آراء وافكار - مقالات الكتاب

حرب الذكاء الاصطناعي

الجزء الرابع

تميل السياسة لصالح الصين في سباقها مع امريكا على الذكاء الاصطناعي. ففي الوقت الذي تحد فيه القيود القانونية والسياسية في امريكا بخصوص سرية البيانات وسياسات الخصوصية المتشددة، من قدرة شركات التقنية المتطورة على التعامل مع بيانات المستخدمين للتكنولوجيا الرقمية التي تقدمها...

بعد ان تمت المقارنة بين الصين وامريكا في عاملَي الامكانات التكنولوجية والامكانت الديموغرافية لمعرفة تاثيرهما على سباق الذكاء الاصطناعي بين البلدين ستتم المقارنة اليوم بين تاثير كل من الاقتصاد والسياسة في كل من الدولتين فيما يخص الذكاء الاصطناعي:

الاقتصاد. يتمتع البلدان باقتصادَين ضخمين هما الاعلى على المستوى العالمي. وعلى الرغم من ان الادبيات الاقتصادية تمتلا بالمقارنات المختلفة بينهما الا ان المؤكد ان الصين مازال امامها شوط (ربما غير بعيد) لكي تتفوق على الولايات المتحدة اقتصاديا. 

لكن ما يهم في موضوعنا هنا هو المقارنة بين الفلسفة الاقتصادية لكل من الصين وامريكا، اذ ان البلدَين يمتلكان امكانات هائلة في مجال تمويل وتنفيذ مشاريع الذكاء الاصطناعي ولا تمثل الامكانات الاقتصادية تحديا لسباقهما في التفوق في سباق الذكاء الاصطناعي. 

تستند اميركا في اقتصادها، كما هو معلوم، على فلسفة السوق المفتوح والراسمالية المطلقة. لذا فان التطور التقني في هذا المجال لا يستند لتوجيهات الدولة وحوافزها،بل لمبادرات القطاع الخاص والحوافز المالية الضخمة التي يجنيها من قطاع التكنولوجيا المتطورة والتي قدرت بترليوني دولار(10 بالمئة منها للذكاء الاصطناعي) في عام 2022 وبنسبة مساهمة تساوي 9.3 بالمئة من الناتج المحلي الصافي GDP الامريكي. لكن من المتوقع ان يصل حجم سوق الذكاء الاصطناعي الامريكي الى 1.8 تريليون دولار في عام 2030 تستفاد منها كلها شركات القطاع الخاص.

قطاع خاص

مقابل ذلك فان الصين تبنت انموذجا اقتصاديا مختلطا يمكن تسميته باقتصاد السوق الاشتراكي social market economy حيث تسيطر الدولة على الاقتصاد لكنها تتيح للقطاع الخاص ان يشتغل وينمو تحت رعايتها وتوجيهها. 

يشكل القطاع الخاص الصيني 60 بالمئة من الناتج المحلي الصافي GDP للصين، لقد شهدت السنوات الاخيرة مزيدا من سيطرة الدولة على الاقتصاد الصيني بحيث ارتفعت مثلا حصة الشركات المملوكة للدولة ضمن اكبر 100 شركة صينية من 57 بالمئة في عام 2022 الى 62 بالمئة في السنة التي تليها. في حين انخفضت حصة الشركات الخاصة في هذه القائمة الى اقل من 40 بالمئة لاول مرة بعد 2019 وبعد ان شهدت صعودا هائلا منذ 2010. 

كما انه من بين 37.5 مليون مشروع اقتصادي مسجل في الصين فان حوالي 20 بالمئة منها تشارك الدولة بحصص من راسمالها. كما تضاعف عدد الشركات (الخاصة) التي تمتلك الدولة الصينية حصة في راسمالها ثلاث مرات منذ عام 2000 للان. 

وفي عام 2023 قامت ادارة الفضاء السيبرنيتي Cyberspace Administration of China التابعة لصندوق الاستثمار الصيني بشراء 1 بالمئة (ما يسمى بسهم الادارة الخاص special management shares) من حصص اكبر شركتين في مجال التكنولوجيا المتطورة والذكاء الاصطناعي (علي بابا وتينسنت).وعلى الرغم من ضئالة هذه النسبة(كما تبدو) الا انها تمنح الحكومة الصينية القدرة على التحكم بالقرارات الاستراتيجية للشركتَين. 

وعلى الرغم من الفوائد السياسية والاجتماعية التي قد تحققها سيطرة الدولة على الاقتصاد (وبخاصة في مجال التكنولوجيا المتطورة كما سيتم شرح ذلك لاحقا) الا ان من المعروف ان الحافز الاقتصادي الفردي الحر يحقق نتائج افضل في مجال الابداع والاقتصاد. 

واذا كان هناك درس يمكن الاستفادة منه استراتيجيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي فهو ان الاقتصاد الراسمالي يعمل (عموما) بشكل افضل من نظيره الاشتراكي.

القانون والسياسة. تميل السياسة لصالح الصين في سباقها مع امريكا على الذكاء الاصطناعي. ففي الوقت الذي تحد فيه القيود القانونية والسياسية في امريكا بخصوص سرية البيانات وسياسات الخصوصية المتشددة، من قدرة شركات التقنية المتطورة على التعامل مع بيانات المستخدمين للتكنولوجيا الرقمية التي تقدمها، فان هذه القيود اقل تشددا بكثير في الصين بحيث يمكن للشركات والحكومة الصينية استخدام ما تشاء من البيانات الشخصية التي توفرها قواعد بيانات المستخدم والمستهلك للتكنولوجيا. ان هذا يتيح للذكاء الاصطناعي الصيني سرعة وقدرة متفوقتَين في التعلم والتطوير.

كما انه في الوقت الذي تستنزف نفقات الاستشارات القانونية الكثير من جهود ووقت واموال الشركات الامريكية لضمان عدم تجاوزها على قوانين الحماية والخصوصية الامريكية فان الموضوع اسهل بكثير على الجانب الصيني. حتى انه يمكن القول انه في الوقت الذي تفرض فيه رقابة حكومية على استخدام البيانات الشخصية في امريكا، فانه تفرض رقابة حكومية في الصين على عدم استخدام تلك البيانات! من جانب اخر فنحن ازاء طريقتين وفلسفَتين سياسيتَين مختلفتَين تماما تستخدمان نفس التكنولوجيا. 

لقد بات الذكاء الاصطناعي يتيح فرصة كبيرة للدولة الصينية ليس فقط لتنجو من نهاية التاريخ-التي توقعها فوكوياما مخطئا- بل لتختط منهجا ومقاربةً سياسية جديدة تتيح للعالم بديل ناجح للنظام الليبرالي الراسمالي الذي بشر بهيمنته فوكوياما.

والواقع فان الصين ورئيسها زي بينج Xi Ping باتا يسعيان ويؤكدان مؤخرا (ومن ورائهما جميع حلفاؤهم في العالم) الى اثبات وتقديم مثل هذا الانموذج السياسي الجديد المغري .

ذكاء اصطناعي

ففي المؤتمر الذي حضره اكثر من 130 رئيس دولة عبر الانترنيت في اذار 2023، قال الرئيس الصيني ان حكومته وانموذجها السياسي اثبتا ان التحديث Modernization للدول لا يعني بالضرورة اتباع الانموذج الغربي Westernization . ان هذه العبارة تجتذب كثير من الدول -بخاصة اللاغربية- لانها تمزج بين خطّين جذّابَين جدا هما الرغبة في التحديث، والخوف من عواقب الانموذج الغربي الليبرالي على المجتمع وهو ما ساناقشه في النقطة الخامسة لاحقا. 

وبعكس ما قد يعتقده الكثير من ان التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي لا يعملان لصالح الحكومات الشمولية (كالصين وكثير من حلفائها) لتشجيعهما على الانفتاح والحرية والابداع وكسر القيود والمحرّمات السياسية والاجتماعية، الا انهما في ذات الوقت يتيحان لتلك الحكومات امكانية اكبر على تجسيد انموذج الاخ الاكبر big brother في الحكم. 

فمثلما تتيح خوارزميات الذكاء الاصطناعي لجيف بيزوس Bezos مالك شركة امازون ان يتحكم بالسلوك الاستهلاكي ورغبات الشراء لاكثر من 100 مليون زبون ممتاز  Prime customers لديه من خلال ما يسميه «الخلطة السحرية لخوارزميات امازون» فانها بنفس الاتجاه تتيح لرئيس الحزب الصيني ان يتحكم باعضاء حزبه المئة مليون بل وباكثر من 1.4 مليار مواطن صيني من خلال تتبعهم الكترونيا عبر مختلف وسائط الاتصال التي يستخدمونها، او كل منصات الشراء والبيع وفتح الحسابات والاعلام والخدمات الحكومية وغيرها من منصات الخدمات الالكترونية التي بالامكان مراقبتها وتحليل سلوك مستخدميها بل ونسخ كل ما قالوه او فعلوه بكبسة زر واحدة.

تصوروا لو ان تقنيات المراقبة والتعرف على الوجوه المتوفرة للحكومة الصينية حاليا كانت متاحة لها في عام 1989 عند اندلاع انتفاضة (تيا ان من) بين شهري نيسان وحزيران والتي قمعها الجيش الصيني بعد ان قتل مئات (ويقال الوف)المتظاهرين المحتجين على السياسات الحكومية انذاك!

بالتاكيد لو توفرت هذه التقنيات لامكن اعتقال المحتجين قبل ان يغادروا الشوارع المحيطة ببيوتهم. بل لكان بامكان برمجيات الذكاء الاصطناعي (ربما) توقع ما سيقومون به قبل مدة طويلة من خروجهم. وكما يقول احد اساتذة جامعة هارفارد فان (ان الصين تستخدم التكنولوجيا لاتقان الديكتاتورية).

بقي لنا ان نناقش عامل بالغ الاهمية يؤثر في الحرب الباردة بين الصين وامريكا في الذكاء الاصطناعي وهو العامل الثقافي الذي لا يسمح المجال في هذا المقال مناقشته اليوم.

اضف تعليق