q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

المخرجات الإيجابية للاندماج الاجتماعي

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

إن المقارنة بين إنسانين، أحدهما فرديّ النزعة والتفكير والسلوك، والآخر اجتماعي في صفاته كلها، تضعنا أمام تفضيل المنضم اجتماعيا على المنعزل، لأن من يعزل نفسه ويعيش في قارته الخاصة لا نفع فيه حتى لنفسه، والسؤال هنا ما هي الغاية من وجوده في الحياة إذا دخلها وخرج منها دونما أية مخرجات...

(الانضمام الاجتماعي نوع من التواضع يعني إنك تحب نفسك وتحب غيرك)

الإمام الشيرازي

يركّز علماء الاجتماع على طبيعة الإنسان التي تضم الكثير من النقائض، مثلا في الوقت الذي يميل إلى الفردية والأنانية التي تدخل ضمن التركيبة التكوينية للإنسان، فإن ميّال إلى الاستقرار والاجتماع مع الآخرين، وهذه الحالة من أشد التناقضات التي يحملها الإنسان، والتي تحتاج منه إلى مرتقبة ومتابعة وحذر، لكي لا ينجرف مع دوافعه الغريزية التي تدفع به نحو الفردية والأنانية، على حساب اندماجه مع الآخرين.

حين نقارن بين أفضلية الفردية والاجتماع، فإننا سوف نكتشف من خلال براهين اجتماعية مرئية وملموسة، تجزم بأن تفضيل الإنسان الجماعة على فرديته، سينتهي به إلى فوائد كثيرة وكبيرة، أما في حال تشبثه بفرديته، فإن الخسائر التي سيتعرض لها كثيرة، أولها أنه يبقى وحيدا، ويقع فريسة لأفكاره وأنانيته التي تأخذه في دروب التطرف والكراهية والانعزال عن الآخرين، والنأي عن الفعاليات الاجتماعية لاسيما الإيجابية منها.

لعل الميزة الأهم التي يكسبها الفرد من المخرجات الإيجابية للاندماج مع الجماعة، تكمن في شعوره بأنه ليس وحيدا في هذا العالم، وأنا هناك من يهتم به، ويقدّره، ويقف معه في الملمّات، أي أنه باختصار ينتصر على شعوره بالوحدة وهي تشكل ضغطا نفسيا هائلا على الإنسان قد يقوده إلى مرض (التوحّد) وربما يُصاب بالجنون!

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (الصياغة الجديدة):

(إذا فضّل الإنسان الانضمام إلى المجتمع على فرديته فإنه يتخلص من الوحدة التي يحس بها في باطنه، لأن الإنسان يحس في باطنه بالوحدة والانفراد في هذا الكون الرحب، فإذا انضم إلى غيره خفّت حدة هذا الإحساس).

ماذا ينتج عن حالة الاندماج؟

حين ينضم الفرد إلى الآخرين، فإنه سوف يشاركهم في كثير من الأعمال والصفات، وقد قيل في المثل المعروف (من عاشر الناس أربعين يوما صار مثلهم)، وهذا يعني أن نشاطات الإنسان سوف تتجانس مع الجماعة، بمعنى أنه لا يفقد نتائج أعماله في حال كانت خارج إطار ما يقبله ويرتضيه المجتمع، وبهذا تكون هناك نتائج جيدة بانتظاره، لاسيما أن الإطار الاجتماعي يسمح بذلك طالما أنه يقع في دائرة القانون المتّفق عليه اجتماعيا.

لهذا يؤكد الإمام الشيرازي على أن (من فوائد انضمام الفرد إلى المجتمع، أن أعماله تكون موجهة نحو وجهة خاصة، وضمن الإطار الاجتماعي الذي قبله الجميع قانونا).

من أبرز المخرجات الإيجابية لاندماج الفرد بالمجتمع، أنه سوف ينجح في تلبية حاجاته المختلفة، تلك الحاجات التي لا يمكن لفرديته أن تنجزها له مهما كانت مؤهلاته أو قدراته، فالعيش بمعزل عن الناس تجعل الإنسان وحيدا، يعاني من أمراض كثيرة، في المقدمة منها الكآبة، والشعور بالعزلة أو (النبذ)، ومضاعفة العقد النفسية كالنرجسية، والتضخم الذاتي، والشعور بالعظمة، والتكبّر الأجوف وغير ذلك.

الخلاص من الشعور بالوحدة

في حال الانضمام، سوف يجد الفرد حاجاته الإنسانية النفسية والمعيشية بين يديه، فهو محتاج إلى أن يتعلّم ويعلّم، كيف يمكنه ذلك إذا عزل نفسه عن الناس؟، وهو يحتاج إلى مداراة صحية، فهل يمكنه ذلك بمعزل عن معونة الأطباء وكوادر المشافي؟، ثم كيف يأكل ويشرب ويتنقّل من مكان إلى آخر؟، هذه وغيرها من الاحتياجات لا يمكن أن تتحقق بمعزل عن الآخرين، علما أن المجتمع أوسع وأكبر من الفرد وأكثر فائدة له من الوحدة.

لذلك يقول الإمام الشيرازي إن الإنسان الذي ينضم إلى الجماعة (المجتمع): (يحصل على التعاون المحتاج إليه في تعليمه وتعلّمه وصحته ومرضه، وزواجه ومسكنه ومأكله ومشربه ومركبه، وغير ذلك من حاجيات الإنسان الكثيرة والتي لا تعدّ ولا تحصى).

بلوغ الإشباع الوجداني

حتى القوة الباطنية للإنسان لا يمكن تحقيقها بمعزل عن المجتمع، هناك شعور نفسي يعتمل داخل الإنسان في حال كونه وحيدا، يتمثل بشعوره بالضعف والخواء والهزال التام، كونه لا يمتزج بالنسيج الاجتماعي الذي يعيش فيه، كأنه كائن تائه لا يعرف ماذا يريد وإلى أين يمضي أو يتوجّه، تضمحل أهدافه، ويصبح فردا لا قيمة له ما لم يندمج بالجماعة، ويشاركهم في كل كبيرة وصغيرة، حتى يحصل على الإشباع الوجداني.

هذا النوع من الإشباع لا يمكن بلوغه بطريقة ذاتية، بمعنى أن الإنسان الفرد عاجز عن الوصول إلى الامتلاء الوجداني بمفرده، لأن هذا النوع من المشاعر لا يتحقق إلا من خلال الانضمام للآخرين، والتوحّد معهم، والسير في إطارهم الاجتماعي وقيمهم وأعرافهم وقوانينهم التي تحمي فردية الإنسان في إطار جماعي، لدرجة أن الإنسان المنتمي يشعر كأنه والآخر الذي يندمج معه اجتماعيا شخص واحد في جسد واحد.

الإمام الشيرازي يقول إن من مزايا الانضمام للجماعة (تقوية الإنسان باطنا، من خلال مشاركته للآخرين مشاعرهم بشكل متبادَل، وهذا ما يسمى بـ (المشاركة الوجدانية)، فكأنه والآخر إنسانان في جسد واحد، أو كأن الاجتماع بكله إنسان واحد).

الاندماج الاجتماعي يقلّل الأخطاء

كذلك من المخرجات الإيجابية المهم للاندماج مع الجماعة، تقليل أخطاء الفرد، وحمايته من ارتكاب الأفعال والأقوال المسيئة، والتقليل منها قدر الإمكان، وهذا لا يتحقق عن طريق تمسك الإنسان بفرديته، وابتعاده عن المجتمع وأنظمته السلوكية والأخلاقية والعرفية، فالفرد المنعزل عن المجتمع، والمتمسك بفرديته وأنانيته لا تعنيه القيم ولا الأعراف، أما في حال انضمامه، فإنه سوف يلتزم بما يتفق عليه الجميع.

كما يقول الإمام الشيرازي: (الانضمام للمجتمع يقلل من مساوئ فردية الإنسان واستقلاله، فليس الفرد المنفلت كالذي ينضمّ إلى المجتمع).

عملية الاندماج ليست جبرية، ولا تتم بالإكراه، ولهذا على الإنسان أن يقيّم بنفسه من يربحه ويخسره، إذا انضم للجماعة أو ابتعد عنها، وهذا أمر ممكن، فمن يرفض الانضمام سوف يحصد نتائج ذلك وهي سلبية في مجملها وليست في صالحه، أما الفرد الذي يكون جزءا من المجتمع، ويتفاعل معه، ويأخذ منه ويعطيه، فسوف يلمس المخرجات الإيجابية حتما، وبذلك لابد أن يعرف الإنسان أين تكمن مصلحته، لأن الفردية لا تقدّم للآخرين سوى الأنانية والنرجسية، ولا يجني الإنسان من كلا الحالتين المذكورتين سوى النبذ.

من هنا فإن حالة الانضمام تعد من أبرز علامات التواضع عند الإنسان، والأخير يعدّ دلالة حاسمة على حبه للغير ولنفسه بمقدار واحد، في حين أن الذي ينعزل عن الناس، ويغرق في الأنانية، فإنه لا يحب سوى نفسه، ولذلك لا يخسر أحد سواه، وسوف لا يحصل على مخرجات إيجابية من وضع الجماعة أو المجتمع وراء ظهره، لأن من يدير ظهره للمجتمع تحت دافع الفردية والأنانية، عليه أن لا ينتظر سوى النبذ الاجتماعي المؤكَّد.

لذا يؤكد الإمام الشيرازي قائلا: (على الإنسان أن يقيّم الفوائد التي يكسبها، والأضرار التي يتعرض لها، في حال انضمامه للمجتمع، ولابد أن يعرف كم سيربح من الانضمام، وكم سيعطي من استقلاله مقابل ذلك؟).

وأخيرا فإن المقارنة بين إنسانين، أحدهما فرديّ النزعة والتفكير والسلوك، والآخر اجتماعي في صفاته كلها، تضعنا أمام تفضيل المنضم اجتماعيا على المنعزل، لأن من يعزل نفسه ويعيش في قارته الخاصة لا نفع فيه حتى لنفسه، والسؤال هنا ما هي الغاية من وجوده في الحياة إذا دخلها وخرج منها دونما أية مخرجات تُذكر، سوى الاستغراق في الذاتي، والبقاء في عزلة لا طائل من ورائها وكأنه لم يُخلَق قَطّ؟؟!

اضف تعليق