عندما نسمع بأن شهر رمضان المبارك، هو شهر الخير والبركة، ينصرف الذهن فوراً الى الهمّ الاقتصادي الذي يفترض ان ينتعش بفضل انطلاق حملات توزيع المواد الغذائية، والمساعدات العينية، وزيارة عوائل الفقراء والايتام، وفي ذلك تجسيد لوصية النبي الأكرم في خطبته الشهيرة التي أوصى فيها بالتصدّق...
عندما نسمع بأن شهر رمضان المبارك، هو شهر الخير والبركة، ينصرف الذهن فوراً الى الهمّ الاقتصادي الذي يفترض ان ينتعش بفضل انطلاق حملات توزيع المواد الغذائية، والمساعدات العينية، وزيارة عوائل الفقراء والايتام، وفي ذلك تجسيد لوصية النبي الأكرم في خطبته الشهيرة التي أوصى فيها بالتصدّق على الفقراء، وإفطار الصائمين، وللتخفيف من وطأة الضغوطات المعيشية من غلاء في اسعار المواد الاساسية، ومواجهة أزمة السكن، والبطالة، وتكاليف علاج بعض الامراض الصعبة.
وهذا –لاشكّ- يندرج ضمن الاهداف السامية للمشاريع الخيرية الجارية على شكل عمل مؤسسي و تحت أسماء عديدة، او على شكل مبادرات فردية داخل كيان المجتمع، بيد ان الاستحقاق الذي لايقلّ اهمية عن الغذاء والدواء والسكن والعمل؛ هو الثقافة والمعرفة، فقد ثبت للجميع أن الشعوب التي تجاوزت بنسبة كبيرة، مشاكلها الاقتصادية والمعيشية، كانت قد انتهت أول مرة، من المشكلة الثقافية والوعي في جميع نواحي الحياة، مما يعني ضرورة التحرك للعطاء في هذا الجانب الحيوي.
وفي هذا المقطع الصوتي لسماحة الامام الشيرازي، تأكيد وافر على هذا الجانب بالاستفادة من فرصة شهر الصيام، حيث تكون القلوب طرّية، والنفوس مستقرة ومطمئنة بالإيمان بفعل الإمساك عن المفطرات، والتوجه الى المعنويات اكثر.
لنقرأ معاً ما جاء في هذا المقطع الصوتي:
العمل المضاعف لتحقيق الهدف
"لابد للأخوة المثقفين من العمل المضاعف للوصول الى ما يصبون اليه، ومن فرص العمل؛ شهر رمضان المبارك، الذي يجب ان ينتشر فيه الاصدقاء من طلبة العلوم الدينية في كل مكان، ويبدأون بالحديث مع الناس ونشر الوعي الديني، وتكريس القيم الاخلاقية في النفوس بمختلف الطرق والوسائل.
وعندما نتحدث عن التبليغ، ليس بمعنى أن يكون طالب العلوم الدينية عالماً نحريراً وجامعاً لكل العلوم والمعارف، أو ان يعكف على دروسه وكتبه خمسين سنة –مثلاً- ثم يبدأ بالعمل، إنما عليه البدء من المراحل الاولى للدراسة، فالمجتمع يحتاج لكل شيء؛ من محافل القرآن الكريم، وجلسات الاحكام الشرعية، كما بالامكان فعل الكثير مثل؛ جمع التبرعات لطباعة الكتب، او حتى توزيع الكتب والمطبوعات على المساجد والحسينيات.
وهذا تعترضه صعوبات وتحديات، ولكن؛ لابد من مواجهتها للوصول الى الاهداف المنشودة، وإلا فمن الممكن ان يكتفي الانسان بأداء فريضة الصيام، وهو ملتزم بالاحكام الشرعية الخاصة بالشهر الكريم، ويكون بين افراد عائلته يتناول طعام الاسحار، ثم طعام الافطار، ثم يتوجه الى المسجد القريب من بيته، ويستمع الى محاضرة دينية ثم يعود الى بيته وينتهي كل شيء، فهذا لن يصل الى هدف، ولن يساعد أحداً على تحقيق هدفه، ولن يُعطى ثواب العاملين والمجاهدين، إنما يجب على طالب العلم المبادرة في التحرك قبل ان يدعوه أحد لقراءة مجلس رمضاني، او لعمل ما، فهو الذي يجب ان يبادر، باقامة المجالس، او تنظيم الشباب ونشر الثقافة والوعي في نفوسهم لتحصينهم من الانزلاق نحو الاحزاب الكافرة .
فاذا ذهب أحدكم الى مدينة معينة، فوجد فيها مجلساً للذكر، عليه أن يكون هو صاحب المجلس الثاني، وحتى الثالث لمزيد من نشر الوعي والثقافة في اوساط المجتمع".
هل استوفيت الشروط؟!
من يذهب الى مكان ما ليقدم مجالس ذكر ووعظ في شهر رمضان المبارك، بل وفي سائر أيام السنة، او من يتوجه الى مسجد او حسينية، او أي مركز ثقافي وديني، سيواجه التساؤل الكبير من بعض المحيطين به: هل استوفيت الشروط الكاملة لمهمة التبليغ، من دراسة وبحث ومطالعة؟
انه سؤال جدير بمهمة التبليغ، ولكن؛ هل يكون عقبة امام تحرك المبلغين نحو الساحة الثقافية في الوقت الراهن؟
هذه الشروط لابد من توفرها في "المبلغ المثقف" كونه يخاطب ضمير المجتمع، ويتحدث الى العقول والنفوس لإثارتها وبعث الحياة فيها، وهذا يحتاج، قبل كل شيء، الى مواصفات ذاتية تنمو في نفس الانسان المبلغ؛ منها الاخلاص، والايثار، والصدق، والامانة، وغيرها من المواصفات التي تبعث فيه روح المواجهة في طريق ذات الشوكة، وإلا فان هنالك الكثير من العلماء والمتخصصين والاساتذة ممن قضوا سنوات مديدة من عمرهم في الدراسة والبحث وبلغوا مراحل عالية من العلم، بيد ان ما اكتسبوه من العلوم والمعارف لا يلامس أرض الواقع، ولا يتحول الى افكار لمعالجة المشاكل والازمات التي يعيشها اخوانهم من افراد المجتمع الآخرين، ونحن نتذكر دائماً الحديث الشريف: "زكاة العلم نشره"، وتأكيدات وافرة من المعصومين، عليهم السلام، على نشر العلم والمعرفة بين الناس في أي مستوى كان، ربما منها علوم القرآن الكريم، فقد جاء في الحديث النبوي: "خيركم من تعلّم القرآن وعلمه"، فهل تعليم القرآن الكريم بحاجة الى شهادة جامعية، او مرحلة عليا من الدراسة في هذا المجال لنأت الى من لا يُحسن القراءة ونعلمه؟!
الحاجة الى إصلاح الظواهر الاجتماعية، او نشر الافكار الصحيحة، تبدأ من حالات بسيطة في الشارع والسوق والدائرة الحكومية وفي كل مكان. وهذا يحتاج لروح التصدّي وشجاعة تحمل المسؤولية، طبعاً؛ من الطبيعي أن الطامح الى التغيير الحقيقي لابد وأن يتوفر على قدر من الحكمة والموعظة الحسنة، ويعرف كيف يجادل بالتي هي أحسن، ولا ينزلق في المهاترات والمغالطات والحروب الكلامية التي تبعده عن هدفه الحقيقي.
وهل تمت دعوتك...؟!
من اللافت جداً، ونحن نستمع الى هذا المقطع الصوتي القصير للإمام الشيرازي، تغيّر نبرته وهو يتلفظ كلمة "دعوة"، مستنكراً وجودها في اوساطنا!
في حالات كثيرة، ربما نجد الكثير ينطلق في أعماله الخاصة التي يجد فيها مصلحة معينة فلا يتردد لحظة، ولا ينتظر دعوة أحد، كأن يتعلق الأمر بمصير أولاده، أو بوظيفته الحكومية، أو بتجارته، نلاحظ الحرص على استباق الآخرين للأحسن والأكثر وعدم التخلف عنهم.
ولو القينا نظرة خاطفة على التاريخ المعاصر لجهاد المنبر في العراق، نجد أن روح الإيمان في المجتمع اليوم يعود بالفضل فيها لاشخاص لم يفكروا بأي شيء سوى بنشر الوعي والثقافة والفكر الأصيل في أي مكان يتمكنون من الوصول اليه، غير عابئين بالتحديات والمنغّصات، ومن الأمثلة على ذلك؛ حملات التبليغ الرائعة التي كان يقودها الخطيب الشهيد عبد الزهراء الكعبي الى محافظة "صلاح الدين" وتحديداً الى قضاء بلد، والى جوار مرقد السيد محمد بن الامام الهادي، عليهما السلام. حيث لم يكن يذهب بمفرده، وإنما كان يعبئ الثلّة المؤمنة من أهالي كربلاء المقدسة، ويجهّز السيارات التي تحمل الزائرين ومعهم الشاي والسكر والحلويات واقداح الشاي وكل مستلزمات إقامة المجلس الحسيني، لعدم وجود هذه المواد هناك في بداية السبعينات من القرن الماضي.
كم هو الفارق بين من يتوجه الى مدينة ما، وهو يحمل مبادرة تشييد مكتبة، أو بناء مدرسة، او إقامة مجالس او ندوات أو دورات، وبين من يتوجه لاقامة المجالس الرمضانية وحتى الحسينية في شهري محرم وصفر، وفي سائر ايام السنة، بعد سلسلة من الاتفاقيات تسبقها دعوة خاصة؟
نعم؛ لكل هذه المجالس المعدّ لها سلفاً، من حيث المكان والاضاءة والتصوير والبث المباشر وغيرها من الامكانات، فوائدها وآثارها في نفوس ابناء المجتمع، ولكن؛ تبقى المبادرة الشخصية ذات طعم خاص ومكان مميز في النفوس، لانها تعبر عن حرص خاص ايضاً على التقرّب مما يعيشه الناس، وما يعانوه من مشاكل في التربية والعقيدة والاخلاق التي يفترض ان تكون ذات أهمية أكبر من المأكل والملبس وسائر الامور المادية.
اضف تعليق