{وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ}.
هي أَعظمُ وأَرحمُ طريقةٍ للتنبيه، انْ يستخلفَ الله تعالى عبدهُ في قصورِ طاغوتٍ ولّى، وهذا ما يحصل يومياً في بلادنا العربية والإسلامية المكتظّة بالحكّام والمسؤولين الظّالمين الّذين يسحقون حقوق الناس ويتجاوزون على حريّاتهم وكراماتهم، ويشفطون المال العام بلا رحمة.
والعراق أَحد هذه البلدان التي اهلك فيها الله تعالى طغاةً مرّوا من هنا، واسكنَ عوضاً عنهم عباد، كانوا مستضعفين! كان ينبغي لهم ان لا يغفلوا عن مصيرِ من سبقهم، فيتذكّروا جرائمهم ويستحضروا مصيرهم، رحمةً بأنفسهم، وبشعبهم الذي اطمأنَّ بادي ذي بدء انهّم سوف لن يكرّروا افعالهم ويتجنّبوا طغيانهم وظلمهم!.
ومن رحمة الله تعالى بعباده انه يذكّرهم وينبّههم، تارةً بمَثلٍ واُخرى بقصةٍ وثالثة بعبرةٍ، حتى اذا أَصرّ العبد على الغفلة والتبرير وعدم الانتباه، تحوّلت الذكرى الى استدراج، ظاهرهُ الرحمة ولكن جوهره الانتقام والعذاب، كما في قوله تعالى {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} كيف؟ {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ}.
وما اسوءَ حظّ العبد عندما يغفل لتتحول الذكرى، وهي رحمة وعطف كلّها، الى استدراج، وهو غضب وعقاب كله! ولذلك جاء في الحديث الشريف {إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُتَابِعُ نِعَمَهُ عَلَيْك وَأَنْتَ تَعْصِيهِ فَاحْذَرْهُ}.
لقد انعم الله تعالى على العراق، وعلى المعارضين لسلطة الطاغية الذليل صدام حسين وضحاياه، انعم عليهم بالتغيير، فأزاح عن صدرهم احد اعتى الأنظمة الديكتاتورية البوليسية قساوةً، فأهلك الطغاة واستخلف آخرين، افلا كان يجب على الخلف ان يتعلم من السّلف فلا يظلم نفسه بالفساد المالي والاداري. ولا يظلم الرّعية بالتجاوز على حقوقهم وعلى راسها المال العام؟ افلا كان يجب على الخلف ان يأخذ من مصير السلف عبرة، فيرعى حقوق الضّحايا ويتفقّد حاجات المظلومين، ليبارك الله تعالى في عملهم وجهدهم ويجزل لهم العطاء؟.
لقد رحم الله تعالى الخلف، عندما اسكنهم في مساكن الّذين ظلموا، الطاغية وزبانيته، تذكيراً منه لهم ليُحسنوا العمل، بعد ان اراهم بامّ اعينهم المصير الاسود للسّلف المستبد، الّا ان الخلف، وللأسف الشديد، لم يرحم نفسه، وظلمها عندما نسي او تناسى افعال القوم ونهاياتهم البائسة ومصيرهم الاسود، فلم يبقَ لعدل رب العالمين الا ان تتحوّل التذكرة الى استدراج، فالحذر الحذر أيها الساسة والقادة والزعماء، فأنتم اليوم مستدرجون، انتبهوا لأنفسكم لتغيّروا وتبدّلوا فلا تأخذكم العزة بالإثم، وكفاكم غفلةً وعلوّاً واستكباراً، فليس لله تعالى مع أحدٍ من عباده قرابة، فاحذروا ان يستبدلكم كما استبدل من كان قبلكم، وهو القائل في محكم كتابه الكريم {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
لقد ضرب الله تعالى الكثير من الأمثلة والقصص لعباده، فقال تعالى {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} ليس لهواً او عبثاً، ابداً، وانما من اجل ان نتعلّم فلا نكرّر الخطأ، فما بالنا نمرّ على التجربة مرور الكرام ونقرأ القصة وكأنها للتسلية، او كأنّنا لسنا المقصودين بها ابداً، وانما ضرب الله الأمثال لغيرنا!.
لقد اقترحتُ في مقالٍ، لحظة إلقاء القبض على الطاغية الذليل صدام حسين وإخراجه من حفرة العار بتلك الصورة التي شاهدها العالم وهو أشعث أغبر فاتحاً فاه مستسلماً للطبيب يفحص اسنانه كثورٍ سقط َمن علٍّ، وقتها اقترحت على العراقيين ان يعلّقوا هذه الصورة خلف طاولة كلّ مسؤول في الدولة العراقية ليتذكروا مصير من سبقهم فلا يطغَوا ولا يتجبّروا ولا يستهتِروا، ولكن، للأسف الشديد، لم يعِر احدٌ هذا المقترح اية اهمية، فَنَسِي الجميع مصير الطاغية ليكرروا افعاله حذو النعل بالنعل، بانتظار من سيخرج هذه المرة من حفرة اخرى، على امل ان لا يغفل العراقيون عن هذا المقترح المتجدد دائماً، وللاسف الشديد!.
انّنا جميعاً بحاجةٍ الى تنشيط الذاكرة، والا فالمصيرُ سيتكرّر والنّهايات هي نفسها ولم يبقَ الكثير لنتأكّد!.
لقد أشار الامام امير المؤمنين (ع) الى ضرورة الوقوف عند تجارب الامم السابقة من اجل تجنّب الخطأ وتكريس الصحيح، الامر الذي يوفّر على الشعوب والامم الكثير من الجهد والوقت، فكتب في وصيّته للامام الحسن المجتبى السبط عليه السلام يقول {أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْر نَخِيلَتَهُ، فتَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ، وَصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ}.
فما احوجنا جميعاً الى ان نضعَ تجربة من مضى من الحكّام الظالمين نصب اعيننا لنُحسن الفعل ونحذر الخطأ، فنكون ممّن قال عنهم رب العزة {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
اضف تعليق