إن للقرآن الكريم فلسفة واقعية إزاء الانسان لا تجانب العقل والمنطق، إنما تكشف حقائق تشكل مع حقائق أخرى في الوجود والحياة منظومة معرفية متكاملة تعطي كل شيء حقه في هذه الحياة...
جاء في حديث للإمام الباقر، عليه السلام: "لكل شيء ربيع، وربيع القرآن شهر رمضان"، فاذا كان الربيع في الطبيعة، تفتح الازهار واخضرار الارض والاشجار، فان ربيع القرآن له علائم عدّة في هذا الشهر الفضيل، تتعلق بالعلاقة بين العبد وربه، وبين العبد ونظيره وتنظيم العلاقات البينية والاجتماعية بما يحقق السعادة للجميع، وايضاً للانسان نفسه نسمة من هذا الربيع القرآني الباهر يستفيده لإعادة الحسابات فيما بينه وبين نفسه للنظر في مواطن الخلل لإصلاحها، او احتساب الايجابيات ومحاولة تكريسها وتعميمها في السلوك والفكر لضمان مسيرة سالمة من الانحرافات والاخطاء في الحياة.
إن للقرآن الكريم فلسفة واقعية إزاء الانسان لا تجانب العقل والمنطق، إنما تكشف حقائق تشكل مع حقائق أخرى في الوجود والحياة منظومة معرفية متكاملة تعطي كل شيء حقه في هذه الحياة.
وفي كتابه "بحوث في القرآن الكريم"، يبين المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي، أن نظرة القرآن الكريم الى الانسان نابعة من نظرته العامة الى الحياة، وذلك من خلال ثلاث حقائق:
الحقيقة الاولى: وجود جوانب ايجابية وأخرى سلبية في شخصية الانسان، فالجوانب الايجابية موهوبة له من الله –تعالى-، بينما الجوانب السلبية فهي ذاتية ومن صنع نفسه.
الحقيقة الثانية: كفاح الانسان نحو الجوانب الايجابية والابتعاد عن الجوانب السلبية، وأن كل القيم والمفاهيم الموحى بها اليه، تمثل وقوداً لهذه المسيرة، إن في جانبها الفردي او الجماعي، وقافلة الحضارة تتابع ذات المسيرة الشاقة والطويلة حتى تبلغ مرحلة الانتصار والتفوق على الجوانب السلبية في الذات الانسانية.
الحقيقة الثالثة: واقع الثنائية في حياة الانسان، فهناك خير وشر، وحق وباطل، وحسن وقبيح وهكذا... وعلى اساس هذه الحقيقة تبحث العلوم الانسانية في موضوعاتها من خلال جانبين: – يقول المرجع المدرسي- "جانب الكشف وجانب التوجيه، ورغم ان جانب الكشف هو قاعدة الجانب الثاني، فان هذا الاخير ايضاً هدف الجانب الاول الذي ينشأ من تناسيه الفوضى في مسيرة علم معرفة الانسان، فالثنائية في حياة الانسان، تمثل البداية الطبيعية لعلم النفس، أما علم الاخلاق فهو الأضواء المشعة التي تكشف جوانب هذه الثنائية، وتحاول وضع معالم في سبيل الفرد نحو التفوق ضد الجوانب السلبية".
"علم النفس القرآني" يكشف الحقائق للانسان
والمشكلة الفكرية التي سقط فيها معظم الفلاسفة، تطرفهم في تقييم الحالة النفسية للانسان، فبعضهم قال بان النفس البشرية لا يمكن ان تكون مصدراً للشر، فيما قال آخرون عكس ذلك، في حين ان وجود الطبيعة الشريرة في الانسان لا تنافي وجود الطبيعة الخيّرة الموهوبة من الله له، إنما هنالك محفزات في الحياة تجعل الانسان مخيراً بين التوجه لأن يكون انساناً خيراً، او انساناً شريراً، ولذا نجد أن النفس الانسانية تضم العصبية الى جانب الايثار، كما تضم الشهوة الى جانب التعفف، والرياء الى جانب الاخلاص، وهي أمور واقعية من صميم تكوين الانسان، وقد اشار القرآن الكريم الى هذه الحقيقة مراراً في غير آية كريمة، والشعار القرآني الكبير في هذا السياق: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}، (سورةالانسان، الآية3).
ومن العوامل المساعدة على ذلك؛ التربية والاخلاق والعقوبات والضغوط وغيرها، مما يساعد الجانب الايجابي للتغلب على الجانب السلبي في معترك متواصل في حياة الانسان تشير اليه الآيات المباركات من سورة الشمس: { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا}.
وفي تحليل النفس الانسانية في مضمار السباق نحو النجاح والتفوق، تتجلى الانتكاسات في الأمم السابقة في تغليبهم الجانب السلبي على الايجابي عن سبق إصرار منهم، كما في قصة قوم ثمود التي تتحدث عنها الآية القرآنية فان "النفس تعرف الفجور وتعرف كيف تبقى فيها وتتخلص من سيئاتها، ولكنها تسير ناحية التزكية حيناً وناحية الدسّ والنفاق حينا، وأي الناحيتين سارت فهي نابعة من قوة متأصلة فيها، فعشيرة ثمود حيث اختارت الضلالة فانما اختارتها بطغواها، فهي طغت بالنعم، والطغيان بالنعم، حقيقة معترف بها في الاسلام وسنّة اجتماعية، ولكن القرآن الكريم من جانب آخر يدين ثمود لانها كانت تستطيع الافلات من قيود هذه السنّة الاجتماعية وتستجيب لنداء رسولها فلم تفلح، فعوقبت ودمدم عليهم ربهم فسواها. والعقوبة ذاتها نابعة من التخيير في الاسلام، فلولا اعتقادنا بامكانية ثمود التمرد على سنن الكون لما حسنت العقوبة ولا حتى الادانة".
ويبدو هذا يعطينا مصداقية عملية لفلسفة الاسلام بما يقوم به الانسان في حياته، وهو ما كشف عنه الامام الصادق، عليه السلام، بأن الانسان ليس مخيراً ولا مسيراً إنما هو "أمرٌ بين أمرين"، وتتدخل عوامل عدة لمساعدته على تلمس طريق الفلاح والنجاح، مثل التربية والوراثة وجهوده الذاتية، وايضاً؛ تحكيمه العقل لكشف الحقائق والتمييز بين الثنائيات وعدم القبول بالتناقضات.
الأخلاق والتوجيه نحو الفلاح والتقدم
وعلى اساس قاعدة الثنائية نفسها التي يذكرنا بها القرآن الكريم في الجانب التوجيهي، تبدو لنا معالم الطريق نحو النجاح والتقدم، من خلال الاخلاق الفاضلة التي تتمثل في الشخصية التي تعكس حقيقة النفي والاثبات في الانسان وتعمل بوحي هذه الحقيقة.
والاخلاق الفاضلة انما تكون طريقاً لنجاح الانسان في حياته، إنما من خلال "العمل وفق محور اليأس والرجاء؛ اليأس من كل شيء على أنه موجود ناقص وعاجز وجاهل بالذات، وانه لايملك نفعاً ولاضراً، والرجاء بالله –تعالى- واليأس من القوى الموجودة سواه –تعالى- ويقول السيد المدرسي: ان "محور اليأس والرجاء بمعناه العام يصنع الشخصية القرآنية التي تتمتع بالاعتدال في السلوك، والاستقامة في الرأي، لانه يعكس حقيقة الكون بصورة دقيقة، فلا يغرّ بما يملك، ولا يتوانى عما يطمع، ويأسه عن المخلوق يعطيه مناعة عنه، ورجاؤه في الخالق يزيده عملاً له".
إن الحرية الفكرية التي يبشر بها القرآن الكريم للإنسان توجهه نحو كل ما هو خير له، بشرط أن يختار هذا التوجه بإرادته من خلال التحلّي بالصفات الاخلاقية تكشف ماهية الجوانب الايجابية وتميزها عن الجوانب السلبية، وتبين له فوائد الصبر والشكر والتسامح والتعاون والتآخي وغيرها من المفاهيم، كما تبين له مآلات الكفر والطغيان وعدم احترام الآخرين.
اضف تعليق