q
هناك فلسفةٌ للقيامِ في سبيل الله والنَّاس كما أَنَّ هُناك فلسفةٌ لبعثِ الأَنبياء والرُّسل في الأُمم على مرِّ تاريخ البشريَّة ويجب أَن تبلُغ هذه الفلسفة مداها مهما كانت الظُّروف والمَخاطر والتحدِّيات فَلَو أَنَّ كلَّ قومٍ قتلُوا نبيَّهم إِمتنع الله عن إِرسالِ غيرهِ لفقدت البِعثة فلسفتَها...

يعترضُ البعضُ مُتسائِلاً؛

أَلم يخُن أَهل الكوفة أَمير المُؤمنين (ع) وإِبنهِ الحسن السِّبط (ع)؟! فلماذا، إِذن، وثِقَ بهم الحُسين السِّبط (ع) وأَعادَ الكرَّةَ معهُم لينتهي بهِ الأَمر إِلى ما انتهى بأَبيهِ وأَخيهِ عليهما السَّلام؟!.

طبعاً؛ هذا الإِعتراض يشبه في جوهرهِ إِلى حدِّ بعيدٍ إِعتراض الملائكة على الله تعالى عندما أَخبرهم بانَّهُ جاعلٌ في الأَرْضِ خليفةً، في تفاصيل القصَّة القُرآنيَّة المعرُوفة؛

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.

فمن جانبٍ هناك فلسفةٌ للقيامِ في سبيل الله تعالى والنَّاس، كما أَنَّ هُناك فلسفةٌ لبعثِ الأَنبياء والرُّسل في الأُمم على مرِّ تاريخ البشريَّة.

ويجب أَن تبلُغ هذه الفلسفة مداها مهما كانت الظُّروف والمَخاطر والتحدِّيات.

فَلَو أَنَّ كلَّ قومٍ قتلُوا نبيَّهم إِمتنع الله تعالى عن إِرسالِ غيرهِ لفقدت البِعثة فلسفتَها ومغزاها! ولقالَ كلُّ جيلٍ واحتجَّ على الله تعالى بقولهِم (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ۖ).

أَلم يقتُل بنو إِسرائيل عشرات الأَنبياء بين الطُّلوعَين [الفجر والشَّمس]؟! فهل توقَّفت البِعثة النبويَّة؟! أَبداً!.

يَقُولُ الله تعالى؛

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ ۗ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ.

وكلَّما نهضَ المُصلحون لإِنجاز التَّغيير بأُممِهم بادرهم اليائِسون والمثبِّطون بالقول (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

فَلَو أَنَّ كلَّ مُصلحٍ وثائرٍ وصاحبِ مشروعٍ رساليٍّ حضاريٍّ تغييريٍّ نظرَ إِلى الصَّفحات السَّوداء في سجلِّ أُمَّتهِ لما تصدَّى أَحدٌ ولما نهضَ أَحدٌ ولما سجَّل التَّاريخُ أَيَّة صفحةٍ بيضاء! وبالتَّالي لأُلغيت معاني التَّضحية من أَجلِ الحقِّ والعدلِ!.

لقد حدَّد الإِمام أَميرُ المُؤمنينَ (ع) شروط النُّهوض والقيام بالأَمر فإِذا تحقَّقت على أَرض الواقع وجبَ الأَمرُ على صاحبهِ، كما قَالَ الحُسين السِّبط (ع) (وَأَنا أَحَقُّ مَنْ غَيَّر).

أَمَّا شرُوط النَّهضة فهي كالتَّالي (أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْلَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَلَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ).

وبهذهِ الشُّرُوط قامت الحُجَّة على الحُسين السِّبط (ع) فكانت كربلاء وكانت عاشوراء! فإِذا تغيَّرت في مُنتصف الطَّريق فليسَ الإِمامُ هو الذي يُلامُ وإِنَّما الذي يُلامُ هو الذي غيَّر وبدَّلَ وانقلبَ على عَقِبَيهِ.

ويستمِرُّ المُصلِحُون بمُحاولاتهِم مهما تكرَّرت وعظُمت التَّضحيات في كلِّ مرَّةٍ! فليسَ في تاريخِ أُمَّةٍ من الأُممِ نجاحات فقط أَو فشل فقط!.

عاشوراء مدرسةُ الحقيقةِ

إِذا أَردت أَن تدمِّر أَحداً [فرداً أَو جماعة] فامدحهُ بما ليسَ فِيهِ أَو تغاضى عن عيوبهِ فلا تحدِّثهُ بها وإِذا كان بوِسعكَ أَن تصوِّرها لَهُ بالمقلوبِ فلا تُقصِّر.

عاشوراء مدرسةُ الحقيقةِ فهي لم تُجامل أَحداً [أَفراداً وأُمَّة] ولَم تمدح أَحداً بما ليس فِيهِ ولَم تغضَّ النَّظرِ عن عيوبٍ ما!.

إِنَّها مدرسة الواقعيَّة بامتياز! لأَنَّها الحقُّ والحقُّ لا يغشُّ ولا يخدعُ! على العكسِ بالضَّبط من الباطل [مُعاوية نموذجاً] الذي يصفُ أَمير المُؤمنينَ (ع) علاقتهُ بأَهل الشَّامِ بقولهِ (أَلاَ وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ وَعَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ، حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ).

أَمَّا في عاشوراء فلم يكُن أَحدٌ فيها لا يعرِف لماذا هو في كربلاء؟! وإِلى أَين هو ذاهبٌ؟! فكلُّ شيئٍ كانَ واضحاً!.

ولقد شخَّصت عاشوراء، قبل ذلك، أَخطاء الأُمَّة بكلِّ دِقَّةٍ كما شخَّصت عيوب الأَفراد بِلا مُجاملة! ولذلك فهي أعزَّت [ذليلاً] وأَذلَّت [عزيزاً] فـ (قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ) كما يقول أَميرُ المُؤمنينَ (ع) لا بحسبهِ ونسبهِ أَو بدينهِ ومذهبهِ أَو بقوميَّتهِ وموطنهِ! أَو بزيِّهِ وشكلهِ! أَو حتَّى بعلمهِ! وصدقَ الشَّاعر الذي قال؛

لَو كانَ لِلعِلمِ دونَ التُقى شَرَفٌ

لَكانَ أشرَفُ خَلقِ اللهِ إبليسُ

ولذلك أَنزل الله تعالى [عالِمٌ] أَسفل سافلين بوصفٍ قرآنيٍّ نادر بقولهِ عزَّ وجلَّ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).

لقد كانَ الامامُ الشَّهيد واضحاً في كلِّ شَيْءٍ، في أَهدافهِ ومُنطلقاتهِ وفِي مسيرتهِ ومقاصدها وغاياتها القُصوى، لم يُخفِ شيئاً على أَحدٍ ولَم يُجامل أَحداً، لأَنَّ الوضوح والصَّراحة والشفافيَّة من أَهمِّ شروط المُصلح الذي يسعى للإِصلاح!.

ولذلك كان أَميرُ المُؤمنينَ (ع) يعِدُ أَصحابهُ، كبيرهُم وصغيرهُم، بأَن لا يُخفي عليهم شيئاً إِلّا فيما يخصُّ الحرب وخُططها لأَنَّ (الحربَ خُدعةً) كما يَقُولُ رَسُولُ الله (ص) لا ينتصرُ بها إِلَّا مَن ينجح في حمايةِ خُططهِ من التسرُّب إِلى العدوِّ.

يَقُولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) بشأن الشفافيَّة (أَلاَ وَإِنَّ لَكُمْ عِنْدِي أَلاَّ أَحْتَجِزَ دُونَكُمْ سِرّاً إِلاَّ فِي حَرْبٍ).

على المُصلحِ أَن يتحدَّثَ مع الأُمَّة بوضوحٍ فيشخِّص إِنحرافاتها العقديَّة وأَمراضها النفسيَّة ومشاكلها الأَخلاقيَّة والتحدِّيات المُجتمعيَّة التي تواجهها فلا يتستَّر على شيء منها لإِرضاءِ زَيدٍ أَو عُبيدٍ! فهو كالطَّبيب الذي يسرُّ لمريضهِ كلَّ التفاصيل التي تتعلَّق بحالتهِ الصحيَّة أَو المُحامي الذي يُناقش مع موكِّلهِ كلَّ التَّفاصيل المُمِلَّة المُتعلِّقة بالقضيَّة التي يُدافع عَنْهُ بها!.

في المُقابل ينبغي أَن يتقبَّل المُجتمع من المُصلح ذلك فلا يضجُر أَو يمِلَّ أَو يزعل أَو تأخذهُ العِزَّة بالإِثم! فإِنَّ علاجهُ بأَلم الصَّراحة الذي يجب أَن يتحمَّلهُ ساعةً ليهنأَ قرناً! وقديماً قيلَ [إِمشِ وراءَ الذي يُبكيك ولا تمشِ وراءَ الذي يُضحكُكَ] لأَنَّ الأَوَّل ينصحُك بصدقٍ أَمَّا الثَّاني فيخدعكَ بخُبثٍ!.

إِنَّ في قولِ رَسُولِ الله (ص) (المُؤمن مرآة أَخيهِ المُؤمن) إِشارةً رائعةً إِلى أَن واجب الأُخوَّة والصَّداقة هو أَن يعكس أَحدهما حقيقة الآخر بِلا رتوشٍ أَو مبالغةٍ، كالمِرآة التي لا تخدع من يقفَ أَمامها فهي صادقةٌ بامتيازٍ!.

على مجتمعِنا أَن يقلع عن ثقافة الطَبطبةِ على الظَّهر وتبويس اللِّحى وحُبَّ المديح الخدَّاع والثَّناء الزَّائد غَير المُبرَّر والمُجاملاتِ القاتِلة التي يضيعُ فيها الحقَّ! حتى لا نكونَ مصداق الآية المُباركة (وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا).

ولقد كانَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) يكرهُ الإِطراء ليُعلِّم الأُمَّة ذلك فكانَ يَقُولُ (وَقَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّي أُحِبُّ الاِطْرَاءَ، وَاسْتَماعَ الثَّنَاءِ، وَلَسْتُ ـ بِحَمْدِ اللهِ ـ كَذلِكَ، وَلَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذلِكَ لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطاً لله سُبْحَانَهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ).

المُجتمعُ الذي يُحبُّ الإِطراء حدَّ التملُّق والنِّفاق... فاشِل!.

[email protected]

اضف تعليق