ما أن يحل شهر رمضان في العراق حتى يتحول من موسم ديني وأخلاقي إلى موسم سياسي وإعلامي بامتياز. تشتكي بعض النخب الاسلامية في المنطقة العربية من ظاهرة تحويل هذا الموسم الديني، إلى شهر من الاستعراضات الدرامية والفنية التي تستقطب الجماهير بداعي الترويح النفسي واللهو البريء...
ما أن يحل شهر رمضان في العراق حتى يتحول من موسم ديني وأخلاقي إلى موسم سياسي وإعلامي بامتياز. تشتكي بعض النخب الاسلامية في المنطقة العربية من ظاهرة تحويل هذا الموسم الديني، إلى شهر من الاستعراضات الدرامية والفنية التي تستقطب الجماهير بداعي الترويح النفسي واللهو البريء، صار رمضان فرصة استثمارية لتجار الفن والاطعمة وكتاب السيناريوهات وشركات الانتاج ومسوقي النجوم وصناع المحتوى على حساب الموروث الاجتماعي والديني الذي يرى في الشهر موسما لترميم الاخفاقات الاخلاقية واعادة بناء النفوس وفقا لما تدعوه اياها قيمها الروحية.
ثمة رسالة لشهر رمضان تعرفها الروزنامة الاجتماعية والدينية، ويفترض أن المثاقفة الاجتماعية والدينية تشتغل عليها كونها انطولوجيا تحتاجها الأجيال الجديدة، وتسعى إلى فهمها وتوظيفها قيميا في عصر تشتد فيه الضغوط النفسية والسياسية والاقتصادية، ويغدو الفرد والمجتمع في دوامة البحث عن لحظة صفاء ومراجعة وشحن روحي وأخلاقي لمواجهة اعباء متزايدة.
المتغيرات الاجتماعية حولت رمضان إلى موسم استهلاكي كبير تستعد له الحكومات مبكرا للجم ظاهرة التضخم وارتفاع الأسعار، التي عادة ما تكون مؤشرا على قدرة السلطات وقوة ادائها وهو ما ينعكس على مشروعيتها ومقبوليتها الاجتماعية. نحن في العراق نواجه ظاهرة رمضانية جديدة تجاوزت الاقتصاد والفن وجدالات السرديات التاريخية المصاحبة للوعظ الديني، أعني بها ظاهرة (البازار السياسي والاعلامي)، الذي صار سمة رمضانية يترقبها السياسي والاعلامي بحثا عن مساحات تسويق ومشاهدة وحضور ومنافسة.
ما الدوافع النفسية والسياسية وراء ذلك؟ لماذا يتسابق سياسيون كبار وصغار على الاستجابة لبرامج الـ Show ويستثمرونها لتمرير مشاريع ورسائل سياسية اكثرها يندرج في (خانة) التسخين الانتخابي والاستعراضات الحزبية والتسويق المبكر، رغم ما تسببه من جدل سياسي وحساسيات أمنية وهواجس اجتماعية؟
اكثر من ذلك بتنا نشهد نزعة فضائحية تخدش الحياء العام، وتسوق لرثاثة وانحطاط قيمي واخلاقي في شهر رمضان لم يسبق لها مثيل، بل تستقبل دونما رفض اجتماعي؟
لا شك أن متغيرات اجتماعية كبيرة تضرب المجتمعات في عصر العولمة، سقطت فيها دفاعات كثيرة وصارت التواصلية الاجتماعية تفرض قيما وسلوكيات جديدة، بيد أن هذا التواصل لا يعاد انتاجه محليا وفق محددات اخلاقية وقانونية وانضباط ذاتي، انما صار السياسي والاعلامي ينساق مع موجة (التسويق) هذه، باعتباره صاحب بضاعة يستثمر فرصة بيعها في لحظة يتسابق المشترون عليها، وهي لحظة الاكتضاظ والاحتشاد في البازار، وكون البضاعة المعروضة لاتثير الاهتمام والفضول الا بتميزها وفرادتها، فلا اجدى من المغامرة بعرض مفاتن البضاعة واستعراض خصائصها بما يستهوي المشتري والمستهلك، والبضاعة المعروضة ستكون مواقف سياسية مثيرة، هاجسها السيطرة على عقل وفكر المشاهد، لتغدو مفردة من مفردات الجدل السياسي اليومي والحسابات الحزبية، التي يبرع العراقيون في جعلها مادة استهلاكية رئيسة لا يملون منها.
يقترن هذا الاستعراض السياسي باستعراض سوقي واقبال على ترويج الفضائح الاجتماعية، بكونها من نواتج الحياة السياسية الزبائنية ولوازمها بعدما اصبحت الطبقة السياسية الجديدة تستعين بشبكات من الاعلاميين وصناع المحتوى والنساء والمتبرعين ماليا من رجال الاعمال والاثرياء الجدد في تخادم مثير للاسئلة والاستفهامات.
فما الذي يجمع هؤلاء في لهاث مستمر من اجل نيل حصة في هذا البازار الكبير؟ نعود إلى الاصول الثلاثة التي يلهث خلفها الكثيرون، السلطة، الثروة، الجاه، فهذه الثلاثية التي تمسك بلباب الكثيرين، ما لبثت تتسبب بصداع اجتماعي وسياسي لا يهدأ، وتتمظهر بأكثر من صورة من صور التنافس، الذي تمدد إلى ساحات الاقتصاد والمال والفن والاعلام والفضاء الالكتروني، ونقل الفساد والرثاثة إلى مجريات الحياة اليومية، ولم تعد تخدش حياء أو تثير حفيظة أخلاقية، لقد صارت امرا عاديا.
كيف يستقيم هذا الحال في مجتمع تكثر فيه الخطابات الدينية وتعلو فيه القيم العشائرية، وتتشكل رؤاه السياسية بمزيج من قيم البداوة والحضارة والعصبية والدين في خلطة يسمونها خصوصية عراقية؟. إن ما يجري بالفعل يشير إلى تبدلات عميقة في السيكولوجيا الاجتماعية، ونحن أمام واقع جديد تنتجه قوى (البازار) السياسي والاعلامي والفني، وتستجيب له الغالبية الاجتماعية بدرجات متفاوتة متقبلة قيمه الجديدة، قيم الاستحواذ على الفضاء الوطني بمجالاته السياسية والاقتصادية والثقافية، ومع اتساع اليات السيطرة يفقد المجتمع ممانعاته ويصبح عرضة لمشاريع وطموحات القوى والزعامات المتنفذة، ويخسر اصالة قيمه الروحية والاخلاقية لصالح اعراف ومواضعات تمليها مجريات الحياة المترعة بفساد كثير واقبال كبير على التفكير السلبي واهتمام بالفضائح السياسية والمفاسد الاخلاقية والاجتماعية، بما يضيع فرص ومواسم للتهذيب الروحي كفرصة رمضان.
اضف تعليق