لأَنَّ الحِوار الذي تحكمهُ أَجواء الرُّعب والإِرهاب الفكري والتَّهديدِ والوعيدِ لا يصلُ إِلى نتيجةٍ إِيجابيَّةٍ أَبداً، فهوَ حِوارُ الغابِ، إِن صحَّ التَّعبيرُ، لا ترُوم الأَطرافُ المُشاركةُ فيهِ الحقيقةَ والمعرِفةَ وإِنَّما هيَ فُرصةٌ بالنِّسبةِ لهُم لعرضِ العضلاتِ أَو الإِنتقامِ ولهذا ترى أَنَّ حِواراتنا لا تُنتِجُ خُططاً...
{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}.
لماذا تتحوَّلُ الحِواراتِ عندنا إِلى محارقَ؟! لماذا لا نتحمَّل الرَّأي والرَّأي الآخر؟! لماذا يتحوَّلُ الإِختلافُ إِلى حروبٍ ومعارِك ومشاكِلَ؟! لماذا يصرُّ كُلَّ طرفٍ على احتكارِ الحقيقةِ مُتَّهماً الآخر بالإِنحرافِ صَوبَ الباطلِ؟! لماذا لا نتحمَّل بعضنا عندما نتحاوَر؟! لماذا نلجأُ إِلى التَّكفيرِ والتَّسقيطِ واغتيالِ الشَّخصيَّةِ كُلَّما اختلَفنا؟! لماذا تحمي السُّلطة حريَّة التَّعبير إِذا كانت تُبوِّق للحاكمِ وتهدِّدها إِذا انتقدَت أَو فضحَت الخلَل والخطأ والفشَل والفساد؟!.
وأَخيراً؛ إِلى متى تستمرُّ هذهِ الحالةِ؟!.
أَرأَيت بعضهُم كيف يستنفِرَ كُلَّ قُواهُ السَّبُعِيَّة ويلبس قفَّازاتِ المعركةِ ويُكشِّرُ عن أَنيابهِ عندَ الحوارِ وكأَنَّهُ يهمُّ بدخُولِ حلبةِ ملاكمةٍ يفوزُ بها من يُوجِّه لكَماتٍ أَكثر ويُدمي خصمهُ! أَو تراهُ يرتدي كفَناً [يا قاتِل يا مقتُول] وكأَنَّهُ يُساقُ إِلى الموتِ كما يصفُ ذلكَ القرآن الكريم بقولهِ {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} فماذا سيكونُ حالهُ إِذا أَحسَّ بهزيمتهِ في الحوارِ بسببِ ضَعفِ أَدِلَّتهِ وخَواءِ حُجَجِهِ وقُوَّةِ منطقِ الآخرِ؟!.
كُلُّ هذهِ الظَّواهرِ وأَمثالها دليلٌ على أَنَّ مثلَ هذا الحِوار لا يتمُّ في أَجواءٍ صحيَّةٍ وآمنةٍ ولذلكَ فهوَ محكومٌ عليهِ بالفشلِ سلفاً، لأَنَّ الحِوار الذي تحكمهُ أَجواء الرُّعب والإِرهاب الفكري والتَّهديدِ والوعيدِ لا يصلُ إِلى نتيجةٍ إِيجابيَّةٍ أَبداً، فهوَ حِوارُ الغابِ، إِن صحَّ التَّعبيرُ، لا ترُوم الأَطرافُ المُشاركةُ فيهِ الحقيقةَ والمعرِفةَ وإِنَّما هيَ فُرصةٌ بالنِّسبةِ لهُم لعرضِ العضلاتِ أَو الإِنتقامِ ونشرِ الغسيلِ القذِرِ والفضائحِ وكسرِ العَظمِ! ولهذا ترى أَنَّ حِواراتنا لا تُنتِجُ خُططاً ومشاريعَ وتفاهُماتٍ وإِنَّما تُنتِجُ المزيدَ من التخلُّفِ والتمزُّقِ والتشتُّتِ.
يقولُ تعالى مُتحدِّثاً عن وجُوبِ خلقِ حالةِ [الأَمنِ] وعدمِ القلَقِ في ساحاتِ الحِوارِ والجِدالِ {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ}.
لِماذا؟!.
لأَنَّ المُشرِّع لا يُريدُ لأَحدٍ أَن يُؤمِنَ بالله وهوَ خائِفٌ أَو مرعوبٌ أَو تحتَ التَّهديدِ! فذلكَ يُساهِمُ في انتشارِ ظاهِرةِ النِّفاقِ في المُجتمعِ، وإِنَّما يُريدُ لمَن يسمعَ الرَّأي الآخر أَن يأخذَ وقتهُ في التَّفكيرِ والتَّأَمُّلِ فيما سمِعَ وفي جوٍّ آمنٍ بعيداً عن كُلِّ أَنواعِ الإِكراهِ والإِرهابِ، قبلَ أَن يُقرِّرَ قَبول أَو رفض الفِكرة، وبذلكَ يكونُ إِيمانهُ عن قناعةٍ وهو إِيمانُ العقلِ والمنطقِ.
إِنَّ مثلَ هذهِ الأَجواء الآمِنة السَّليمة هي التي تخلُقُ رِجالاً يتحمَّلُونَ المسؤُوليَّة بِلا أَمراضٍ كما يصفُها أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) بقَولهِ {لَا يُقِيمُ أَمْرَ اللَّه سُبْحَانَه إِلَّا مَنْ لَا يُصَانِعُ ولَا يُضَارِعُ ولَا يَتَّبِعُ الْمَطَامِعَ}.
والعكسُ هوَ الصَّحيحُ فالإِرهابُ الفكري يصنعُ [رِجالاً] يطمعُونَ بشيءٍ واحدٍ فقط هوَ [السَّلامة] ليأمنُوا على حياتهِم وذلكَ يكونُ، عادةً، على حسابِ سلامةِ عقولهِم كما يقولُ (ع) {أَكْثَرُ مَصَارِعِ الْعُقُولِ تَحْتَ بُرُوقِ الْمَطَامِعِ}.
أُنظُرُوا ماذا يقُولُ القرآن الكريم بهذا الصَّدد {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}.
هذهِ الآية تتحدَّثُ عن حريَّةِ الإِختيارِ، والتي لا تتحقَّق إِلَّا بثلاثةِ شرُوطٍ؛
أ/ إِذا استمعتَ إِلى أَكثرِ مِن قَولٍ، لأَنَّ القَول الواحد لا يمنحكَ فُرصةَ الإِختيار أَبداً.
ب/ اذا كُنتَ تتمتَّع بحريَّة الإِختيار بعيداً عن كُلِّ أَنواع الإِرهابِ الفكري، وإِلَّا لما استطعتَ أَن تختارَ [أَحسنهُ] كما في الآيةِ الكَريمةِ.
ج/ إِذا كُنتَ في مأمنٍ مِن أَن تطالكَ يدُ البطشِ عندما تُعلِنُ عن خياراتِكَ مهما كانَت ومهما اختلفْتَ بها مع الآخرينَ، فلَو كُنتَ محكُوماً في جوٍّ خانقٍ من الحريَّةِ فمِنَ المُستحيلِ أَن تُبادِرَ للإِعلانِ عن خَياراتِكَ لأَنَّ نتيجةَ ذلكَ ستكونُ القتلَ والتَّصفيةَ الجسدَّيةَ!.
لذلكَ ستكُونُ ممَّن {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} عندما تعيشُ في مُجتمعٍ فرعُونيٍّ تحكُمهُ قاعدةُ الحِوارِ بينَ الملأِ [المُستشارُونَ] وفرعَونِ [السُّلطةِ] بالشَّكلِ التَّالي كما يورِدُها القرآن الكريم؛
{وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}.
فالمُستشارُونَ مِن مصلحتهِم تصفيتكَ ليحتفِظُوا بالمسافةِ القريبةِ من الحاكمِ! والأَخيرُ من مصلحتهِ قتلكَ والفتكَ بكَ ليحمي سُلطتهُ، وكُلُّ هذا يحتاجُ إِلى أَن يقلِبَ [المُستشارُونَ] الحقائق، فالحاكمُ الفاسدُ نزيهٌ تشهدُ له الأَكوان! وأَنت الذي لا عِلاقةَ لكَ بالسُّلطةِ وامتيازاتِها فاسدٌ يشهدُ عليكَ كُلَّ الذُّباب الإِلكتروني!.
وصدقَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) الذي وصفَ ذاتَ مرَّةٍ إِرهاصاتَ هذا الزَّمنِ الأَغبرِ بقَولهِ {وتَوَاخَى النَّاسُ عَلَى الْفُجُورِ وتَهَاجَرُوا عَلَى الدِّينِ وتَحَابُّوا عَلَى الْكَذِبِ وتَبَاغَضُوا عَلَى الصِّدْقِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ الْوَلَدُ غَيْظاً والْمَطَرُ قَيْظاً وتَفِيضُ اللِّئَامُ فَيْضاً وتَغِيضُ الْكِرَامُ غَيْضاً وكَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ ذِئَاباً وسَلَاطِينُه سِبَاعاً وأَوْسَاطُه أُكَّالًا وفُقَرَاؤُه أَمْوَاتاً، وغَارَ الصِّدْقُ وفَاضَ الْكَذِبُ واسْتُعْمِلَتِ الْمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ وتَشَاجَرَ النَّاسُ بِالْقُلُوبِ وصَارَ الْفُسُوقُ نَسَباً والْعَفَافُ عَجَباً ولُبِسَ الإِسْلَامُ لُبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوباً}.
اضف تعليق