q

(يرى (غادامير) ـ على العكس ـ أن الأهواء والنوازع ـ بالمعنى الحرفي ـ هي التي تؤسس موقفنا الوجودي الراهن الذي ننطلق منه لفهم الماضي والحاضر معاً).(1)

المناقشة

سنناقش هذه المسألة بالتفصيل، وسيظهر فيما سيظهر أن هذه ليست قاعدة، بل هي بنحو الموجبة الجزئية، وأن الأمر هو كذلك أحياناً في الذين (اتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ)(2) لكنه ليس كذلك في أحايين كثيرة، ومما يشهد له الكثير الكثير جداً من أولئك الذين ثاروا ضد الأهواء والنوازع، وسبحوا ضد التيار، وما أكثر الذين ضحوا بالراحة والمال والنعيم والصحة والجمال، لأجل قضية مبدئية، وما أكثر الذين سحقوا أهواءهم لإسعاد أمتهم أو شعبهم أو عشيرتهم أو عائلتهم، وما أكثر (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء)(3) والذين (َيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ).(4)

وبعبارة أدق وأشمل نقول: إن هنالك مجموعتين من العوامل المتعاكسة (وليس مجموعة واحدة هي الأهواء والنوازع) والتي قد يؤسس أحدها ـ هذا تارة وذاك أخرى ـ الموقف الوجودي الراهن، وقد يكون الموقف الوجودي حصيلة تفاعل تلك العوامل المتعاكسة كلها:(5)

المجموعة الأولى: العقل، الفطرة، الضمير والوجدان والنفس السليمة، من الداخل، ومن الخارج: الرسل والأنبياء، والمصلحون والمجاهدون والأخيار، والأجواء الصالحة.

المجموعة الثانية: الأهواء والشهوات، النفس الأمارة بالسوء، من الداخل، ومن الخارج: الشيطان وأصدقاء السوء والأجواء الفاسدة.

فليست الأهواء والنوازع(6) هي ذات القول الفصل بقول مطلق.

هذا إضافة إلى أن (الموقف) أمر و(الفهم) أمر آخر، وقد يتعاكسان، بل ما أكثر تغايرهما؛ إذ ما أكثر الذين يعرفون الحق ثم يرفضونه(7) (في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعقيدة والسلوك وغيرها) (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا)(8) (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ)(9). وما أكثر من لهم موقف وجودي من شيء ومع ذلك يفهمون الماضي والحاضر والأحداث والأفكار بما يناقض موقفهم.

والحاصل: إنه ليس الموقف الوجودي هو الذي ننطلق منه لفهم الماضي والحاضر، دائماً، كما ليس فهمنا للحاضر والماضي هو الذي ننطلق منه لتحديد موقفنا الوجودي، دائماً.

هذا إضافة إلى غموض التعبير بـ(الموقف الوجودي) فهل يراد به (الموقف العقلي)؟ أو (الموقف الفعلي)؟ أو (الموقف الذاتي) أي المتحد مع الذات؟

فإن كان الأولان(10) ورد عليها ما سبق، وإن كان الأخير ورد عليه إضافة إلى ما سبق: إنه لا يعقل إتحاد العرض مع الجوهر، وليس العلم متحداً مع الذات، كما ليس الموقف متحداً مع الذات.

(ويخلص غادامير من هذا كله إلى أنه لا يوجد أي منهج علمي أو غير علمي، يستطيع أن يضمن الوصول إلى حقيقة النص، أي إنه لا مجال لمعرفة النص الأدبي، كما هو)(11) وقد ناقشنا هذه المقولة بالتفصيل في ضمن فصل مستقل.

* من الفصل الرابع لـ كتاب (نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة)
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/arabic/author/10

.............................
(1) إشكاليات القراءة وآليات التأويل ص41، (نقلاً عن الهِرمينوطيقا في الواقع الإسلامي) ص53.
(2) سورة محمد صلى الله عليه وآله: 14.
(3) سورة آل عمران : 134 .
(4) سورة الحشر: 9.
(5) وقد لا يكون الموقف الوجودي معلولاً لأي منها.
(6) والظاهر أن النوازع هي ما ينزع إليه الإنسان أي ما يميل إليه أو يشتاق إليه، فهو قريب من (الأهواء) والرغبات، ويستبعد جداً أن يريد من النوازع معنى يشمل كل ما ذكرناه في المجموعتين أعلاه، على أنه لا تساعد عليه اللغة أبداً، إذ لا يطلق على (العقل) مثلاً إنه (نازعة) أو من النوازع، ولا على الضمير ولا على الرسل والأنبياء أو على الشياطين، ولا على النفس بقسميها.
(7) والرفض هو الموقف الوجودي لهم.
(8) سورة النحل: 83.
(9) سورة النمل: 14.
(10) أو الموقف الحقيقي أو الموقف الموجود أو الموقف الإيجابي أو أي تعبير مقارب.
(11) من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة: ص41 (نقلاً عن الهِرمينوطيقا في الواقع الإسلامي: ص54).

اضف تعليق