة الغبار التي تلف المبنى العائد للحقبة العثمانية. ويؤكد "سنبقى هنا" موضحا أن عثوره على شهادة الثانوية العليا أفرحه جدا.

خلافا لجادات كثيرة أخرى، أزيل من الشارع حيث متجره الركام الذي كان يعيق الحركة.

ويقيم إيروغلو وعائلته في خيمة في بلدة قريبة من أنطاكية.

ويؤكد "المغادرة سهلة لكن البقاء مهم. أنا أريد أن امضي هنا بقية حياتي".

ويختم قائلا "هذه المدينة دمرت 17 مرة في تاريخها وسنعيد بناءها للمرة الثامنة عشرة".

خيار الرحيل أو البقاء بين الأنقاض

تبدو فيدان توران بعينيها الحمراوين ووجهها المتعب تحت حجابها، تائهة في شارعها المكسو بالركام غير قادرة على تصور المستقبل... هل تغادر أنطاكية التي أصبحت خرابا أو تبقى على الرغم من كل شيء؟

يبدو للوهلة الأولى أن المبنى الذي تسكن فيه قاوم أكثر من المباني المجاورة له الزلزال العنيف الذي دمر جنوب تركيا. فبوابته الحديد لا تزال صامدة وكذلك نوافذه التي لا تزال النباتات تزيّن بعضها، وأجهزة التكييف ثابتة على الواجهة المتصدعة.

لكن الجنوب التركي حيث قتل عشرات الآلاف، يخشى بكامله وقوع زلزال عنيف جديد.

وتروي فيدان توران ببساطة "معاناتها" مشيرة إلى منزل العائلة في الطابق الرابع، الذي لا تعرف ما إذا كانت ستعود إليه يوما. وتقول "عندما أرى المباني المدمرة والجثث لا أتخيل نفسي بعد سنة أو سنتين، بل لا أستطيع تصور يوم غد".

وتلتقط السيدة الستينية أنفاسها وهي تبكي، قائلة "فقدنا ستين من أفراد عائلتنا... ستون. ماذا يسعني أن أقول؟ إنها مشيئة الله".

وانهار منزل العائلة في القرية أيضا. وقالت "إلى أين نذهب؟ لم يبق لنا مكان". واضافت "لذلك نحن نشعل النار في الحديقة (للتدفئة) والوقت يشفي كل الآلام ونحن ممنونون لبقائنا على قيد الحياة".

في الشارع على المقاعد

ويساعدها ابنها عنايت توران في جلب بعض الأغراض من منزل العائلة. وقال بنظرة قاسية وراء نظارتيه الزرقاوين إنه يتوقع من جانبه البقاء في مدينته "إذا أعيد بناؤها بشكل جيد"، معتبرا أنه "من الممكن إعادة البناء والدولة لديها القدرة على القيام بذلك".

وتابع عالم النفس هذا البالغ من العمر 35 عاما مبديا حزنه وغضبه أن "مئات الأشخاص في الشارع.. ينامون على مقاعد، في الحدائق. يجب إيجاد حل".

ويعبر مصطفى كايا أحد شوارع جنوب المدينة حاملا جهازا لتنقية المياه وترافقه زوجته التي تجر حقيبة على عجلات مع ابنتهما. فهو انتقل مع عائلته إلى خيمة منذ الإثنين واستعاد بعض الأغراض المخزنة في مدخل منزله من دون أن يغامر بالدخول أبعد من ذلك خوفا من انهيار.

وقال "لا نعرف أين سنكون بعد شهر أو عام. سنفعل ما تقوله الحكومة وما يسمح به الله ... لدي أخ في اسطنبول، سنرى أن كنا سنذهب إليه لكنني لا أعرف حتى كيف سنذهب".

والوضع أسوأ بالنسبة لهاتيس شوشلو (55 عامًا) وهي واحدة من الناجين الذين لم يعودوا يملكون سوى خيمة محاطة بعدد كبير من الخيام في حديقة عامة.

ويتحلق بعضهم ملتفين ببطانيات حول نيران صغيرة أشعلوها في برد الصباح.

"الحياة انتهت"

قالت هاتيس "ليس لدي أي فكرة عما سنفعله، سننتظر بضعة أيام لاتخاذ قرار. لا نعرف ماذا سيحل بنا". وأضافت "الذين ماتوا ارتاحوا، أما الباقون.. فماذا سيحل بهم؟".

وتابعت "ليس هناك ما يقال. الحياة انتهت".

ويبدو محمد علي توفير (35 عاما) أحد رفاقها في هذه المحنة، أقل تشاؤما. فقد تمكن بائع الأحذية الذي كان محاطا بأطفال عندما تحدثت إليه فرانس برس، من العثور على كوخ عام صغير أحاطه بشوادر بلاستيكيّة للاحتماء من البرد.

وقال بحزم "نحن على أرضنا وننتظر هنا بعض الوقت". وأضاف "الجميع يحاولون الفرار إلى مكان ما ولكن هنا، نحن على أرضنا ولا يمكننا التخلي عنها".

وبلهجة تنم عن حذر أكبر، تؤكد فتوة أجكار (61 عامًا) التي ولدت في أنطاكية وعاشت في المدينة أنها لا تملك أي موارد، فزوجها عاطل عن العمل حاليا.

وقالت إنها لا تملك "الوسائل" للرحيل مع أن شقتها أصبحت "غير صالحة للسكن".

وأضافت "لكنني أنتظر أيضا أن يتم انتشال إخوتي" من تحت الأنقاض، مؤكدة أنه "لا يمكننا الرحيل قبل العثور عليهم ودفنهم".

مئات الجثث تتكدس في موقف سيارات

تتنقل رانية زنوبي وسط العتمة والبرد بين الجثث المكدسة أرضا في موقف للسيارات، فتفتح الأكياس السوداء واحدا تلو الآخر بحثا عن عمها المفقود إثر الزلزال العنيف الذي حول أنطاكية في جنوب تركيا الإثنين إلى مدينة منكوبة.

تقول اللاجئة السورية بحسرة "عثرنا على عمّتي لكن ليس على عمّي".

خسرت رانية ثمانية من أفراد عائلتها في الكارثة التي أوقعت أكثر من 17500 ألف قتيل في تركيا وسوريا المجاورة.

ويتجمع ناجون آخرون في موقف أكبر فنادق أنطاكية، المدينة الكبرى في محافظة هاتاي، للكشف على الجثث الممددة الواحدة جنب الأخرى.

وعددت وكالة فرانس برس مساء الأربعاء حوالى مئتي جثة بعضها ملفوفة بأغطية فقط، وضعت من جانبي صف الخيم التي ينشط فيها عناصر طبيون قدموا من جميع أنحاء البلد وبعضهم حتى من الخارج.

وقضى ما لا يقل في محافظة هاتاي وحدها ثلث الضحايا الذين عثر على جثثهم حتى الآن في تركيا.

وازاء حجم الكارثة، لم يعد هناك مساحة متبقية في موقف السيارات الشاسع، فوضعت سبع جثث عند أسفل حاوية تطفح بالنفايات.

وعلى مسافة ثلاثين مترا، لا يزال المستشفى الضخم من الإسمنت والزجاج قائما غير أن التصدعات الضخمة التي يمكن رؤيتها رغم عتمة الليل على أحد جوانب المبنى دفعت السلطات لإخلائه.

كما طالت الأضرار داخل المستشفى ما جعل من المستحيل استقبال مصابين أو قتلى فيه.

قتلى مجهولو الهوية

ويتم نقل الجرحى إلى الخيم الحمراء والبيضاء الموزعة على ثلاث مجموعات من ألوان مختلفة طبقا لخطورة الإصابات.

ونقل العديد من الجرحى في مروحيات إلى مستشفيات قاومت الهزات، ولا سيما في أضنة.

أما القتلى، فينتهي بهم الأمر على الأسفلت.

حين سئل إيتشان قيصريلي القادم من أنقرة عن عدد الذين نقلوا إلى هناك منذ الإثنين، أجاب "ربما 400، وربما 600".

ويقوم المتطوع الذي لم ينم منذ يومين بمساعدة العائلات على البحث عن قتلاها وتقديم الدعم النفسي الضروري لها.

ولا تتوقف حركة الناجين ذهابا وإيابا في موقف السيارات.

في جهته اليمنى، يرفع رجل وابنه جثة، ثمّ يواصلان تقدّمهما من غير أن يبديا أي ردّ فعل.

خلفهما يتقدم رجل ببطء خلف مقود سيارة قديمة زرقاء داكنة، هو عثر على الجثة التي كان يبحث عنها، فمددها على المقعد الخلفي في كيس أسود، تاركا الباب الخلفي الأيسر مفتوحا لإخراج القدمين منه.

ثمة شاحنة بيضاء ضخمة مركونة في الموقف، لا تستخدم لنقل المساعدات على غرار الكثير من الشاحنات التي تتعاقب على الطريق إلى أنطاكية، بل تستخدم لنقل الجثث المجهولة الهوية.

وقال إيتشان قيصريلي إن "حوالى 70 بالمئة من الجثث هنا مجهولة الهوية".

إذا لم يحضر أقرباء لتسلم الجثث في غضون 24 ساعة، يتم وضعها في الشاحنة لنقلها إلى مقابر جماعية.

وأوضح المتطوع "يمكن وضع خمسين جثة في الداخل" مضيفا "يمكننا وضع عدد أكبر، لكننا لا نريد أن نكدّسها".

مستشفى ميداني

عاشت عبير تجربة الموت مئة مرة قبل أن تُنتشل الشابة السورية البالغة من العمر 25 عامًا من تحت الأنقاض بعد 180 ساعة من الزلزال المدمّر الذي ضرب تركيا وسوريا في السادس من شباط/فبراير، وتوقف قلبها عن الخفقان قبل أن يتمّ إنعاشه في خيمة مستشفى ميداني في هاتاي إحدى محافظات جنوب تركيا الأكثر تضررًا من الكارثة.

حين توقّف قلبها عن الخفقان لهنيهة بعد معجزة إنقاذها، تناوب المسعفون المذعورون على دفع صدرها بقوة وبسرعة. بدا الأمر ميؤوسًا منه حتى صرخ أحد المسعفين فجأة "يمكنني سماع نبضها!"

عبير هي واحدة من عشرات آلاف الأشخاص الذين أُصيبوا جرّاء زلزال السادس من شباط/فبراير الذي ضرب جنوب شرق تركيا بقوة 7,8 درجات وتبعته هزّات ارتدادية.

صدحت صفارات إنذار سيارات الإسعاف فيما استمرت جهود البحث والإنقاذ بين أنقاض محافظة هاتاي منذ الزلزال. لكن بدأ صوتها يخفت مع تضاؤل فرص العثور على ناجين.

ويصبّ أطباء الطوارئ مثل يلماز أيدين تركيزهم على الناجين مثل عبير. وقال "إن العثور على شخص ما زال على قيد الحياة تحت الأنقاض معجزة".

"لحظة مميزة جدًا"

خلال زيارة فريق وكالة فرانس برس التي استمرت ثلاث ساعات في المستشفى الميداني الواقع قرب مستشفى كبير في أنطاكيا دمّره الزلزال، وصلت ست سيارات إسعاف تنقل مصابين.

وأضاف أيدين "اعتبارًا من الآن، من المرجح أن يكون الناجون في حالة أكثر خطورة. سيحتاج معظمهم إلى علاج منقذ للحياة".

وأشار الطبيب نهاد مجدت هوكينيك الذي يشرف على علاج الضحايا إلى أن عبير كان لديها مستويات هواء وغاز غير طبيعية في الغشاء المحيط بالرئتين الذي يبطن تجويف الصدر.

وقال "توقف قلبها مرتين لكننا تمكنا من إنعاشها. فعلنا كل ما توصي به الأدبيات الطبية. وبعد ساعة ونصف، عادت إلى الحالة الطبيعية".

من جهته، قال عمر، وهو أحد الممرضين الذين عملوا على إنعاش قلب عبير، "كانت لحظة مميزة جدًا، وربما أكثر عملية إنقاذ عظيمة في حياتي" بسبب الظروف المحيطة بها.

وأضاف "لقد أنقذت عدة أرواح لكن لم أكن سعيدًا لهذه الدرجة من قبل".

أُجليت امرأتان أخريان إلى مرفق دائم. وسألت إحداهما قبل أن يتمّ إدخالها إلى مروحية "هل أبي هنا؟ هل أمّي هنا؟".

وقال هوكينيك إنه يمكن أن يكون هناك مزيد ممن نجوا بفضل معجزة.

ورغم البرد القارس، يُحتمل أن يكون بعض الضحايا عالقين في جيب آمن تحت الأنقاض وأن يكون حتى معهم طعام وماء رغم تأكيد أيدين أن ذلك نادر الحدوث.

وقال أيدين "يمكنهم الصمود لفترة أطول".

ليحصل ذلك، يجب أن يكون الشخص العالق تحت الأنقاض "صغير السنّ وبصحة جيدة كما أن انخفاض درجة حرارة الجسم عامل يفاقم صعوبة الوضع"، بحسب عامل إغاثة أجنبي فضل عدم الكشف عن اسمه.

بعد بضع دقائق، وُضعت عبير على نقالة ونُقلت إلى سيارة إسعاف. لكن بينما كانت مروحية تنتظر نقلها إلى مستشفى في أضنة على بعد 200 كيلومتر، تدهورت حالتها الصحية مرة أخرى.

في هذه الحالة، سيتولى أطباء أضنة مراقبة وضعها الصحي، لكنها ليست الشخص الوحيد الذي يواجه مصيرًا مجهولًا.

وتقول السلطات التركية إنها سجّلت نحو 80 ألف جريح.

الزلزال دمّر التاريخ في أنطاكية العريقة

بين كومة أنقاض تغطي قاعة الصلاة في مسجد حبيب النجار، وهو الأقدم في تركيا، يمكن رؤية حطام المئذنة... فقد قضى الزلزال المدمّر الذي أودى بعشرات الآلاف في سوريا وتركيا، أيضًا على 14 قرنًا من التاريخ في مدينة أنطاكية، أو أنتيوخيا كما كانت تعرف لدى الإغريق.

ومسجد حبيب النجار الذي "يُعتبر أول مسجد بُني داخل حدود تركيا الحالية"، بحسب الحكومة التركية، شُيّد عام 638.

وحدها الجدران الخارجية صمدت. وباتت الرسوم الداخلية بالأصفر والأحمر والأزرق وكذلك الكتابات على الجدران عرضةً للرياح.

تقول امرأة خمسينية تُدعى حواء باموكجو وتضع حجابًا بـ"قلب مفطور"، إن "قطعة صغيرة من لحية النبي محمد كانت محفوظة في علبة" معروضة في المسجد لكن لم يُعثر عليها بعد.

على بعد مئات الأمتار، لحقت أضرار أيضًا بالكنيسة الأرثوذكسية اليونانية التي شُيّدت في القرن الرابع عشر وأُعيد إعمارها عام 1870 إثر هزّة أرضية. يمكن رؤية الصليب الأبيض الكبير الذي كان مرفوعًا أعلى الكنيسة، وسط أكوام الحجارة والألواح الخشبية.

ويوضح سيرتاتش بول بوزكورت العضو في مجلس إدارة الكنيسة، أن "كل الجدران انهارت. نحن في حالة يأس" آملًا إعادة بنائها.

في المدينة القديمة في أنطاكية، ليس بالإمكان الوصول إلى عدد كبير من الشوارع بسبب أنقاض المباني المدمّرة.

على مرّ تاريخها الذي يتجاوز ألف سنة، توالى على أنطاكية، أنتيوخيا سابقًا التي أسّسها الإسكندر الأكبر عام 300 قبل الميلاد، الإغريق والرومان والبيزنطيون والفرس والعرب والعثمانيون وحتى الفرنسيون لفترة وجيزة بين الحرب العالمية الأولى و1939 عندما سُلّمت لتركيا.

وشهدت أنتيوخيا زلازل كثيرة، واحدًا كل قرن عمليًا، دمّرتها وأُعيد إعمار المدينة مرارًا. أبرز الهزّات التي ضربتها كانت عامَي 147 و37 قبل الميلاد، ولاحقًا في عامَي 115 و458 بعد الميلاد. سنة 526، قضى 250 ألف شخص وفي 1054 قُتل 10 آلاف شخص.

يروي هاكان ميرتكان وهو طالب دكتوراه في جامعة بايرويت الألمانية ومعدّ دراسة عن هذه المدينة، أن "أنتيوخيا مهد الكثير من الأحداث التاريخية" كما أنها "مهد الهزّات الأرضية".

تقع تركيا وكذلك سوريا، عند نقطة تلاقي ثلاث صفائح تكتونية، ما يفسّر عدد الزلازل الكبير الذي تتعرّضان له، "عند تقاطع جزء كبير من التاريخ القديم المشترك للبشرية"، وفق قول أبارنا تاندون، مسؤول برنامج في المركز الدولي لدرس صون وترميم الممتلكات الثقافية.

تقاطع الحضارات

يقع نحو ستة مواقع تصنّفها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) ضمن التراث العالمي للبشرية، في المنطقة المتضررة جراء الزلزال الأخير.

تذكّر يمنى تابت من لجنة التراث العالمي، بأن حلب في سوريا وهي أيضًا مركز "تقاطع للحضارات" سبق أن "دُمّرت بنسبة 60% عام 1822 بسبب زلزال". وقد لحقت "أضرار جسيمة" بقلعتها هذه المرة، بحسب الوكالة الأممية.

في المقابل، تشير ماريا ليوليو من لجنة التراث العالمي أيضًا، إلى أن في المواقع التركية المدرجة على قائمة التراث العالمي، "يبدو أن ليس هناك الكثير من الأضرار". وتوضح أن قلعة ديابكر في تركيا لم تتكبد الكثير من الأضرار على ما يبدو.

إلا أنه ينبغي حتمًا أن يأتي خبراء لتقييم شدّة الأضرار، بحسب سمير عبدالله وهو مسؤول في المجلس الدولي للمعالم والمواقع، منظمة دولية غير حكومية تعمل في مجال حماية التراث في العالم والمحافظة عليه.

ويؤكد عبدالله أنه ينبغي أيضًا إيلاء الاهتمام بمواقع غير مدرجة على لائحة اليونسكو للتراث العالمي كتلك الموجودة في أنطاكية.

ويحذّر عبدالله من أن التشققات التي تبدو "بسيطة" وبدون تداعيات "بالعين المجردة"، "قد تضعف المعلم" إلى درجة "قد ينهار وحده بعد بضعة أسابيع".

لكن يشدد خبراء التراث الذين تحدثت اليهم وكالة فرانس برس على أن "الأولوية هي لإنقاذ الأرواح"، ما يفرض إعطاء أهمية أقلّ في البداية للمواقع التراثية.

وكدليل على ذلك لقاء أجرته فرانس برس مع مسؤول محلي في المدينة القديمة في أنطاكيا الذي فقد صوابه عندما سُئل عن التراث والتاريخ.

وقال "فقدتُ للتو شقيقين وابن شقيقي. أُجلي زوجته وابنتي اليوم. لم يعد لديّ مال، لا شيء" مضيفًا "بصراحة، لديّ أولويات مختلفة عن التراث حاليًا".

اضف تعليق