صفات القائد الجماهير تتنافى تماما مع التسلط والاستبداد، بل تقوم على مد الجسور الدستورية والقانونية والحقوقية المتبادلة بين الحكومة والجماهير، واحترام واجبات وحقوق الطرفين بشكل متبادَل، لهذا يجب أن يفهم حكام اليوم جميعا، بأن الجماهير والشعوب هم الدعامة الأقوى للحكام وللدول، وأي تفكير للحاكم يخالف هذه القاعدة يعني السقوط الحتمي له...
(من أهم ما يجب أن تتّصف به القيادة هي: الجماهيرية) الإمام الشيرازي
من الأخطاء الفاحشة التي ارتكبها السياسيون في الدول العربية والإسلامية، أنهم تجاهلوا الجماهير، وتعاملوا معهم بسياسة التهميش، وعدم الاهتمام، ونظروا إلى الجماهير على أنهم مجاميع من البسطاء، وبعض الحكام نظر إليهم كأعداء، يهددون عرشه وسلطته، لهذا تعامل معهم وفق منهج الاستبداد واالبطش، وسعى بكل ما يمتلك من سلطة ومال وقوة إلى تركيع الجماهير، عن طريق قمعهم وتجهيلهم وحرمانهم من فرص التعليم ومن الحياة الكريمة.
لقد أخطأ السياسون العرب والمسلمون حقا باعتمادهم مثل هذه السياسة المجحفة، وكان عليهم أن ينظروا للجماهير على أنهم القوة الكبرى والأساس في النهوض بالدولة وتقدمها وصنع كرامتها القوية بين الدول الأخرى، فالجماهير هم أساس قوة الدولة والمجتمع، وإذا كانت الجحماهير واعية بعيدة عن الجهل، متعلمة، فإن الدولة كلها سوف تكون متميزة بنهوضها ومجاراتها للدول الأخرى سواء الإقليمية المجاورة أو دول العالم الأخرى، فالجماهير هي التي تنهض بالدولة، والحاكم الذكي هو الذي ينهض بالجماهير، ليكونوا عونا له في بناء الدولة، ولذلك ليس من المجدي تجهل دور الجماهير ولا يصح للقائد أن يدير ظهره لهم.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الاله) يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (مواصفات القيادة الإسلامية):
(الجماهير هم الذين يشكلون مجموع الأمة وسدها المنيع، ودرعها الحصين، والدولة تعتمد في أصل وجودها على الجماهير، فلا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوزهم وتجاهلهم وعدم الاهتمام بهم، لذا لابد أن يكون القائد جماهيرياً، وأن يلاحظ الجماهير على طول الخط).
ومن بين الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها الحكام والقادة العرب والمسلمون، أنهم اعتمدوا على ذويهم (الأبناء والأخوان والأقارب)، في إدارة مؤسسات ومراكز الدولة الوظيفية الحساسية، وكان معيارهم ليس الكفاء التي تضمن تطور الدولة والمجتمع، وإنما المعيار هو الولاء للحاكم ولسلطته، والهدف من هذا السلوك القيادي الخاطئ حماية السلطة والعرش من السقوط، ولكن هذا العمل في الحقيقة هو الذي عجَّل ويعجّل في سقوط الحكام المستبدين.
والمشكلة المعقدة أيضا هناك قسم من المثقفين وأصحاب الكفاءات يسايرون الحكام في أخطائهم وقراراتهم الجائرة، طمعا بتأمين العطايا التي يمنحها ويهبها لهم الحاكم، وهؤلاء لن يفكروا مطلقا لا في بناء الدولة ولا في مستقبلها ولا مستقبل الأجيال اللاحقة، لأنهم يوافقون الحاكم حتى في قراراته الخاطئة، أما النتائج الكارثية التي تنتج عن سياسات الحاكم الفردية الأنانية، فهي لا تدخل ضمن تفكيرهم مطلقا.
كوارث الاستمرار بالسياسات الفردية
لذلك كانت وستكون النتائج مؤلمة ومؤذية جدا للجماهير العربية والإسلامية، في حال يستمر الحكام بسياساتهم الفردية التي لا تضع الجماهير في الاعتبار، ولعل طرق الوصول إلى السلطة في هذه الدول تؤكد أن الجماهير لا دور لهم فيها، وبالتالي لا زال العرب والمسلمون يعيشون في ظل أنظمة لا تراعي حقوق الجماهير ولا تعتني بدورهم الكبير في صناعة التطور.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الشأن:
(إن الجماهير بإمكانياتهم الكثيرة والمختلفة في مستوياتها، هم الذين ينقذون بلاد الإسلام والمسلمين، وليس فقط الجماعة الخاصة المحيطة بالقائد أو الأقارب أو العشيرة أو النخب من المجتمع كالمثقفين أو أصحاب الكفاءات الخاصة فحسب، ولا يخفى أن لهؤلاء مهاماً وأهمية خاصة في حياة القائد ومسيرته ولكنهم ليسوا هم كل شيء).
وكم هو جميل وحقيقي وصادق ذلك الوصف الذي يقدمه الإمام الشيرازي (رحمه الله) عن الجماهير من جهة، وعن القائد والدولة من جهة أخرى، فهو يصف الجماهير كالماء، وكلنا نعرف ما هو دور الماء في الحياة، ولابد أننا قرأنا أو سمعنا بالنص القرآني الذي يقول (وجعلنا من الماء كلّض شيء حيّ)، وهو قول يؤكد الدور المصير للماء في المحافظة على الحياة ونموها وتطورها وازدها بما تحتويه من كائنات حية مختلفة.
في حين أن الإمام (رحمه الله) يصف الحاكم والدولة كأنهما سمكة وماؤها الجماهير، فإذا غاب هذا الجمع الذي يتكون منه الشعب، فلا يمكن للقائد أن يستمر في الحكم فيموت، وكذلك لا يمكن للدولة أن تتشكل وتستمر في الوجود بلا شعب وجماهير، لهذا على القائد الحاكم أن ينظر إلى أهمية الجماهير، واستنادا إلى هذا الدور المصير يتعامل مع هؤلاء الجماهير، ويدعم وجودهم ويؤازر حقوقهم ولا يتنكر لهم، بل يلهمهم ويدعمهم معنويا وماديا على الدوام.
وهذا ما يؤكده الإمام الشيرازي في قوله:
(إن مثل الجماهير كمثل الماء، إذا انعدم لم يبق شيء حي على الإطلاق، أما القائد والدولة فمثلهم كمثل السمكة. لهذا على القائد أن يكون في خدمة الجماهير، وأن لا يغيب عنهم فترات طويلة، وأن يلهمهم المعنويات، ويبث فيهم الأمل وروح التعاون).
ولكن للأسف هناك من الحكام والقادة لا يعترفون بدور الجماهير، ولا ينظرون إلى دورهم بتلك الأهمية التي تستحقها، وهؤلاء الحكام هم الذين يعتمدون الاستبداد في سياساتهم وفي إدارتهم لشؤون الدولة، فيظعون الجماهير خلف ظهورهم، وينظرون لهم على أنهم أفضل من الآخرين، وأن عقولهم هي المرجّحة على سواها، وأن تفكيرهم هو الصحيح وما عداه ليس صحيحا.
على الحاكم أن يكسب الجماهير
ولكن غالبا ما يكون تفكير الحاكم المستبد محصور بحماية سلطته، ولا يفكر في بناء الدولة ولا في حماية حقوق الجماهير، بل يخشى الشعب وينظر له على أنع عدو يهدد سلطته، ولهذا يتجاهل الجماهير، ولا يهتم لهم ولا لحقوقهم، خصوصا ما يتعلق بالحريات ويتقدم ذلك حرية الرأي، فالحاكم المستبد يتطيّر من المطالبة بالحريات، فيعتمد أساليب القمع التقليدية والمبتكَرة، لكن النتيجة الحتمية سوف تنتهي بثورة الجماهير وإسقاط الحاكم وعرشه.
هذا ما يعلنه الإمام الشيرازي في خصوص الحكام المستبدين ويصفهم بأصحاب النفوس السلبية، فيقول:
(أما أصحاب النفسيات السلبية الذين يتصورون أنهم الأفضل ويقولون: نحن أكثر فهماً، وأن الجماهير لا تفهم، وهي غير واعية، إلى غير ذلك من العبارات التي تصدر عن القادة المستبدين والتي تدل على ابتعادهم عن الجماهير والساحة، فإن النتيجة تكون انفضاض الجماهير من حولهم، وبالتالي لا يستطيع هكذا قائد أن يكون ناجحاً).
وتوجد لدينا أمثلة حقيقية موجودة في سجل سياسات بعض الحكومات العربية والإسلامية، حيث تضطر الجماهير إلى التحرك لاسقاط الحكام الفرديين، وهو ما حدث في دول عديدة، والسبب تلك الحواجز التي يصنعها القائد بنفسه ويضعها بينه وبين الجماهير، فيقضي على أي نوع من أنواع المشاركية بين الطرفين، لأن هذا النوع من الحكام يترفّعون على شعوبهم، فينظرون إليهم على أنهم قاصرين الرأي والعقل معا.
لكن الحقيقة تؤكد أن القصور في العقل والرأي يعود إلى الحاكم الذي لا يكسب الجماهير من خلال علاقات متكافئة بين الطرفين تقوم على الانفتاح التام صوب الشعب والتعامل معه على أنه ركيزة الدولة والسلطة الأول وليس العدو الأول لها، فالحاكم المنعزل في برجه العالي لا يمكن أن يشعر بشعور الناس ولا يعرف احتياجاتهم وما ينقصهم.
يقول الإمام الشيرازي:
(كثيرا ما تكون الجماهير سبباً لإسقاط الحاكم، لأنه ليس لديه أي نقطة يشترك فيها مع الأمة، فلا يشاركهم آلامهم، ولا يعاني معاناتهم ولا يشعر بهم).
إذن صفات القائد الجماهير تتنافى تماما مع التسلط والاستبداد، بل تقوم على مد الجسور الدستورية والقانونية والحقوقية المتبادلة بين الحكومة والجماهير، واحترام واجبات وحقوق الطرفين بشكل متبادَل، لهذا يجب أن يفهم حكام اليوم جميعا، بأن الجماهير والشعوب هم الدعامة الأقوى للحكام وللدول، وأي تفكير للحاكم يخالف هذه القاعدة يعني السقوط الحتمي له.
اضف تعليق