{قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى}.
لم يُعاقب أَميرُ المؤمنين (ع) أحداً على عقيدتهِ الفاسدة او على شتيمةٍ تعرّض لها او على رأي يخالفهُ، او بسبب مَقَالٍ انتقد سياستهُ نشرهُ حزبٌ معارض! فانّما يستعجلُ العقوبةَ الضّعيفُ، ويخشى الاعتراضَ المتردّدُ، ويخافُ النّقدَ فاقدُ الشَّرْعِيَّةِ، وهو غيرهُ، فعندما تعرّض له أَحد الخوارج وكفّر الامام، وهو الخليفة الشّرعي والرّسمي للأمة وصاحب السّلطة والقوة، رفضَ ان يتعرّضَ لهُ أصحابهُ بأذىً أَبداً، فقد رُوي أنه (ع) كان جالساً في أصحابهِ، فمرّت بهم إِمرأة جميلة، فرمَقها القومُ بأبصارهِم، فقال (ع) {إِنَّ أَبْصَار هذِهِ الْفُحُولِ طَوَامِحُ، وَإِنَّ ذلِكَ سَبَبُ هَبَابِهَا، فإِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى امْرَأَة تُعْجِبُهُ فَلْيُلاَمِسْ أَهْلَهُ، فَإِنَّمَا هِيَ امْرَأَهٌ كَامْرَأَة} فقال رجلٌ من الخوارج: قاتلهُ الله كافراً ما أفقههُ، فوثبَ القومُ لِيقتلوه، فقال (ع) {رُوَيْداً، إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ، أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْب!}.
فلازال هذا الخارجي لم يرتّب أثراً عمليّاً على تكفيرهِ للخليفة فلا ينبغي ان تتجاوز عقوبتهُ جرمهُ، فالسبُّ عقوبتهُ ردّهُ بسبٍ او ان يعفوَ الذي تعرّض لإهانتهِ.
حتى الّذين أقاموا على بدعة [صلاة التّراويح] في عهده رفضَ الامام ان يتعرّض لهم أحداً بسوءٍ، وانّما اكتفى بأن بعث لهم ولدهُ البكر الامام الحسن المجتبى السّبط (ع) ليذكّرهم بحرمةِ فعلهم، ليس اكثر من هذا!.
اقسمُ لو انَّ مواطناً موصليّاً تعرّض الان لخليفة الارهابيّين التكفيريّين الذين يغتصبون الموصل الحدباء منذ سنتين لو تعرّض لهُ بحرفٍ لأَمر (الخليفة) بذبحهِ امام عدسة الكاميرا ليكون عبرةً للعالم كله! ثم أمرَ بحرق جثّتهِ وتعليق المتبقي منها متدلّياً من فوقِ جسرِ المدينة، والويلُ كلّ الويل للمبتدعةِ في عُرفِ (الخليفة) الارهابي.
الشيء نَفْسَهُ سيفعلهُ ايّ حاكمٍ في بلاد المسلمين لو تعرّض لإهانةٍ ولو بحرفٍ من قِبَلِ مواطن، حتى اذا حدثَ ذلك خطأ او سهواً، فقانون الظّالم لا يحمي المغفّلين! وكلّنا يعلم جيداً انّ كل قوانين العقوبات في بلادِنا تحتوي على نصوصٍ مشدّدة بعقوباتٍ قاسيةٍ ضدّ من يسبّ السيد الرئيس مثلاً او حتى ذكر اسمهُ من دون عناوين التّبجيل والتّعظيم، فلقد كان الطّاغية الذليل صدّام حسين يُعاقب من يذكر اسمهُ من دون عبارة [حفظهُ الله ورعاهُ] التي ظلّت ابواق السّلطة تردّدها ليل نهار حتى ظنّت تلك العجوز انّها لقبهُ! وأتذكر جيداً قرار ملك البحرين الحالي عندما حوّل الدّولة من إمارةٍ الى مملكةٍ فارِضاً على الشّعب مناداتهِ بلقبِ (صاحبُ العَظَمَة) متوعِّداً مَن يتساهل في ذلك بأشدّ العقوبات، لولا انّهُ تراجع بعد برهةٍ من الزّمن عن اللّقبِ بسبب تندّر الشّعب الذّكي بهِ عندما عمَدوا الى تسكين حرف الظّاء ليصبح الملك (صاحب العَظْمَةِ) طبعاً من دون ان يكشف الملك عن محلّ هذه (العَظْمَةِ) فيه!.
واليوم تقرّر وزارة داخليّتهِ إسقاط مواطنيّة واحدٍ من اكثر المواطنين البحرينيّين أصالةً في الوطنيّة وعمقاً في الولاء لوطنهِ حتّى اكثر من كلّ (آل خليفة) الا وهو آيّة الله المجاهد الشّيخ عيسى قاسم والسبب لانّهُ لم يقدّم فروض الولاءِ لصاحب (العَظْمَةِ)!.
هذا هو الفرق بين المنهجَين، منهج الاسلام الذي جسّدهُ أَميرُ المؤمنين (ع) بحذافيرهِ ومنهج الخوارج الذين لبسوا الاسلامَ مقلوباً على حدِّ وصفِ أَميرِ المؤمنين (ع) {فَعِنْدَ ذلِكَ أَخَذَ الْبَاطِلُ مَآخِذَهُ، وَرَكِبَ الْجَهْلُ مَرَاكِبَهُ، وَعَظُمَتِ الطَّاغِيَةُ، وَقَلَّتِ الدَّاعِيَةُ، وَصَالَ الدَّهْرُ صِيَالَ السَّبُعِ الْعَقُورِ، وَهَدَرَ فَنِيقُ الْبَاطِلِ بَعْدَ كُظُوم، وَتَوَاخَى النَّاسُ عَلَى الْفُجْورِ، وَتَهَاجَرُوا عَلَى الدِّينِ، وَتَحَابُّوا عَلَى الْكَذِبِ، وَتَبَاغَضُوا عَلَى الصِّدْقِ.
فَإِذَا كَانَ ذلِكَ كَانَ الْوَلَدُ غَيْظاً، وَالْمَطَرُ قَيْظاً، وَتَفِيضُ اللِّئَامُ فَيْضاً، وَتَغِيضُ الْكِرَامُ غَيْضاً، وَكَانَ أَهْلُ ذلِكَ الزَّمَانِ ذِئَاباً، وَسَلاَطَينُهُ سِبَاعاً، وَأَوْسَاطُهُ أُكَّالاً، وَفُقَرَاؤُهُ أَمْوَاتاً،
وَغَارَ الصِّدْقُ، وَفَاض الْكَذِبُ، وَاسْتُعْمِلَتِ الْمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ، وَتَشَاجَرَ النَّاسُ بِالْقُلُوبِ، وَصَارَ الْفُسُوقُ نَسَباً، وَالْعَفَافُ عَجَباً، وَلُبِسَ الاِْسْلاَمُ لُبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوباً}.
لقد كانَ الامامُ (ع) يقبل من النّاس ظاهرهُم فكان يرفض ان يشُقَّ صدورهم ليتأكّد من نواياهم كما يفعل الطّغاة والتكفيريّين والمتزمّتين دينياً، او كما تفعل (العمائمُ الفاسدةِ) و(عمائمُ الفتنةِ) عبر الفضائيّات، وكأنّها المفتّش العام الالهي! فعندما بايعهُ الزُّبير مثلاً قبِل مِنْهُ الظاهر ولم يحاسبهُ على نواياه فقال (ع) عندما سَمِعَ انّهُ يبرّر خروجهُ على الامام مع (أُمِّهِم) برفقة طلحة كونهُ بايعَ بيدهِ ولم يُبايع بقلبهِ، ردَّ الامام حجتهُ السّخيفة بقوله (ع) {يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ بَايَعَ بِيَدِهِ، وَلَمْ يُبَايعْ بِقَلْبِهِ، فَقَدْ أَقَرَّ بِالبَيْعَةِ، وَادَّعَى الوَلِيجَةَ، فَلْيَأْتِ عَلَيْهَا بِأَمْر يُعْرَفُ، وَإِلاَّ فَلْيَدخُلْ فِيَما خَرَجَ مِنْهُ}.
حتّى عندما كان يقرأ الغدرَ في عيونهم لم يشأ الامام معاقبتهم قبلَ ارتكاب الجريمة، لانّ منهجهُ يرفض رفضاً باتّاً عقاب (المعارضة السّياسيّة) ما لم تتحوّل الى (معارضةٍ مسلَّحةٍ) تُشيع الرّعب والخوف والفساد في البلادِ.
فقد دَخَلَ الزّبير وطلحة على الامام (ع) فاستأذناهُ في العُمرة فقال (ع) ما العمرةُ تُريدان فحلفا لهُ باللهِ أنَّهما ما يريدان غير العُمرة! فقال لهما ما العمرةُ تريدان وإنّما تريدان الغَدْرة ونكث البيعة! فحلفا بالله ما الخلاف عليهِ ولا نكثَ بيعةٍ يُريدان وما رأيهما غير العُمرة! قال لهما؛ فأعيدا البيعة لي ثانيةً! فأعاداها بأشدّ ما يَكُونُ من الإيمانِ والمواثيق! فأذِنَ لهما فلمّا خرجا من عندهِ قال (ع) لمن كان حاضراً؛ والله لا ترونَهُما إلا في فتنةٍ يقتتلانِ فيها! قالوا يا أمير المؤمنين فمُر بردّهما عليك! قال (ع) ليقضيَ اللهُ أمراً كان مفعولاً.
ولما خرجا من المدينةِ إلى مكّة لم يلقيا أحداً إلا وقالا لهُ؛ ليس لعليٍّ في أعناقنا بيعةً وإنّما بايعناهُ مُكرهَين! فبلغ علياً (ع) قولهُما فقال؛ أبعدهُما الله وأغربَ دارهُما أما والله لقد علمتُ أنّهما سيقتُلان أنفسهُما أخبثَ مقتلٍ ويأتيانِ مَن وردا عليهِ بأَشأَم يومٍ، والله ما العُمرةِ يُريدان ولقد أَتياني بوجهَي فاجرَين ورجعا بوجهَي غادرَين ناكثَين، والله لا يلقيانني بعد اليومِ إلا في كتيبةٍ خشناءَ يقتلان فيها أنفسهُما فبُعداً لهُما وسُحقا.
مشكلةُ الخوارجِ (التكفيريّون) ومن شابههُم في المنهج وَإِنْ كان ذلك بطرقٍ مختلفةٍ أَخفُّ وطأً، انّهم يزكّون انفسهُم ولا يقبلون بإيمانِ الآخرين، ولقد تحدّث القرآن الكريم عن حالهِم بقولهِ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا* انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَىٰ بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا* أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا}.
اضف تعليق