هداية لإصلاح النفس والغير، هداية معنوية ومادية، حيث تضمّن دستوراً لكل طريق صائب، ولكل زاوية من زوايا الحياة. اذاً نفحات هذا الشهر ستعم الجميع، فشهر رمضان هو للناس كافة كما أن الدين الإسلامي للناس كافة، اذاً لابدّ من استثمار هذا الموسم الروحي العظيم بأحسن وجه. لابدّ أن نستفيد...
كتب المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي كتابا تحت عنوان (شهر رمضان شهر التقدم والبناء) وهذا العنوان قد يُثير فينا الفضول للتعرف على الكيفية التي يمكن أن يكون فيها شهر رمضان شهر التقدم والبناء، ونحن في هذا الشهر –عادة- نميل إلى السكون لا إلى الحركة، وإلى الراحة إلا إلى العمل، حيث الجوع والعطش يحدان من حركتنا ونشاطنا.
في شهر رمضان قد يؤجل بعضنا أعماله ومشاغله إلى ما بعد رمضان، وبعضنا يأخذ إجازة طويلة من عمله ليقضي رمضان في بيته من دون زحمة العمل وتحمل مشاقه. وبعضنا يقصر من ساعات عمله لما يصيبه من تعب وإجهاد، حتى أن الكثير من الدول الإسلامية تمنح موظفيها إجازة شهر رمضان كاملة، أو تقصر دوام موظفيها إلى نحو ساعة أو أكثر، بغية التفرغ للصوم والعبادة. وربما يفكر الكثير منا أن يرتبط في هذا الشهر برباط قوي ومتين مع الله عز وجل ليعوض ما فاته من صلة معه في الأشهر الماضية، فتكون النتيجة العزلة والسكون والراحة، فكيف يمكن أن يكون شهر رمضان شهر التقدم والبناء؟
يقول المرجع الشيرازي إن (شهر رمضان شهر جديد من بين بقية الشهور، لأنه يمتاز عنها بأشياء كثيرة، يريد للمؤمن أن يكون جديداً في كل أيامه، جديداً لا بملبسه.. حيث اعتاد البعض أن يرتدوا أجمل ما عندهم من الملابس. جديداً لا بمأكله.. حيث اعتاد بعض الناس أن يأكلوا في هذا الشهر كل شيء جديد. فكل ما لم يعتادوا على أكله.. يبتاعونه في هذا الشهر ليتناولوه وكأنه ليس شهر الصيام بل شهر الطعام. وكأن الهدف ليس هو التدريب على الجوع والعطش ليتذكّر الإنسان المؤمن جوع وعطش الفقراء والمساكين ليواسيهم، وليتذكّر جوع وعطش يوم القيامة بل الهدف هو التعود على تناول ألذّ الأطعمة! فعلى المؤمن أن يصمم في هذا الشهر مع نفسه أن يكون أفضل مما كان عليه، وان يعاهد الله سبحانه وتعالى أن يكون لبنةً جديدة تُضاف إلى صرح الإسلام المتين، ليرتفع هذا الصرح شامخاً في سماء الدنيا باعثاً الهداية والأمل إلى كل البشرية).
لذا يؤكد الإمام الشيرازي أن (الإنسان بحاجة في كل عام إلى وقفة مع نفسه، ومع الحياة، لأنّ غبار الحياة قد يتراكم على قلبه فيجرّده عن رؤية الحقيقة، وتحول بينه وبين طريق التقدم. فلابدّ من غربلة تمهد الطريق إلى الدخول في شهر رمضان، لابدّ من نقضٍ لما علق بالإنسان من غبار الجهل واليأس والتخلف، والأخذ بشآبيب الأمل والتقدم للمضي في طريق راسخ نحو تجديد الحياة الفردية ليكون هذا التجديد هو السبيل لتقدم حياة الجماعة نحو الإمام).
في شهر رمضان تترجم الأفكار إلى وقائع.. وتتحول الحروف إلى حركة والكلمة إلى حياة. يتحول الإنسان إلى أمّة كإبراهيم (عليه السلام) حيث كان أمة قانتاً لله. يكون أُمّة بتقدمه في هذا الشهر، فهو يعبد الله ما يعادل عبادة سنة، وهو في المجتمع ليس فرداً بل أفراداً متعاونين متآخين، وهو في الكون بذرة تبعث الحياة في كل ركن من أركان الدنيا. فشهر رمضان شهر الحركة والبركة.
كل جسم ساكن إذا مسّهُ نسيم هذا الشهر يأخذ بالحركة، فالكثير يخرجون للتبليغ في هذا الشهر المبارك، والكثير يشتغلون في الليل والنهار، وإذا ما حاولنا أن نحصي إنتاج بعض الأفراد لوجدنا انهم ينتجون ما يعادل العام. شهر رمضان هو ربيع القرآن، وفي القرآن الكريم يجد الإنسان برنامج التجديد الذي يبتغيه ويسعى من أجل تحققه في هذا الشهر. وشهر رمضان هو (هدىً للناس).
هداية لإصلاح النفس والغير، هداية معنوية ومادية، حيث تضمّن دستوراً لكل طريق صائب، ولكل زاوية من زوايا الحياة. اذاً نفحات هذا الشهر ستعم الجميع، فشهر رمضان هو للناس كافة كما أن الدين الإسلامي للناس كافة، اذاً لابدّ من استثمار هذا الموسم الروحي العظيم بأحسن وجه. لابدّ أن نستفيد من كل لحظة في هذا الشهر. لابدّ أن نستغل كل عطاء من عطاءات هذا الشهر المبارك.
يحدد المرجع الشيرازي عدة أعمال في شهر رمضان، وهذه الأعمال إذا ما قام بها الشاب المسلم فإنها بالفعل ستكون محطة للتقدم والبناء والاستدامة ومنها:
1. البناء العقائدي: ليس كل الناس يدركون الأمور العقدية، التي هي أساس الدين ومنبعه، وهي التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد. وقد ينشغل الناس عن أصول الدين في الأشهر السابقة لشهر رمضان. لذا فليكن شهر رمضان هو شهر تأصيل العقيدة وتقويتها وترسيخها وتركيزها في القلوب والأذهان. وستكون ثمرة هذا العقيدة هي الاستقامة في الحياة في القول والفعل. ومن ثمار هذه الاستقامة هطول البركات والنِعم، وقد قال تعالى: (وألَّوِ استقاموا على الطريقةِ لأسقيناهُ ماءً غَدَقا).
2. توثيق الرابطة مع أهل البيت: إن التمسك بأهل البيت عليهم آلاف التحية والسلام هو جزء من الدين، والاهتداء بهديهم من أهم الواجبات. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إني تاركٌ فيكم الثقلين ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي هل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض) وشهر رمضان بما يتضمن من ذكريات ترتبط بالعترة الطاهرة؛ كولادة الإمام الحسن(عليه السلام)، وشهادة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) وليالي القدر، حيث كان الأئمة (عليه السلام) يتفرغون فيها للعبادة، لذا لابدّ وان نتعايش مع شخصيات هذا الشهر، وأن نعيش تلك اللحظات التي عاشها أئمتنا الأطهار(عليه السلام). فمن الواجب أن نكرّس حياتنا في هذا الشهر للعترة الطاهرة تأريخاً وفهماً لهم والأخذ بأقوالهم والاقتداء بأعمالهم وتمييزاً لمختلف أدوارهم، وتشخيص مواقعنا لأدوارهم (عليهم السلام).
3. الرغبة في الجنة والرهبة من النار: إنّ أكثر ما يستثير الهمم ويطلق العِنان للطاقات، هو التفكير بالجنة والنار فالجنة هي نهاية الصالحين والمؤمنين، والنار هي مصير الجبّارين والمتكبرين. وشهر رمضان هو أفضل موسم لتركيز هذه الفكرة، حيث ينسلخ الإنسان ـ إلى حدّ ماـ من عالم الماديات ويزداد تحليقاً في سماء المعنويات فيقترب إلى فكرة الآخرة وما فيها من نعيم جعله الله للمتقين وللمؤمنين وما فيها من عذاب أعدّه الله للعاصين والمذنبين، وتكون حصيلة ترسّخ هذه الفكرة هي الاستقامة الدائمة في مختلف مناحي الحياة، فمن أعمال شهر رمضان طلب الغفران والجنة، والتعوّذ من نار جهنم.
4. التدبر في القرآن: لا نغالي إن قلنا إن أكثر المسلمين وحتى العرب منهم لا يعرفون قراءة القرآن، ولا يعرفون معاني ألفاظه. فاللازم أن تشكل في أيام شهر رمضان الميمون ولياليه في طول بلاد الإسلام وعرضها، وفي البلاد التي يتواجد فيها المسلمون من غير بلاد الإسلام هيئات تعليم القرآن، هيئات ليست خاصة بالرجال بل تعمم النساء والفتيان وحتى الأطفال، ومهمة هذه الهيئات تعليم الناس القراءة الحسنة، وتعليم معاني ألفاظ القرآن، وتفسير القرآن الكريم بما يناسب واقع الناس أي ربط القرآن الحكيم بالحياة ويجعله منهاجاً للناس في شؤونهم المختلفة. وتخصيص كل ليلة أو كل يوم من أيام الشهر المبارك لبيان معنى جزء من أجزاء القرآن.
5. تطبيق الأحكام الشرعية: ثلاثون يوماً كافية لتدريب المسلم على التقيّد بالأحكام الشرعية، فإذا ما قرر الإنسان المسلم أن يجبر نفسه على الالتزام بما يُملي عليه دينه فيعمل الواجبات وينبذ المحرمات كان تدريباً حسناً؛ وشهر رمضان هو أفضل مناسبة لهذا التدريب حتى يخرج الإنسان المسلم من هذه الجولة وقد اعتاد على التقيّد بالأحكام الإسلامية. فمن البرامج التي يستطيع المسلم القيام بها في شهر رمضان أداء ما عليه من الصلاة الفائتة ـ لمعصية أو لغير معصية كالنوم والغفلة ـ.
6. تطوير العلاقات الاجتماعية: قد ينشغل الإنسان في الأيام العادية نتيجة ضغوط الحياة وكثيرة انشغالاتها عن علاقته مع محيطه الاجتماعي، بل مع أقرب الناس إليه مثل امه وأبيه وزوجته وأولاده، فضلا عن أرحامه وجيرانه والفقراء والمساكين والمرضى من سكان منطقته. لذا فان شهر رمضان لا يعد فرصة لتنمية الذات وتطويرها وتقدمها بل هو أيضا فرصة لتنمية العلاقات الاجتماعية وتطويرها. فزيارة الأقرباء، ومساعدة الفقراء، وتنظيم حملات الطعام للصائمين، وعيادة المرضى ومساعدتهم وتحمل تكاليف علاجهم وتداويهم إن كان ذلك ممكن، أو التعاون مع الشباب الآخرين ممن لهم الاستعداد نفسه، كلها أعمال يكون أداء في شهر رمضان ممكن، وابلغ أثرا في نفوس المسلمين لأنها تعني أن المسلمين حتى لو نسوا أو تناسوا بعضهم بعضا فان الله وأيام الله، كشهر رمضان، كفيل أن يعود بهم ليكونوا رحماء على بعضهم.
اضف تعليق