آراء وافكار - مقالات الكتاب

هيبة الدولة

بعد ان تثبت نظافة اليد وحسن السلوك وسلامة الماضي السياسي، وغير ذلك من المتطلبات الدستورية، فان رئيس مجلس الوزراء يجب ان يكون قوي الشخصية، ذا مهابة ذاتية، وقدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة في الاطار الديمقراطي، مبدعا، ملهما، شجاعا، ذا رؤية متقدمة لادارة الدولة وتوظيف الموارد لبناء البلد...

في عام 1943 كان العالم السياسي الالماني المولد هانز مورجنتاو (1980-1904) يلقي محاضراته في جامعة شيكاغو. في وقت لاحق جمع المحاضرات واعدها للطبع، لتصدر في عام 1947 على شكل كتاب حمل عنوان “السياسة بين الامم”، الذي شكل مرجعا مهما في علم السياسة الدولية. في وقت لاحق أقترح نائب رئيس الوزراء المصري كمال رفعت على المترجم المحترف خيري حماد ترجمة الكتاب ليصدر بثلاثة اجزاء في عام 1964. في تلك الفترة كانت سوق الكتاب مفتوحة في العراق قبل ان يغلقها البعثيون بعد استيلائهم على السلطة في 17 تموز عام 1968 فيما يسميه البعض الان بالزمن الجميل. ولهذا سرعان ما وصل الكتاب الى العراق، لاقوم بشرائه وقراءته.

في ذلك الكتاب عرفت لاول مرة ان “المكانة” او “الهيبة” او “المهابة” هي من محركات السلوك بالنسبة للدولة داخليا وخارجيا. والهيبة مسألة معنوية اتضح من خلال الكتاب ان الدول تحرص عليها في تصرفاتها مع مواطنيها وفي سلوكها مع الدول الاخرى. وقد عرض مورجنتاو على مدى 17 صفحة من الجزء الاول من الكتاب الكثير من القصص والروايات والاحداث التي تدل على مدى حرص الدول على الحفاظ على هيبتها ومكانتها في اعين الاخرين، مواطنين او اجانب. وتحافظ الدولة على هيبتها، وقبل ذلك تخلق هذه الهيبة، من خلال الكثير من التصرفات والموارد وعناصر القوة والمكانة. ودلت الامثلة التاريخية الكثيرة التي سردها مورجنتاو على ان احد اهم مصادر هيبة الدولة هو شخص رئيسا بالذات، سواء كان ملكا او رئيس جمهورية، او رئيس وزراء، فشخصية هذا الرجل الذي سيكون صاحب الكلمة العليا في بلده تقرر الى مدى بعيد حجم المكانة التي تحظى بها دولته.

العراق يملك الكثير من عناصر القوة المعنوية والمكانة والهيبة داخليا وخارجيا. فهو دولة شهدت مولد الحضارة الاولى في تاريخ البشرية، وهو بلد نفطي كبير، وشعبه معروف بالكثير من الصفات المحمودة. وقد احسست بذلك لاول مرة حين لجأتُ الى الكويت هربا من مطاردات البعثيين في عام 1976. فقد كان الناس هناك، ومن مختلف الجنسيات، يبادرونني بالقول “والنعم” حين يعرفون انني من العراق.

لكن لسوء حظ العراق والعراقيين، تعاقب على حكم العراق رؤوساء اساءوا الى سمعته وكانوا سببا في تدهور مكانته وهيبته المعنوية داخليا وخارجيا. ويكفي ان نتذكر ان العراق اصبح بلدا منتهك السيادة بعد مغامرة صدام باحتلال الكويت. وكان من المأمول ان يستعيد العراق شيئا من مهابته بعد سقوط نظام صدام، لكن للاسف تولى حكم العراق رجال اقل هيبةً من المطلوب، وتنقصهم الكثير من الخصائص التي يمكن ان تجعلهم سببا في هيبة العراق.

لكن الامر تفاقم كثيرا بعد تنصيب شخص كشف عن الكثير من نقاط الضعف في شخصيته في اول ظهور علني له مع وسائل الاعلام. فالرجل محدود في كل شيء، ويعاني من قصور في النطق والكلام، ونقص في الثقافة والمعرفة والتحصيل الدراسي، الى درجة فقد منصب رئيس الوزراء احترامه بين الناس.

المفارقة ان الرجل اخذ يتحدث عن استعادة هيبة الدولة، ونسي ان جزءاً من هيبة الدولة يكمن في هيبته الشخصية بحيث لا يمكن استعادة هيبة الدولة بوجوده في هذا المنصب. طبعا لا نلوم احدا على ضعف شخصيته، وعيوبه الخلقية، فليس له ذنب في ذلك.

لكننا نلوم من اتى به الى هذا المنصب وهو اخطر منصب في الدولة العراقية حسب الدستور، لكن للاسف انتهكت الاحزاب مكانته وقيمته المعنوية بتقديمه لقمة سائغة الى من لا يمكن ان يرقى الى مكانته وحولته الى كرة مثقوبة تتقاذفها الاقدام. لهذا اقول اذا اردنا ان نستعيد هيبة الدولة العراقية فعلينا ان نبدأ من اخطر حلقاتها وهو منصب رئيس مجلس الوزراء.

بعد ان تثبت نظافة اليد وحسن السلوك وسلامة الماضي السياسي، وغير ذلك من المتطلبات الدستورية، فان رئيس مجلس الوزراء يجب ان يكون قوي الشخصية، ذا مهابة ذاتية، وقدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة في الاطار الديمقراطي، مبدعا، ملهما، شجاعا، ذا رؤية متقدمة لادارة الدولة وتوظيف الموارد لبناء البلد، وصاحب علم ومعرفة وثقافة. وعلى الذين ستؤول اليهم مقاليد اختيار رئيس الوزراء ان يفتشوا عن الاسماء التي تملك هذه المواصفات والامكانيات، وان يشيحوا ببصرهم عن النفايات وسقط المتاع واللاهثين وراء الجاه الاجوف والثروة الحرام والمتملقين، وعلى الشعب ان يكون رقيبا وحسيبا وحاضرا في الميدان لقطع الطريق بالحق على كل من لا تتمثل فيه الصفات المطلوبة. بهذا تبدأ الخطوة الاولى لأستعادة هيبة الدولة.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق