لنتعلَّمَ أَنَّ السُّؤَالَ مُهِمٌّ للغايةِ في عمليَّةِ القِراءةِ والتَّعليمِ والتَّربيةِ وهوَ بدايةِ المِشوارِ التَّعليمي وهو ليسَ عَيباً أَو حراماً أَو خارجَ حدُودِ الأَدبِ مهما كانَ مُحرِجاً أَو ربَّما يُثيرُ حفيظةَ الآخر ورُبَّما أَعصابهُ، فالذي يخافُ مِن طرحِ السُّؤَالِ يخافُ مِن التعلُّمِ بشَكلٍ طبيعيٍّ وحقيقيٍّ...
{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
تصويرٌ رائِعٌ لمفهُومِ الوقتِ الذي تعبِّر عنهُ الحِكمَة التي تقُول [الوقتُ كالسَّيفِ إِن لم تقطَعهُ قطَعكَ] فهوَ لحظةٌ واحِدةٌ إِمَّا أَن تصرَعها أَو أَن تصرعكَ، فكُلُّ قرارات النَّجاح التَّاريخيَّة تستغرِقُ لحظةً، كما أَنَّ كُلَّ قراراتِ الفشَلِ التَّاريخيَّةِ تمرُّ كلمحِ البصرِ أَو حتَّى {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ}.
بعضُنا يتصوَّر أَنَّ الوقتَ مفتوحٌ أَمامهُ فإِذا أَجَّلَ أَو سوَّفَ أَو تكاسلَ وتباطأ فليسَ في الأَمرِ مُشكلةٌ فالوقتُ مفتُوحٌ أَمامهُ يُمكنهُ التَّعويضُ متى ما عدَّلَ مِزاجهُ فنجانُ قهوةٍ مثلاً! أَبداً، فالَّذينَ تصوَّرُوا ذلكَ قبلَنا نبَّههُم الله تعالى بأَنَّ الأَمرَ ليسَ كذلكَ وإِنَّما هوَ محسُوبٌ بدقَّةٍ وهوَ في النِّهايةِ {يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ} ولذلكَ يلزَم أَن توظِّفَ كُلَّ نَفَسٍ فيهِ وكُلَّ نبضٍ لإِنجازِ شيءٍ مُفيدٍ ما.
وصدقَ شاعرُنا أَحمد شَوقي الذي قال؛
دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ---إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني
فَاِرفَع لِنَفسِكَ بَعدَ مَوتِكَ ذِكرَها---فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمرٌ ثاني
هذا واحدٌ منهُم يحدِّثنا القُرآن الكريم عن قصَّتهِ بقَولهِ {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ۖ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وقُصَّة أَصحاب الكَهفِ معرُوفةٌ إِذ يقُولُ تعالى عنهُم {وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ۚ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ۖ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۚ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} وهُم في الحقيقةِ {لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا}.
الزَّمنُ، إِذن، لا يُحسَبُ بعددِ الأَيَّامِ والسِّنينَ لأَنَّ العدَّ يختلفُ كليّاً عن الشُّعور والواقعِ، وهذا ما يلزَم أَن نفهمهُ ونستوعِبهُ، خاصَّةً النَّشء الجديد ليتعلَّمَ أَن يتعامَلَ مع الوقت بشَكلٍ إِيجابيٍّ وفعَّال يوظِّف كلَّ لحظةٍ فيهِ لفعلِ شيءٍ حسَنٍ يُفيدهُ، فلا يظلَّ ينتظر في كُلِّ مرَّةٍ لتمُرَّ هذهِ المرحَلة أَو تلكَ أَو هذا الوَقت أَو ذاكَ لينتبِهَ فُجأَةً بأَنَّ الوقتَ مرَّ عليهِ مِن دونِ فائِدةٍ ومِن دُونِ زيادةٍ، وللأَسف فإِنَّ هذا هوَ حال الكثيرِين مِن شبابِنا اليَوم، تراهُ ينتظِر، فماذا ينتظِرُ؟! لا تدري وهوَ لا يدرِي، وكأَنَّهُ سيُمنَحُ فُرصَتَينِ في الحياةِ واحدةٌ يتعلَّمُ فيها وأُخرى يعيشُها ويُنتِجُ فيها!.
يقُولُ الإِمامُ موسى بن جعفرٍ الكاظِم (ع) {ومَن لَم يعرِف الزِّيادةَ في نفسهِ فهُو في نُقصانٍ، ومَن كانَ إِلى النُّقصانِ فالمَوتُ خَيرٌ لهُ مِن الحياةِ}.
وإِنَّ أَهمَّ شيءٍ بالنِّسبةِ للنَّشءِ الجديدِ والذي يجِب أَن يشعُرَ فيهِ بالزِّيادةِ هوَ العلمُ والمعرفةُ بالقراءةِ ليقضُوا بها وقتهُم بدَلاً مِن تضييعهِ بالتُّرَّهاتِ.
حتَّى الأَطفال يجب تعليمهُم ذلكَ لأَنَّهُم في مرحلةِ الإِستيعابِ.
ثُمَّ لنُعلِّمهُم شيئاً فشيئاً أَن يسأَلوا وهُم يقرأُون ليتعلَّمُوا فيما بعدُ أَن يُفكِّرُوا ويتأَمَّلُوا معَ مرورِ الوقتِ.
لقد سردَ لنا القُرآن الكريم عدداً مِن قَصصِ [الأَسئلةِ] التي طرحَها الأَنبياء والرُّسل على ربِّ العالمِين لنتعلَّمَ أَنَّ السُّؤَالَ مُهِمٌّ للغايةِ في عمليَّةِ القِراءةِ والتَّعليمِ والتَّربيةِ وهوَ بدايةِ المِشوارِ التَّعليمي وهو ليسَ عَيباً أَو حراماً أَو خارجَ حدُودِ الأَدبِ مهما كانَ مُحرِجاً أَو ربَّما يُثيرُ حفيظةَ الآخر ورُبَّما أَعصابهُ، فالذي يخافُ مِن طرحِ السُّؤَالِ يخافُ مِن التعلُّمِ بشَكلٍ طبيعيٍّ وحقيقيٍّ. أَو أَن يضطر للإِيماءِ بالمعرفةِ خجلاً ومُجاملةً، وليسَ بهذا تعلُّمٌ حقيقيٌّ! كما أَنَّ الذي يخافُ من الإِجابةِ على السُّؤَالِ هو الشَّاكُّ في علمهِ ومعرفَتهِ أَو في إِسلوبهِ بالجَوابِ.
يقولُ تعالى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
وإِنَّ مِن أَجملِ أَساليبِ طرحِ السُّؤَالِ هو ما سردتهُ لنا الآية الكرِيمة عندما سأَلُ الله تعالى عبدهُ ورسُولهُ عيسى بنُ مريَم (ع).
يقولُ تعالى {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}.
إِنَّ الكثيرَ مِن المُنعطفاتِ والأَحداثِ التَّاريخيَّة التي تمرُّ بالإِنسانِ الفَرد والإِنسان المُجتمع تبدأ بسؤَالٍ ولا تنتهي بجوابٍ، ولذلكَ يجب أَن نُمارسَ كُلَّ أَنواع التَّحريض والتَّشيع للنَّشء الجدِيد ليَسأل، فبسُؤالهِ يكتشِف نفسهُ ونكتشِفهُ، أَو أَن يبقى صندُوقٌ مُغلَقٌ [خطيرٌ].
إِنَّ الخَوف من طرحِ الأَسئلةِ يقودُ النَّشء الجديد إِلى أَحدِ أَمرَينِ؛ فإِمَّا أَنَّهُ يُصابُ بالإِنحرافاتِ الفكريَّةِ والعقديَّةِ والثقافيَّةِ عندما لا يجِدُ أَجوبةً على ما يدورُ في خلدهِ من أَسئلةٍ، أَو أَنَّهُ سيلجأ لسُؤالِ مَن لا يجبُ يلجأَ إِليهِ بحثاً عن أَجوِبةِ تساؤُلاتهِ.
ولذلكَ فإِنَّ من الأَفضلِ والأَسلمِ أَن يُعيرَ الوالدَينِ إِهتماماً مُنقطِعَ النَّظيرِ ويُبدِيا كامِلَ استعدادهِم لتقبُّلِ أَسئلةِ أَبنائهِم مهما كانَت غريبةً أَو قاسِيةً أَو مُحرِجةً، ليُشعِرُوهُم بالأَمنِ في طرحِ الأَسئلةِ وعدمِ الخَوفِ والرَّهبةِ من ذلكَ، فيحسَّ الأَبناء بأَنَّ الأُسرةَ هي الحاضِنة الآمنة لكُلِّ تساؤُلاتهِم.
إِنَّ تعلُّم الطِّفل طَرح الأَسئِلة هيَ بِداية تعلُّمهُ كيفَ يقرأ وماذا ولِماذا؟! فإِذا فشلَ في السُّؤَال لأَيِّ سببٍ كانَ فسيفشَل في التعلُّم بكُلِّ تأكيدٍ.
نعم، فمعَ حثِّهِ وتشجيعهِ على السُّؤَال ينبغي كذلكَ أَن نعلِّمهُ كيفَ يسأَل بأَدبٍ ومتى ولِمن يسأَل؟!.
لقد كانَ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) يحثُّ على السُّؤَال ولم يتردَّد مرَّةً أَبداً في الجوابِ أَو صادفَ أَن قمعَ سائِلٌ أَو نهرَ أَحدٌ لسُؤَالهِ، لأَنَّ ردعَ السَّائلِ يُرهِبُ الآخرينَ عن السُّؤَال، وعندها ستُخيِّم حالة الإِرهاب الفكري في المُجتمعِ وفي الأُسرةِ وبالتَّالي تظلُّ تعتمِرُ الأَسئلة في قلوبِهم ما يُنتِجُ عندهُم، عادةً، البغضاءَ والضَّغينةَ ورُبَّما الإِنتفاض والإِنقضاض والتمرُّد.
يقولُ (ع) {أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللَّه والثَّنَاءِ عَلَيْه أَيُّهَا النَّاسُ؛ فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ ولَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا واشْتَدَّ كَلَبُهَا، فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِه لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ فِيمَا بَيْنَكُمْ وبَيْنَ السَّاعَةِ ولَا عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وتُضِلُّ مِائَةً إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وقَائِدِهَا وسَائِقِهَا ومُنَاخِ رِكَابِهَا ومَحَطِّ رِحَالِهَا ومَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلًا ومَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً، ولَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي ونَزَلَتْ بِكُمْ كَرَائِهُ الأُمُورِ وحَوَازِبُ الْخُطُوبِ لأَطْرَقَ كَثِيرٌ مِنَ السَّائِلِينَ وفَشِلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسْئُولِينَ وذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ وشَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ وضَاقَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاً تَسْتَطِيلُونَ مَعَه أَيَّامَ الْبَلَاءِ عَلَيْكُمْ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّه لِبَقِيَّةِ الأَبْرَارِ مِنْكُمْ}.
اضف تعليق