لم تكن معركة بدر في العام الثاني للهجرة، معركة عادية، بل أحدثت تحولا كبيرا في موازين القوى في الجزيرة العربية، فتأثيراتها لم تقتصر على الجانب العسكري، بل شملت الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، للترابط الكبير وبسبب طبيعة النصر على مشركي قريش، وما كانوا يمثلوه من ثقل اجتماعي وسياسي واقتصادي، معتمدين على موقعهم الجغرافي بين الطرق التجارية، والأهمية الروحية للكعبة في قلوب مجتمعات المنطقة، على اختلاف دياناتهم، فكان الإطاحة بجيش مكة إعلانا بسطوع فجر جديد.
هي معركة الحق ضد الباطل، بين جهة مظلومة وجهة ظالمة، كان يجب القيام بها، لان ما وقع على المسلمين من ظلم كان فادحا، من تهجير من بيوتهم ومصادرة أموالهم، وملاحقتهم بالدسائس والمكر، ما بين كفار قريش وجيران المدينة المنورة، لذا كانت الحرب مهمة لإبعاد سيوف سادة قريش عن رقاب المسلمين.
القرار السياسي المحدد بأهمية المعركة، كان خافيا على أغلبية الجمهور، لأنها لا تعي مقدار المكاسب اللاحقة، التي ستتحقق من هذه المعركة، وما حصل لاحقا اظهر حكمة القيادة السياسية للمسلمين.
نحاول هنا فهم تأثيرات النصر في معركة بدر، إلى أي مدى وصل تأثيرها، وماذا تحقق من تغييرات في الجزيرة العربية، بعد معركة بدر.
أولا: تأثير الهزيمة على مشركي قريش
كان شيوخ قريش يرون أنفسهم أسياد العرب، مرتكزين على البعد الروحي للكعبة المشرفة، وعلى أهمية أدوارهم الاقتصادية في المنطقة، ومن حولهم مجرد بادية وقبائل، فهم حضارة متطورة، مدينة وجيش ونظام وعلاقات خارجية، وأحلاف وعهود مع المحيط، ويمكن اعتبار هزيمة أبرهة الحبشي، كانت كفيلة برفع أسهم سادة قريش في كل المنطقة،
لذا كانت الهزيمة في بدر شديدة التأثير على نفسية أهل مكة، فكبريائهم تم إذلاله، وشخصيتهم السياسية والعسكرية اهتزت في أعين مجتمعات الجزيرة، باعتبار هزيمتهم أمام جيش اقل منهم عدد وعدة، هزيمة نظام حكم قوي أمام دولة فتية "دولة الرسول الخاتم (ص)"، فكانت مشاعر الهزيمة والإحباط تسيطر عليهم، ودافع الانتقام يكبر في عقولهم، انتقاما لكبريائهم ومستقبلهم، فكانت بعدها معركة احد، وعندما وصل خبر الهزيمة لمكة أصاب مجتمعها الذهول والحيرة، بل أنهم نعتوا ناقلي الخبر بالجنون، باعتبار أن ما ينقلوه مستحيل الحصول، ونشير هنا إلى احد أهم نتائج معركة بدر على مكة، هو خسائرها التجارية، بعد أن أصبح طريق تجارتهم تحت التهديد، بالإضافة لخسارة أسواق عديدة، لانضمام عديد القبائل للدين الإسلامي.
لذلك كانت ترى الحرب من جديد مسالة حياة او موت، فمعركة بدر حدد مسارات القصة.
ثانيا: تأثيرات معركة بدر على اليهود
أحد المكونات المهمة في الجزيرة العربية في تلك الفترة، والتي كانت تسكن حول المدينة المنورة، بحسب روايات التبشير عند اليهود، والتي صرحت أن أخر الأنبياء سيكون مكانه في تلك الجغرافيا، وكان اليهود اقتصاديا من أكبر قوى الجزيرة، ولهم ارتباط اقتصادي وثيق بمشركي قريش، بالإضافة لسخط قادتها الدينيون على المسلمين، حيث أنهم أصيبوا بانتكاسة كبيرة عند ظهور النبي الخاتم، لأنه عربي وليس منهم، فناصبوه العداء، وسعوا إلى إفشال الدعوة الإسلامية، حسدا وبغضا، فكانت معركة بدر هزيمة كبيرة لليهود.
بعد معركة بدر أصبح يتحتم عليها الإسراع للإجهاز على الدين الإسلامي، حيث كانوا يتوقعون أن الحرب ستنهي المسلمين، بحسابات عسكرية منطقية، من حيث العدد والعدة، بعد معركة بدر كانت خسارتهم السياسية والاقتصادية كبيرة، لان الانتصار الإسلامي كان ضد حلفائهم المشركين، لذا كان الأهم عند اليهود هو مساعدة أي جهد يكون موجه ضد المسلمين، فرسمت معركة بدر طبيعة السياسية اليهودية، وهو أسلوب المكر والخداع والمؤامرات، حتى الوصول لهدفهم في إسقاط المسلمين.
ثالثا: تأثير معركة على مجتمعات الجزيرة العربية
يمكن الإشارة أولا إلى أن نصر المسلمين في معركة بدر، أحدث شرخا كبيرا بين القبائل العربية والتجمعات السكانية في الجزيرة العربية، حيث انقسم هؤلاء ما بين مؤيد لمشركي قريش أو للمسلمين، فبعض القبائل مرتبطة اقتصاديا مع قريش، مما اوجب عليها أن تتخذ موقف متشدد لحماية مصالحها الاقتصادية، فتحولت تماما لجانب مشركي قريش، أما قبائل أخرى فلها روابط مع قبائل المدينة المنورة، فكانت إلى جانب المسلمين، أي أن المحرك للكثير من الكيانات المجتمعية في الجزيرة العربية كان العامل الاقتصادي.
هناك قبائل دخلت في الدين الإسلامي مباشرة بعد الانتصار في بدر، لأنها أحست بالعدل الذي ينشده الرسول الخاتم، وكانت تعيش تحت الظلم لعقود، فكان الإسلام فرصة للتحقيق العدل الإنساني، وهنالك قبائل أخرى، كان العامل السياسي مهم عندها، فعندما تحقق النصر فهم قادتها بان تغيير سياسي كبير سيحدث، عندها أسرعت هذه القبائل بإرسال الوفود المهنئة للمسلمين، بعد النصر في معركة بدر، وهو بمثابة اعتراف بولادة قوة سياسية جديدة.
رابعا: تأثير معركة بدر على منافقي المدينة المنورة
كان هنالك خط خفي داخل المدينة، يعد العدة لما بعد معركة بدر، فكان ينسق بشكل سري مع اليهود ومع قيادات قريش، حيث كان الاعتقاد أن الهزيمة ستلحق بالمسلمين، فكان دور هؤلاء قبل المعركة في تثبيط العزيمة، وتهويل جيش العدو، ونشر الإشاعات، وبعضهم التحق بجيش المسلمين كي يكون عينا للآخرين من داخل الجيش، وهؤلاء فقط حضروا ولم يكن لهم أي دور في المعركة، وكان هدفهم أثبات هويتهم، بعد الشكوك الكبيرة التي تحوم حولهم، بالإضافة لأهمية تواجدهم باعتبار أن الهزيمة ستقع، وهنالك دور مرسوم لهم بعناية، لجني مكاسب انتصار قريش.
لكن المفاجئة كانت كبيرة لهم، وخارج الحسابات، فقط هم حققوا مكسب تحسين صورتهم أمام مجتمع المدينة المنورة، باعتبارهم جزء من الجيش المنتصر.
جزء من المنافقين المدينة، تخلف عن المشاركة بمعركة بدر بأعذار واهية، وكان ينتظر أن تصح بشارة اليهود لهم، بان جيش المسلمين سيهزم شر هزيمة، وعمل وهو داخل المدينة على نشر الإشاعات، والإشارة لبشارة اليهود، فكان الهدف بث الرعب في المدينة، لتكون متهيئة لحصول انقلاب سياسي، خصوصا أن رجال قريش واليهود داخل المدينة ينتظرون الظروف المناسبة للانقضاض على السلطة.
كانت تكبيرات النصر انتكاسة كبرى للمنافقين، فاستبد بهم الخوف والحقد، لأنهم انكشفوا أمام المسلمين، فالانقلاب تأجل إلى أشعار أخر.
أي أن معركة بدر كشفت جزء من المنافقين، وهم من تخلفوا ونشروا الإشاعات، أما الجزء الأخر فقد اندمج بالنصر الذي تحقق، لأنه شارك بالحرب، فكان هذا الجزء من المنافقين هو الأشد خطورة، وهو الذي سيسعى لتحقيق الانقلاب.
خامسا: مكاسب المسلمين
الانتصار في معركة بدر، رفع أسهم المسلمين في المنطقة، وجعل للمسلمين هيبة كبيرة، بسبب عقلية العرب التي تهاب المنتصرين، فبعد أن كانوا مجرد كيان صغير، يحاول أن يستمر بالحياة، وسط بحر من الدسائس والخبث الذي يمارسه الكبار (قريش واليهود)، فإذا به يسقط الصنم الأكبر (سادة قريش)، حيث تناقل العرب كيف استطاع جيش صغير بسيط العدة، من الانتصار على جيش قريش، وهم أضعافهم في العدة والعدد، وتنبهت الجزيرة إلى أهمية تحسين علاقتها مع المسلمين، المنتصرين الجدد، فكانت الوفود تتسابق نحو المدينة المنورة لفهم من هم المسلمين؟ وماذا يريدون؟ فكان الانتصار العسكري بوابة الانفتاح السياسي أمام الآخرين، وكان سببا أساسيا في ايمان العديد من القبائل، ودخولها في الدين الإسلامي.
المكسب الاقتصادي للمسلمين، لا يمكن إنكاره، حيث انفتحت أسواق جديدة لتجارة المدينة المنورة، عبر القبائل المنضمة للإسلام، أو التي أعلنت أنها لن تحارب المسلمين، فكان مكسب كبير.
الختام:
معركة بدر تظهر لنا كيف كان القرار النبوي ناجحا، ومدروس بعناية فائقة، من حيث التوقيت وشكل الحرب، وعبر بيان تأثيرات المعركة على الفئات المؤثرة في الجزيرة العربية، ومعركة بدر تعتبر درس كبير في السياسة، يجب أن تدرس، فتكون ملهمة لنا في واقعنا الحالي.
اضف تعليق