كيفَ يمكنُ أَن تتجنَّبَ الأُسر مِثْلَ هَذِهِ المشاكل بين الأَبناء؟! مشاكل الغيرةِ والحَسد قَبْلَ كلِّ شَيْءٍ يلزم أَن ننتبهَ إِلى أَنَّ الحسدَ هو أَحد أَخطر الأَمراض النفسيَّة المُستعصية في مجتمعاتِنا، والسَّببُ رُبما لأَنَّنا لم نحاول أَن ندرسهُ بشَكلٍ عميقٍ من أَجل أَن نبحثَ عن الحُلولِ...
مشاكل الغيرةِ والحَسد
(إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ).
هي معادلةٌ دقيقةٌ وخطيرةٌ في نفسِ الوقتِ؛
فبينَ أَن يعدِل الأَبوَان مَعَ أَبنائِهم، ويُساووا في التَّعامل معهم، ويُظهِرُوا إِهتماماً زائداً بأَحدهِم، فيميِّزونهُ عن إِخوتهِ في التَّعاملِ، إِذا لمسُوا عندهُ من الصِّفات الإِيجابيَّة والإِستعداداتِ الخارِقة ما يميِّزهُ عن إِخوتهِ، وبينَ أَن يُشعرَ الأَبوان أَبناءهم بأَنَّهم عندهُم في الحقِّ سواءٌ لا يميِّز بينهُم شيءٌ من إِهتمامٍ أَو إِنفاقٍ أَو تعليمٍ أَو صحَّةٍ أَو ما أَشبه، وبينَ أَن يحذرَ الأَبوان من أَن يشعُر الأَبناء أَنَّ هناك تمييزٌ يمارسهُ الأَبوان بحقِّهِم.
بين هذا كلِّهِ يلزم الأَبوان الحذر جدّاً حتَّى لا يكونُوا بمعاملتهِم الخاصَّة لبعضِ أَبنائهِم على حساب المُساواة معهُم جميعاً سبباً في إِثارةِ الضَّغائن والحسد بين الإِخوة، كما حصلَ بين يوسُف (ع) وإِخوتهِ.
فنبيَّ الله يعقوب (ع) لم يفعل شيئاً سوى أَنَّهُ ميَّز بشَكلٍ طبيعيٍّ بين إِبنهِ يوسف (ع) وبقيَّة إِخوتهِ لعدَّةِ أَسبابٍ منها أَنَّهُ أَصغرهُم سنّاً وهذا شيءٌ طبيعيٌّ يفعلهُ كلَّ الآباء مع الأَبناء فعادةً ما يهتمَّ الأَبوان بأَصغرِ الأَبناء حتَّى يكبُر أَكثر مِن إِعتنائهِم بالأَبناء الكبار.
فلم يكُن تمييز الأَب أَصغر أَبنائِهِ عن بقيَّة إِخوتهِ مشكلتهُ وإِنَّما المُشكلة كانت في أَبنائهِ الكِبار الذين لم يكونُوا، رُبما، يفهمُون ذَلِكَ، أَو لم يريدوا إِستيعابَ الأَمرِ! أَو رُبما أَنَّهم ورِثُوا الحسد من طرفِ أُمِّهم أَو قد يكونُوا قد تعلَّموا ذَلِكَ من الشَّارع، أَو لأَيٍّ سببٍ آخر! ولذلكَ حرصَ الأَبُ على أَن لا يُثيرَ في نفوسهِم عُقدةَ الحسدِ هَذِهِ قدرَ الإِمكانِ فأَوصى أَخوهم يوسُف (ع) بقولهِ (قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ).
وعلى الرَّغمِ من أَنَّ التَّمييز هُنا بين يوسُف وإِخوتهِ من قِبَلِ أَبوهم كانَ منطقيّاً وطبيعيّاً إِلَّا أَنَّ الحسدَ فعلَ فعلتهُ في الأُسرةِ وحدثَ الذي حدثَ عندما تآمر أُخوة يوسُف (ع) عليهِ وكادُوا أَن يقتلونهُ لولا أَنَّ أَحدهُم أَقنعهم بالعدُولِ عن إِرتكابِ الجريمةِ والإِكتفاءِ بإِلقائِهِ في (غَيَابَتِ الْجُبِّ) كما تقولُ القصَّة القرآنيَّة (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ).
والآن؛ كيفَ يمكنُ أَن تتجنَّبَ الأُسر مِثْلَ هَذِهِ المشاكل بين الأَبناء؟! مشاكل الغيرةِ والحَسد؟!.
قَبْلَ كلِّ شَيْءٍ يلزم أَن ننتبهَ إِلى أَنَّ الحسدَ هو أَحد أَخطر الأَمراض النفسيَّة المُستعصية في مجتمعاتِنا، والسَّببُ رُبما لأَنَّنا لم نحاول أَن ندرسهُ بشَكلٍ عميقٍ من أَجل أَن نبحثَ عن الحُلولِ اللَّازمة والمُمكنة كذلكَ بشَكلٍ عميقٍ!.
يتصوَّر كثيرونَ أَنَّهُ مرضٌ عرضيٌّ جانبيٌّ لا ينبغي أَن يأخذَ من تفكيرِنا الكثير! ومن هُنا تبدأُ المُشكلة أَو قل تتعقَّد أَكثر فأَكثر.
هذا من جانبٍ، ومن جانبٍ آخر فإِنَّ الحسد والغيرة عندَ الأَبناء لا تولد كبيرةً أَو واسعةً بطبيعتِها وإِنَّما هي تبدأ كالبذرةِ تسقيها سلوكيَّاتنا غَير السَّليمة مع الأَبناء فتبدأ بالنُّمو وتظلُّ تكبر وتكبر حتَّى تتحوَّل إِلى معضلة مُعقَّدةٍ.
وإِنَّ أَخطر السلوكيَّات التي تُساهم في تضخيمِ هذا المرض عِنْدَ الأَبناء هو عندما نُقارن بصوتٍ مُرتفع بين الأَبناء، فإِذا أَخطأَ أَحدهم قارنَّا سلوكيَّاتهِ بأَخيهِ الآخر وإِذا فشل أَحدهم قارنَّا ذلك بنجاحِ أَخيهِ الآخر وهكذا! فدائماً هُناك مقارنةً بصوتٍ عالٍ بينَ الأَبناء.
يضافُ إِلى ذَلِكَ هناكَ دائماً تمييزٌ بين الأَبناء حتى في المُصطلحات والكلمات التي نستخدمَها للحديثِ معهُم، فواحدٌ لا يسمعُ من الأَب إِلَّا كلمات المديح والثَّناء والتَّعظيم حتى إِذا كان ما أَنجزهُ سهلاً بسيطاً تافها! وفِي المُقابل فإِنَّ الآخر لا يسمعُ من الأَب إِلَّا كلمات التَّجريح والتَّسقيط والتَّقليل من الشَّأن حتَّى إِذا كانَ ما أَنجزهُ مُهمٌّ وعظيمٌ.
إِنَّ التَّفاضل والتَّفضيل شيءٌ طبيعيٌّ ومنطقيٌّ وعقليٌّ وعلى كلِّ المُستويات (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ) و (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ) و (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ) شريطةَ أَن يكونَ التَّفضيلُ بأَشياءَ حقيقيَّة أَمَّا إِذا كانَ لأَسبابٍ تافهةٍ أَو لا معنى لها فسيكونُ التَّفضيلُ في هَذِهِ الحالة تمييزٌ مذمومٌ وهو الذي يُخشى مِنْهُ في تنميةِ الغيرة والحَسد بَين الإِخوة!.
تفضيلٌ من اللهِ تعالى
(يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا).
هذا يعني أَنَّ العلمَ لطفٌ يأتيهِ الله مَن يشاءُ من عبادهِ (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) وقولهُ تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ۖ وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) فلماذا يستكثرُ البعضَ العلم الذي أَودعهُ ربُّ العزَّة بأَهل البَيت عليهمُ السَّلام؟!.
يَقُولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) (تَاللهِ لَقَدْ عُلِّمْتُ تَبْلِيغَ الرِّسَالاَتِ، وَإِتْمَامَ الْعِدَاتِ، وَتَمَامَ الْكَلِمَاتَ. وَعِنْدَنَا ـ أَهْلَ الْبَيْتِ ـ أَبْوَابُ الْحُكْمِ وَضِيَاءُ الاَمْرِ).
ويَقُولُ الإِمامُ عليُّ بن الحُسين السجَّاد زَين العابدين (ع) (أيُّها النَّاس، أُعطينا ستّاً وفُضِّلْنا بسبعٍ، أُعطينا العِلمَ والحِلمَ والسَّماحةَ والفصاحةَ والشَّجاعةَ والمحبَّةَ في قلُوبِ المُؤمنِينَ، وفُضِّلْنا: بأَنَّ منَّا النبيَّ المُختار، ومنَّا الصدِّيق، ومنَّا الطيَّار، ومنَّا أَسدُ الله وأَسدُ رسولهِ، ومنَّا سيِّدة نساءِ العالَمينَ ومنَّا سِبطا هَذِهِ الأُمَّة ومنَّا مهدِيُّها).
إِذن هو تفضيلٌ من اللهِ تعالى ليسَ لأَحدٍ أَن يعترضَ أَو يحتجَّ، فكما أَنَّهُ تعالى فضَّل بعض النبيِّين على بعضٍ، كذلكَ فضَّل أَهل بيتِ النبوَّة والرِّسالة على سائرِ النَّاس.
والتَّفضيلُ الإِلهيُّ واضحٌ في آياتِ الله تعالى كقولهِ (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ) وقولهُ (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي) وقولهُ (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي).
أَوليسَ هو القائلُ عزَّ وجلَّ (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
خُذ مثلاً مِن أَهْلِ البيت (ع) الذين قَالَ عنهُم ربُّ العزَّةِ (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) الإِمام الحسنُ بن عليٍّ المُجتبى السِّبط (ع) [تُصادف لَيلة (١٥) رمضان المُبارك ذكرى ولادتهِ المَيمونةِ في المدينةِ المنوَّرةِ عام ٣ للهجرةِ].
دع عنكَ كونهُ إِمامٌ معصومٌ، فلقد تربَّى في حجرِ جدِّهِ رسول الله (ع) وعاشَ في كنفِ أَبيهِ أَمير المُؤمنينَ (ع) الذي يَقُولُ عن علاقتهِ بنفسهِ وأَخيهِ وابنِ عمِّهِ رسول الله (ص) (وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْم عَلَماً مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ).
وللفضلِ الذي نالهُ الإِمامُ المُجتبى (ع) علماً وخُلقاً وشجاعةً، لذلك كانَ هدفاً مُباشراً لسهامِ التَّضليل التي ظلَّ يُطلقها الأَمويُّون صوبَهُ، فلا نبالغُ إِذا قُلنا بأَنَّ الحسنَ السِّبط (ع) من أَكثر أَئِمَّة أَهل البيت (ع) الذين تعرَّض لهُم الأَمويُّون بسهامِ الطَّعن والتَّضليل ونشرِ الأَكاذيب والإِشاعات المُغرضةِ وغيرِ ذلك، لأَنَّهُ (ع) فضحهُم وعرَّاهُم وكشفَ نواياهُم! ففضحَ كبيرهُم إِبن آكلة الأَكباد الطَّاغية مُعاوية بالحربِ وفضحهُ بالسِّلم! وإِذا كانت قُريش [المُشركة] قد احترمَت [ظاهريّاً على الأَقلِّ] اتِّفاقاتها وعهودَها مع رَسُولِ الله (ص) [ومنها صُلح الحُديبيَّة] ولو من بابِ العصبيَّة الجاهليَّة إِلى حينٍ، فإِنَّ الطَّاغية مُعاوية [الصَّحابي وخال المُؤمنِينَ] أَعلن جِهاراً عن نكثهِ للعهدِ وسحقهِ بقدَمَيهِ لوثيقةِ الصُّلح التي كان قد وقَّعها مع الحسنِ السِّبط (ع) قائلاً من على مِنبرِ [رسولِ اللهِ] [يا أَهل العراق، إِنِّي واللّه لم أُقاتلكُم لتصلُّوا ولا لتصومُوا، ولا لتزكُّوا، ولا لتحجُّوا، وإِنَّما قاتلتكُم لأَتأَمَّر عليكُم، وقد أَعطاني اللّه ذَلِكَ وأَنتُم كارهونَ! أَلا وأَنَّ كلَّ شَيْءٍ أَعطيتهُ للحسنِ بن عليٍّ جعلتهُ تحتَ قدميَّ هاتَين].
ويكفي هذا كدليلٍ على أَنَّهُ لم يكُن مُلتزماً سويّاً فلا يستحقُّ أَن يكونَ خليفةً وإِماماً! لأَنَّهُ (فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ) و (أَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) و (الَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ).
ولَم تكُن في سيرتهُ شيءٌ من ذلك، فكلُّها غدرٌ ومكرٌ ونكثٌ!.
وأَكثرَ من ذَلِكَ (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَٰقَهُمْ لَعَنَّٰهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَٰسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ).
وهيَ السِّيرةُ التي دوَّنها التَّاريخ عن حفيدِ [حمامة] صاحبة الرَّاية في الجاهليَّةِ! وأَقصدُ بهِ مُعاويةَ!.
فالإِلتزامُ بالعهدِ واحترام المَواثيق من أَصدقِ عُرى الإِيمان، ولذلكَ فحتَّى عندما نزلت سورَة البَراءة إِستثنى الله تعالى منها الجماعة التي لها في رقبةِ المُسلمينَ عهدٌ، فقالَ تعالى (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) وقولهُ تعالى (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).
وأَكثرُ من هذا ما ذهبت إِليهِ الآية المُباركة (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
إِنَّهُ قِمَّة الإِلتزام بالعُهود والمواثيق، فأَينَ [كاتب الوحي وخال المُؤمنينَ] من كلِّ هذا عندما داس عهدَ الصُّلح مع الحسنِ السِّبط المُجتبى (ع) بقدمَيهِ مُعلناً نكثهِ للعهدِ وعدم إِلتزامهِ بشيءٍ وقَّع وتعاهدَ عليهِ مع الإِمامِ؟! أَم أَنَّهُ نسيَ ما كانَ يكتبهُ من وحيٍّ نزلَ على رَسُولِ الله (ص)؟!.
وهذا هُوَ الفرقُ بينَ المدرستَينِ، مدرسةُ أَهل البيت (ع) ومدرسة الخُلفاء واللَّتانِ قارنَ بينهُما أَميرُ المُؤمنينَ (ع) عندما قارنَ بين بني أُميَّة وهُم (الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) وبني هاشمٍ بقولهِ (ع) (وَأَنَّى يَكُونُ ذلِكَ كَذَلِكَ وَمِنَّا النَّبِيُّ وَمِنْكُمُ الْمُكَذِّبُ، وَمِنَّا أَسَدُ اللهِ وَمِنْكُمْ أَسَدُ الاَْحْلاَفِ، وَمِنَّا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمِنْكُمْ صِبْيَةُ النَّارِ، وَمِنَّا خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينِ وَمِنْكُمْ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ، فِي كَثِير مِمَّا لَنَا).
وقولهُ في كتابٍ إِلى مُعاوية (وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَاف، فَكَذلِكَ نَحْنُ، وَلكِنْ لَيْسَ أُمَيَّةُ كَهَاشِمَ، وَلاَ حَرْبٌ كَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلاَ أَبُوسُفْيَانَ كَأَبِي طَالِب، وَلاَ المُهَاجرُ كَالطَّلِيقِ، وَلاَ الصَّرِيحُ كَاللَّصِيقِ، وَلاَ الْـمُحِقُّ كَالْمُبطِلِ، وَلاَ الْمُؤْمِنُ كَالمُدْغِلِ، وَلَبِئْسَ الْخَلَفُ خَلَفٌ يَتْبَعُ سَلَفاً هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ).
الَّذينَ يتوارَونَ عن الأَنظارِ
(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ).
ما أَن تطيرَ كذبهٌ أَو تصلَ إِشاعةٌ حتَّى نتلاقفها تلاقُفَ الصِّبية للكُرة، ننسخها وننشرها ونتقاتل ونتسابق على إِيصالِها لأَكبرِ عددٍ مِن النَّاس ونتفاخر بينَنا أَيُّنا يوزِّعها على نطاقٍ أَوسع؟!.
مُستعجلونَ وكأَنَّ أَبوابَ الجنَّةِ ستُغلقُ ولَم نلحق بدخولِها إِذا لم ننشُر!.
هذا قسمٌ من النَّاس، أَمَّا القسمُ الثَّاني فهُم الذين يتريَّثون ويتثبَّتون ويتأَكَّدون وفِي أَغلب الأَحيان لا يَنشرونَ وبَوصلتهُم في ذَلِكَ قول الله تعالى (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ).
القسمُ الأَوَّل همُ الذين يعشقُون الفِتنة ويرقصُون طرباً عندما ينشرُونَ كلَّ ما من شأنهِ إِثارة الفوضى والشَّك في المُجتمع وتقسيطِ الآخرين وفضحِ العاملين حتَّى إِذا كان ذَلِكَ يتحقَّق بكِذبةٍ أَو دعايةٍ أَو سبٍّ أَو تُهمةٍ، وهُم الذين يصفهُم القرآن الكريم بقولهِ (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
أَمَّا القسم الثَّاني، وهُم الذين يحرصُون على سُمعةِ المُجتمع ويحفظُونَ أَسرار النَّاس ويكرهُون نشر الفاحِشة والفِتنة في المُجتمع، فهمُ الذين لا يتدخَّلون فيما لا يعرفُون عَنْهُ شيئاً، فإِذا أَرادوا أَن يتدخَّلوا يتثبَّتوا أَوَّلاً حتَّى إِذا سُئلُوا لم يُجيبُوا بالمُبهم والمجهول [يقولُون] أَو [سمعتُ] أَو [كما وصلني] طيِّب؛ وأَنت؟! أَينَ عقلُك؟! أَين ضميرُك؟! أَين دينُك؟! أَين شرفُك؟! أَينَ إِنصافُك؟! أَينَ أَخلاقُك؟! لا شيءَ يُستحضرُ من كلِّ ذَلِكَ لحظةَ النَّسخ والنَّشر أَو لحظةَ النَّقل والتَّناقُل!.
أُنظرُوا إِلى وصفِ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) لأَخٍ لَهُ (وَكَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً فإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ وَنَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ).
وما أَروع ما أَوصى بهِ (ع) ولدهُ الإِمام الحسن المُجتبى (ع) بقولهِ (وَدَعِ الْقَوْلَ فِيَما لاَ تَعْرِفُ، وَالْخِطَابَ فِيَما لَمْ تُكَلَّفْ، وَأَمْسِكْ عَنْ طَرِيق إِذَا خِفْتَ ضَلاَلَتَهُ، فَإِنَّ الْكَفَّ عِنْدَ حَيْرَةِ الضَّلاَلِ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الاَهْوَالِ).
١/ شيءٌ لا تفهم فِيهِ أَو لا تعرف عَنْهُ شيئاً لا تقل فِيهِ ولا تُبدِ فِيهِ رأياً! وكيف تُبدي رأياً في أَمرٍ لا تعرف عَنْهُ شيئا؟! والله تعالى يَقُولُ (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).
وفِي الآية المُباركة (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) وفِي قولِ رَسُولِ الله (ص) (وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) وإِنَّ كلَّ ذلك لا يتحقَّق إِلَّا إِذا كُنت عالماً بما تتكلَّم بهِ عارفاً بما تريدُ أَن تُعطي رأيكَ فِيهِ.
أَمَّا الذين يقولُون دائماً [عبَّالي] [لبَّالي] [ظننتُ] [تصوَّرتُ] فهم من الفصيل السيِّء في المُجتمع الذي يَقُولُ عَنْهُ ربُّ العِزَّة (هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ).
٢/ إِذا لم يُطلَب منكَ أَن تُبدِ رأيكَ في شَيْءٍ فلماذا تتدخَّل؟! لماذا تحشُر أَنفكَ في كلِّ موضوعٍ؟! لماذا تتدخَّل فيما لا يَعنيك؟! لماذا تتحدَّث أَو تنقل أَخبار أَمرٍ لم يطلب منك أَحدٌ أَن تتحدَّث فِيهِ أَو تنقل أَخبارهُ؟! فلماذا تتبرَّع؟! خاصَّةً إِذا كانَ الأَمرُ خاصّاً يتعلَّق بعِرضٍ أَو سُمعةٍ أَو ما أَشبه؟!.
إِنَّ مُجتمعنا يلوكُ بلحومِ بعضهِ كلَّما سنحت الفُرصة! فلحمُ الميتةَ هو الطَّعامُ المُفضَّل في جلساتِنا! والله تعالى يَقُولُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ).
ما أَروعَ الأَدب القرآني الذي يعلِّمنا أَن نبتعدَ عن مجلسٍ يتحدَّثون فِيهِ كلاماً خطأ مهما كانَ شكلهُ! من أَجلِ أَن لا نخوضَ معهُم.
يَقُولُ تعالى (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا).
بقيَ أَن نُشيرُ إِلى صنفَينِ من النَّاسِ يُشاركونَ في إِشاعةِ الفاحشةِ شاءَوا أَم أَبَوا؛
١/ الأَنانيُّون الذين لا يهتمُّوا إِلَّا بسُمعةِ أَنفُسهم، كما يصفهُم القرآن الكريم (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ).
٢/ هم الَّذينَ يتوارَونَ عن الأَنظارِ عندما تَكُونُ شهادتهُم ضروريَّة ومِفصليَّة، كما يصفهُم القرآن الكريم (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
لقد أَمرنا الله تعالى أَن نُبيِّن ونوضِّح ما عندنا من معلوماتٍ إِذا كانت تنفع في ردِّ عدوانٍ ولو بشِقِّ كلمةٍ، كما في قولهِ تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ).
اضف تعليق