يتصوَّر كثيرُون في بلادِنا أَن لا مجالَ للتَّعايش بينَ الأَفكار والنظريَّات والتوجُّهات المُختلفة، سواءً على صعيدِ التيَّار والتوجُّه الواحد أَو على صعيدِ أَكثر من تيَّارٍ واحدٍ، تيَّاران مثلاً أَو أَكثر يتصوَّرُون أَنَّ الطَّلاق بينها بائِنٌ ولذلكَ فإِنَّ خلافاتنا قاسيةٌ وعنيفةٌ ومُدمِّرة ومُزمِنةٌ وفي الكثيرِ من الأَحيانِ دمويَّةٌ...
{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }.
للأَسف يتصوَّر كثيرُون في بلادِنا أَن لا مجالَ للتَّعايش بينَ الأَفكار والنظريَّات والتوجُّهات المُختلفة، سواءً على صعيدِ التيَّار والتوجُّه الواحد أَو على صعيدِ أَكثر من تيَّارٍ واحدٍ، تيَّاران مثلاً أَو أَكثر
يتصوَّرُون أَنَّ الطَّلاق بينها بائِنٌ ولذلكَ فإِنَّ خلافاتنا قاسيةٌ وعنيفةٌ ومُدمِّرة ومُزمِنةٌ وفي الكثيرِ من الأَحيانِ دمويَّةٌ.
وهذا صحيحٌ إِذا ظلَّ الجميع مُتربِّصٌ بالجميعِ، لا أَحدَ مُستعِدٌّ أَن ينزلَ من على ظهرِ حمارهِ كما يقُولونَ.
أَعتقدُ أَنَّنا إِذا شرَّعنا التعدديَّة في التَّجربة الدينيَّة التأسيسيَّة رُبما سنُسقِّط واقعنا المرير الذي يتلفَّع بالدِّين لشرعنةِ [حقِّهِ المُطلق] وإِلغاءِ الآخر، ونقتنع أَنَّ بالإِمكان تِكرارها وبالتَّالي نتَّخذ الخُطوة الأُولى بالإِتِّجاه الصَّحيح، نظريّاً على الأَقل.
في تجربةِ المدينةِ المُنوَّرةِ، وكذلكَ في تجربةِ عهدِ الإِمام أَميرِ المُؤمنينَ (ع) دليلٌ واضحٌ على إِمكانيَّة التَّعايش بوجودِ التنوُّع والتعدديَّة إِذا التزمَ الجميعُ بالقانون ولم يُفكِّر أَحدٌ التجاوز عليهِ وعلى حقُوقِ الآخرينَ أَو يتجاوزَ حدُودهِ.
بالنِّسبةِ لتجربةِ المدينةِ فإِنَّ الوقائع تُثبتُ أَنَّ رسولَ الله (ص) لم يقتُل أَو يسجن أَو ينفي أَو يمنع أَحداً حقوقهُ بسببِ الإِختلاف في الدِّين أَو العقيدةِ أَو الفكرِ والرَّأي، أَبداً، حتى انتقلَ (ص) إِلى بارئهِ وفي المدينةِ كلَّ العناوين الدينيَّة والفكريَّة وبمُختلفِ الخلفيَّات، لم يُلغها أَو يسعى أَحدٌ لإِلغائِها.
ولقد ثبَّت القُرآن الكريم هذهِ الحقيقةِ الخالدةِ في سورةِ الكافرُون.
يقولُ تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ* لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ* وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ* وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.
والآيةُ الأَخيرة شرعنت التنوُّع والتعدديَّة إِلى يومِ يُبعثُونَ.
ذات الأَمر نُلاحِظهُ في عهدِ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) إِذ لم يكُن فيهِ أَثرٌ لمفهومِ [المُعتقل أَو السَّجين السِّياسي] أَبداً.
وفي القُرآن الكريم وخِطابات أَميرِ المُؤمنينَ (ع) بشأنِ الحُقوقِ والواجباتِ يكونُ المُخاطبُ فيها هم [النَّاس] وليسَ [المُؤمنُونَ] مثلاً، ما يُشيرُ إِلى مدنيَّةِ الدَّولةِ التي تستوعب التعدديَّة بشَكلٍ واسعٍ جِدّاً.
وأَكثر من هذا، فكلُّ [الصَّحابة] الذين حَجرت عليهم السُلُطات في عهدِ الخُلفاء الثَّلاثة ففرضت عليهِم الإِقامة الجبريَّة ومنعهتُم من مغادرةِ المدينةِ، حرَّرتهم سُلطة الإِمام (ع) ورفعت عنهُم الحَصار بكُلِّ أَشكالهِ فأَجازت لهُم السَّفر مثلاً والذِّهاب إِلى العُمرةِ، مع أَنَّهم ردُّوا على هذا الموقف النَّبيل [الإِحسان] من الإِمام (ع) بالتَّآمر وتجييشِ النَّاس والإِعتداء على السُّلطة المحليَّة في البصرةِ ونهبِ بيتِ المال!.
وكأَنَّهم [الصَّحابة] لم يقرأُوا قولَ الله تعالى {هَلْ جَزَآءُ ٱلْإِحْسَٰنِ إِلَّا ٱلْإِحْسَٰنُ}.
حتَّى الخوارج الذين قاتلهُم أَميرُ المُؤمنينَ (ع) ليسَ بسببِ اختلافهِم فكريّاً مع الدَّولة أَبداً وإِنَّما بسببِ أَنَّهم رفعُوا السِّلاح بوجهِها وتجاوزُوا على القانون وهدَّدُوا السِّلم المُجتمعي، حتَّى هؤُلاء منعَ (ع) أَن يُقاتلهُم أَحدٌ بعدهُ بسببِ الإِختلافِ في الرَّأي والفكر مُبرِّراً لهم ذلكَ بقولهِ العظيم {لَا تُقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ}.
وهذا هو الفرق بينَ [رجُل الدَّولة] و[رجُل السُّلطة] فالأَوَّل يُبرِّر لخصُومهِ ليستوعبهُم والثَّاني يختلِق لهُم الأَسباب لتصفيتهِم!.
الأَوَّل يتعامل مع خصُومهِ بأَخلاقٍ والثَّاني يتعامل معهُم بحقدٍ وكراهيةٍ ودناءةٍ، كما كانَ يفعلُ الطَّليق إِبنُ الطَّليق طاغيةُ الشَّام مُعاوية.
فقبلَ أَن يُشهِرُوا السَّيف بوجهِ الدَّولة ويُقرِّر (ع) قِتالهُم كانَ يرفض الدَّعَوات التي تُحرِّض على قتالهِم بقولهِ يُخاطبهُم مُباشرةً {إِنَّ لكُم عِندنا ثلاثاً؛ لا نمنعكُم صلاةً في هذا المسجدِ، ولا نمنعكُم نصيبكُم من هذا الفَيء ما كانت أَيديكُم في أَيدينا، ولا نقاتلكُم حتَّى تُقاتلُونا} فكانَ النَّاسُ يقولُونَ للإِمامِ (ع؛ إِنَّهم خارجُونَ عليكَ! فيقولُ {لا أُقاتلهُم حتَّى يُقاتلُوني وسيفعلُونَ}.
لقد كانَ (ع) يريدُ أَن يُثبِّتَ قاعدةً في غايةِ الأَهميَّة أَلا وهيَ أَنَّهُ لم يُقاتل أَحداً بسببِ الإِختلاف بالرَّأي أَبداً وإِنَّما بسببِ خروجهِ عن القانُون والنِّظام وهذهِ قاعدةٌ قُرآنيَّةٌ أَساسيَّةٌ.
يقولُ تعالى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
لأَنَّ الأَمن المُجتمعي والسِّلم الأَهلي خطٌّ أَحمر لا يجوزُ لأَحدٍ مهما علا شأنهُ تجاوزهُ.
يقولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) {اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ وَلَا الْتِمَاسَ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ وَلَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ}.
ثُمَّ حدَّد شرُوط الحاكم القادر على فعلِ ذلكَ بقوله (ع) {وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَالِي عَلَى الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالْمَغَانِمِ وَالْأَحْكَامِ وَإِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ وَلَا الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ وَلَا الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ وَلَا الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ وَلَا الْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ وَيَقِفَ بِهَا دُونَ الْمَقَاطِعِ وَلَا الْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الْأُمَّةَ}.
اضف تعليق