الملاحظ اليوم وجود بصمات في أذهان البعض مما صنعه صدام طيلة ثلاثة عقود من حكمه المشحون بالقمع والرعب، كما فعل أمثاله من الحكام فيما مضى من الزمن، وفي التاريخ المعاصر، لتكريس مشاعر الاستضعاف الوهمي في نفوس الناس حتى لايفكروا يوماً بالقوة، فيقبلون بهذا الواقع، حتى وإن كانوا أغنياء بالعلم والتاريخ...
الملاحظ اليوم وجود بصمات في أذهان البعض مما صنعه صدام طيلة ثلاثة عقود من حكمه المشحون بالقمع والرعب، كما فعل أمثاله من الحكام فيما مضى من الزمن، وفي التاريخ المعاصر، لتكريس مشاعر الاستضعاف الوهمي في نفوس الناس حتى لايفكروا يوماً بالقوة والمَنعة، فيقبلون بهذا الواقع، حتى وإن كانوا أغنياء بالعلم والتاريخ والثقافة.
{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}
سورة الزخرف، الآية:54
الوسائل السريعة تستهوي ذوي الاهداف الكبيرة المتعلقة بقضايا مثل؛ الحرية، والعدالة، بغية تحقيق هذه الاهداف، او على الأقل؛ التخفيف من وطأة ما يتعرضون له من قمع وظلم من خلال استعطاف الآخرين وكسب تضامنهم، ومن ثمّ تعبئة الساحة وخلق رأي عام يستنصرهم، وربما يأخذ لهم حقهم.
وهذا يتم من خلال إظهار حالة التظلم، وإثارة مشاعر انسانية تتحول الى موقف تضامني لمشهد استقواء شخص على آخر أقل قدرة منه، بما يرسم صورة للظلم يرفضها كل صاحب ضمير واحساس، كما لو أن رجلاً يركل طفلاً صغيراً على الرصيف أمام الأنظار، فان ردود الفعل ستكون سريعة ضده بلا ريب، او حتى اضطهاد حيوان أليف، كما يحصل كثيراً هذه الايام مع الحيوانات الأليفة في الشارع مما يثير ردود فعل كثيرة، لاسيما على وسائل التواصل، وفي وسائل الاعلام.
هل الاستضعاف قَدَر؟
نزعة الظلم ملازمة للانسان كحالة نفسية تتغوّل مرضياً عندما يعاضدها المال والقوة السياسية والاجتماعية، فيكون الفاقد لهذه القوى، الضحية بكل تأكيد، وهذه الحالة يصفها القرآن الكريم "بالاستضعاف"، بيد أن هذا ليس كل شيء، فالسنن الإلهية الصانعة للمعادلات الحقيقية في الحياة، لا تسمح للظلم بأن يتسيّد الموقف مهما بلغ سطوته، بينما تقدم فرص ذهبية للمظلوم لأن يثبت وجوده ويستمد قواه من عناصر عدّة يذكرها القرآن الكريم، ويؤكد على الفارق بين التظلم والاستضعاف، فالحالة الأولى؛ تعبير طبيعي لحالة مفروضة من الخارج، بينما الثانية؛ حالة تطبيعية داخلية تبرر الواقع المؤلم وتسعى للاستفادة منه على مر الزمن بدعوى "قدرية الاستضعاف"، لاسيما وأن الانسان بشكل عام يفكر بما هو قريب منه، وما لديه من قدرات فعلية، وليس بوسعه دائماً التطلع الى المستقبل واحتمال تغيير الحال، وأن يتحول من كونه مظلوماً الى منتصراً، والظالم يُصار الى خلف القضبان.
ورغم مرور سنوات على انهيار نظام ديكتاتوري كنظام صدام في العراق، بيد أن الملاحظ اليوم وجود بصمات في أذهان البعض مما صنعه طيلة ثلاثة عقود من حكمه المشحون بالقمع والرعب، كما فعل أمثاله من الحكام فيما مضى من الزمن، وفي التاريخ المعاصر، لتكريس مشاعر الاستضعاف الوهمي في نفوس الناس حتى لايفكروا يوماً بالقوة والمَنعة، فيقبلون بهذا الواقع، حتى وإن كانوا أغنياء بالعلم والتاريخ والثقافة وحتى المال لشريحة معينة، ولنا أن نعرف كيف نجح أولئك الحكام في مسعاهم حتى نعرف طريق النجاح بالتخلص من هذه المشاعر الى الأبد:
1- الفقر المادي لشريحة واسعة من الناس، وعدم السماح لهم بتجاوز هذه الحالة الى الغنى وتملك الثروة إلا بإذن من الحاكم، وإن حصل هذا التملك لاسباب مختلفة، فان الدوائر تدور عليه للإيقاع به بمختلف الطرق لإبعاده عن الساحة، ولئلا يضفي نسمة قوة على ابناء مجتمعه اذا كان تاجراً في السوق، او صاحب مصنع، او مزرعة ضخمة.
2- الخوف والقلق من أمور عديدة معظمها وهمية، كأن يكون التعرض لخطر داهم من دول قريبة او بعيدة تتربص بالبلد وبشعبه وخيراته، او من جماعات خارجة عن القانون، كأن يكونوا قطاع طرق، او جماعات ارهابية، او ربما افراد مجرمين محترفي القتل وغيرها من السيناريوهات، فهو (الحاكم الديكتاتور) يتحدث عن الأمن والاستقرار المنتشر في كل مكان بفضل وجوده في السلطة، ولولاه لسادت الفوضى وانعدمت الحياة الطبيعية.
3- الجهل والتخلف الذي يكون دون القدرة على توظيف العلم والمعرفة لتغيير الواقع الاجتماعي ثم السياسي، وإلا فانه لايرى بأساً من التعليم في المدارس والجامعات، بل وحصول الطلاب على الشهادات العليا، ويكون في البلد الدكتور والمهندس والمحامي والإداري، وحتى علماء في ميادين مستحدثة مثل؛ علوم الكيمياء، والفيزياء النووية، وعلم الجينات، والفضاء، إنما يكون كل هذا في خدمة النظام الحاكم فقط، أما عامة الناس فليبقوا على سطحيتهم العلمية والمعرفية.
أول حاكم من جرّب الاستضعاف بنجاح في التاريخ البشري؛ فرعون مصر في عهد النبي موسى، عليه السلام، فقد كشفه القرآن الكريم للبشرية وكيف أنه {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}، (سورة الزخرف، الآية54)، هكذا وبكل سهولة انتزع منهم الكرامة، وهي أعزّ ما يملكه الانسان معنوياً، فهان عليه استضعافهم وقيادتهم بشكل مُذل، قبل أن تأتي رسالة السماء الداعية الى الكرامة الانسانية، وما تتضمنه من حرية، وعدالة، فيكتشف بنو اسرائيل إن بإمكانهم التخلص من العذاب المهين على يد فرعون ونظام حكمه إذا توفرت لديهم شروط النهضة والإيمان برسالة نبي الله موسى، عليه السلام.
وفي القرآن آيات صريحة تخاطب الناس أجمعين عبر التاريخ أن الاستضعاف ليس قدرهم مطلقاً، ولم يخلق الله –تعالى- الانسان ليعيش مهاناً وضعيفاً تحت سطوة الأقوياء، إنما الاستضعاف حالة طارئة من نتاج التخاذل والتقاعس، نقرأ في الآية الكريمة مشهداً من يوم القيامة لأناس يفترضون البراءة لانفسهم مبررين موقفهم بأنهم مستضعفون: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً}، (سورة النساء، الآية97).
أروع التجارب من الإستقواء
نجدها في منهج الأئمة المعصومين، عليهم السلام، وحتى قبلهم في سيرة رسول الله، ومن بعده، الصديقة الزهراء، الذين حولوا واقع الضعف المادي الى قوة معنوية قاهرة تصاغرت دونها قوى المال، والسلاح، والتضليل، فنحن نقرأ في تاريخ المعصومين، عليهم السلام، محاولات جادّة وعنيدة من الطغاة لانتزاع عناصر القوة منهم، وكانت البداية سياسياً في سلب الخلافة والحكم، ثم اقتصادياً بسلب أرض فدك الزراعية الغنية جداً، واستمر الحال مع الأئمة المعصومين خلال الحكم الأموي ثم العباسي بيد إن هذا لم يكن مبرراً لقبولهم، ومعهم المؤمنين، بواقع الاستضعاف أمام الظلم، فبدلاً من المراوحة في مكان الاستضعاف والتظلّم، كانوا يتقدمون في الساحة لفضح الظلم المختفي دائماً خلف عناوين مختلفة حسب الظروف، ففي تلك الفترة كانت الشرعية الدينية، وخلافة رسول الله، ثم جاءت الديكتاتوريات السياسية والانظمة المدعية الدفاع عن حقوق الانسان وعن قيم الحرية والعدالة، وحتى اليوم، عندما نرى تحت عنوان "الديمقراطية" يتم الترويج لقوانين تعرض الانسان والشعوب لمظالم وانتهاكات مريعة، ولا أدلّ على هذا من الإصرار على ترويج ثقافة الاباحية الجنسية، والتغاضي عن كرامة المرأة ومكانتها الحقيقية.
الخطوة الأولى رفعها المعصومون، عليهم السلام، بكشفهم حقيقة الحكام في زمانهم، ومن يسير على نهجهم الى يوم القيامة، ما خلا بعض المحاولات الترقيعية لمؤسسات ثقافية تابعة لانظمة حكم مشابهة، تبقى الخطوة الاخرى؛ تقديم البديل النموذجي المتكامل كما وضعوا –عليهم السلام- خطوطه العريضة، فيما يتعلق بكل مفاصل الحياة، وفي مرحلة لاحقة؛ التطبيق العملي، ولو بشكل تدريجي في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وبكل ثقة واعتداد بالنفس، وهذا من شأنه، ليس فقط الانتقال من حالة التظلّم والاستضعاف، بل والتحول الى مرحلة القوة الندّية مع القوى الأخرى في الساحة التي ستحسب ألف حساب قبل ان تفكر بالتطاول على أي بلد مسلم، ومنه؛ العراق، ليس فقط عسكرياً وسياسياً، بل وحتى ثقافياً وفكرياً ايضاً.
اضف تعليق