دون أن نتكلف حتى عناء البحث عن السلع التي تلوح لنا في إعلانات لا تتوقف عبر الإنترنت. من الصعب فعلا في عالم اليوم مقاومة الاندفاع إلى الشراء، خاصة أمام مستويات جديدة من التلاعب تلجأ إليها المتاجر عبر الإنترنت، فكيف لك أن تواجه وحدك تكتيكات نفسية...
بقلم: آية ممدوح
"إن عقولنا عجينة طرية من السهل أن تؤثر عليها الأصوات الخارجية التي تخبرنا بما ينبغي أن نفعله لنشعر بالرضا، تلك الأصوات التي قد تطمس الأصوات الخافتة المنبعثة من داخل نفوسنا وتُلهينا عن مهمتنا الدقيقة والمجهدة؛ أن نحدد أولوياتنا بمنتهى الدقة".
(آلان دو بوتون، قلق السعي إلى المكانة) (1)
كان بوسعنا فيما مضى الحديث عن طرق بسيطة نوعا ما لمقاومة الرغبة في الشراء؛ لا تذهب للتسوق إلا إذا كنت في حاجة إلى شراء شيء بعينه، لا تذهب وأنت جائع، ولا تتجول في المتاجر أيام التخفيضات ما لم تكن تبحث عن شيء معين، لكن مهمتنا تزداد صعوبة في عصر يمكننا التسوق فيه طوال 24 ساعة يوميا، من المنزل، ودون أن نتكلف حتى عناء البحث عن السلع التي تلوح لنا في إعلانات لا تتوقف عبر الإنترنت. من الصعب فعلا في عالم اليوم مقاومة الاندفاع إلى الشراء، خاصة أمام مستويات جديدة من التلاعب تلجأ إليها المتاجر عبر الإنترنت، فكيف لك أن تواجه وحدك تكتيكات نفسية وضعها خبراء بعناية فائقة لتغريك بإنفاق أكبر قدر ممكن من المال؟
الحيل النفسية تترصد بك
بينما تتصفح مواقع مختلفة لتنجز أعمالك أو لتطالع الأخبار، تظهر لك الإعلانات وتُغريك بالنقر عليها لتشاهد تفاصيل أكثر وتشتري السلعة التي "ستحقق لك السعادة"، وهكذا تنجرف إلى الشراء وتدع جانبا كل التعقيدات التي تعرفها حول ميزانيتك. في الواقع، فإن ما يحدث قبل ذلك على الجانب الآخر، قبل أن يظهر لك الإعلان لتكون مدعوا للنقر فقط، أمر معقد فعلا، لقد جرت مناقشة طويلة بين مصممي الإعلان لاستخدام إحدى الحيل النفسية المصممة بعناية كي تجذبك للشراء.
في دراسة نشرتها مجلة "Proceedings of the ACM on Human-Computer Interaction" عام 2019، تناول الباحثون ما سمّوه بـ"الأنماط المظلمة" (Dark Patterns) التي تستخدمها المنصات الرقمية ومواقع التسوق لإكراه أو توجيه أو خداع المستخدمين ودفعهم لاتخاذ قرارات غير مقصودة وقد تكون ضارة أحيانا، مثل الاشتراك في خدمات أو إجراء عمليات شراء غير مرغوب فيها، أو خداعهم للكشف عن عدد كبير من البيانات الشخصية، أو دفعهم لسلوك قهري مثل الإدمان.
كشف الباحثون كيف تُسيء الشركات استخدام القيود والتحيزات المعرفية من أجل الربح فيما أطلقوا عليه "التلاعب بالسوق". يحدث ذلك من خلال دفع المستخدمين لاتخاذ قرارات مختلفة من المعلومات نفسها بناءً على الكيفية التي تُقدَّم لهم بها تلك المعلومات، إلى جانب أنماط مثل الإلحاح باستخدام العدّ التنازلي الذي يحذر من انتهاء عرض التخفيض على سلعة ما. (2)
تبدأ الحيل النفسية باستخدام الألوان الجذابة، وتتقدم لتعرف كل ما تهتم به، يستخدم المعلنون أداة "فيسبوك بيكسل" (Facebook Pixel) لجذب انتباه العملاء المحتملين، فيتتبَّعون الصفحات التي تزورها للتعرف على السلع التي شاهدتها ولم تشترِها بعد، هذا هو السر في أن فيسبوك يعرف ما تنوي شراءه ويحاصرك بإعلانات عنه. بعدها تسعى الإعلانات إلى إقناعك بأن اقتناء السلعة ذات العلامة التجارية المعروفة هذه أو تلك سيمنحك التميز، وستكون منتميا إلى جماعة من المميزين، فلماذا لا تنقر على "الشراء" لتصبح أحد أفراد تلك المجموعة.
يكون لوضع السعر أيضا سر آخر في إقناعك، يستخدم المعلنون التسعير النفسي بحيله المتعددة التي تضمن استجابة اللا وعي وتشجع على الشراء، ومن بينها مثلا وضع الرقم "599" بدلا من "600"، السعر الأول أكثر جذبا ويُبدي معه المشترون استعدادا أكبر للدفع، إلى جانب حيل أخرى منها تثبيت سعر أعلى في ذهن العميل أولا، فيبدأ الإعلان بمنتج باهظ الثمن ليبدو لك أن هذا هو سعره الحقيقي؛ بذلة رياضية بسعر 1500 على سبيل المثال، ثم يعرض لك الإعلان بذلة أخرى بسعر 1200، فتبدو لك صفقة جيدة، وتصبح بسهولة أكثر اقتناعا وإقداما على الشراء مما لو شاهدت إعلان البذلة الثانية وحده.
يتبع المعلنون تقنية أخرى لدفعك لاتخاذ قرار بشكل أسرع، يُقدِّم الإعلان أحيانا وقتا محدودا قبل انتهاء عرض التخفيض أو عدد القطع المتاحة من المنتج، يغريك بالشراء حتى لا تفوِّت الفرصة، وساعتها تكون الندرة والخوف من فوات الفرصة هي ما يدفعك لاتخاذ قرار الشراء.
كما تستدعي الإعلانات الأشخاص ذوي الهيبة والسلطة لمزيد من التأثير؛ طبيب بمظهر جذاب يرشح منتجا ما، إنه ما يُطلق عليه "تأثير المعطف الأبيض" (White Lab Coat Effect)، وهو يضمن استجابة سهلة، ويجعلك أكثر استعدادا لشراء المنتج بأقل قدر من البحث وبكثير من الثقة؛ عبارة مثل "9 من كل 10 أطباء يوصون به" تقطع مسافة طويلة في إقناعك، وبسهولة.
وتتمثل آخر الحيل في إرغامك على مشاهدة الإعلان لعدد من الثواني، في الفيديوهات مثلا، أو عرض جزء الإعلان ومن ثم إتاحة خيارين لك؛ عرض باقي الإعلان أو إلغاؤه، يعتمد المعلنون هنا على أنك بنسبة كبيرة ستضغط على عرض الإعلان إذا كنت مهتما. دعوات الاستهلاك وإنفاق المال تحاصرك بالفعل إذن، فكيف تتوقف عن شراء ما لا تحتاج إليه؟ (3)
كيف تتوقف عن التسوق القهري؟
دعنا ننتقل إلى الجانب الآخر، جانبك أنت، لنتعرف على الظروف التي تقوى فيها رغبتك في الشراء، ومتى تحديدا تصبح أكثر عُرضة لأن تنفق المال على شيء لا تحتاج إليه في الحقيقة؛ يحدث هذا في الغالب حين تكون متوترا، الإجهاد يُسبِّب لك شعورا بعدم القدرة على التحكم في بيئتك، وإحدى الطرق التي تُشعرك بأنك تستعيد زمام السيطرة هي الاقتناء. (4)
كشفت دراسة نشرتها "جورنال أوف ماركتينج ريسيرش" (Journal of Marketing Research) عام 2016 أننا ننفق المال بشكل أكبر عندما نشعر بالتوتر، إذ تفرز أجسامنا هرمون الكورتيزول الذي يساعدنا في الاستجابة بشكل أسرع للتهديدات التي تواجهنا، وفي بيئة تتعاظم فيها مسببات القلق، النفسية والجسدية، تجد الإعلانات طريقها إلينا. (5)
كان ما حدث في بداية انتشار وباء "كوفيد-19" من اندفاع الناس لشراء العديد من المنتجات وتكديسها مثالا ممتازا لهذا الدافع، اقتناء المزيد من المنتجات التي نستهلكها يوميا يمنحنا الشعور بالسيطرة، نتحدث هنا عن أشياء ضرورية ربما -وإن كانت لا تتعلق بالسبب الحقيقي للتوتر حينها وهو انتشار الوباء- لكنها مَثَّلت مصدر أمان في مواجهة قلق لم نعتده.
التوتر يدفعنا إلى المزيد من الإنفاق على أشياء غير ضرورية أيضا، ويعود هذا إلى أننا لا نُجيد في الواقع تقدير ما نحتاج إليه بالفعل، وما هو ضروري حقا؛ ومن هنا تحديدا ينفذ المسوقون إلينا، فيُصوِّرون لنا ملابس أو منتجات كمالية على أنها ضرورية، هذا لأنها "تلبي احتياجات نفسية عميقة" كما تُصوِّر لنا الإعلانات، التي تجعل السلع والمنتجات "تمنحك الأمان" أو "تغير حياتك" أو "تجذب إليك الأصدقاء".
وإلى جانب رغبتنا في الشعور بالسيطرة على البيئة الذي يدفعنا نحو الشراء الاندفاعي، تظهر مشكلة أخرى عندما يتمكن منا الشعور بالتوتر أو التعب أو القلق؛ حيث يكون من الصعب اتخاذ قرارات عقلانية، أضِف إلى ذلك ما ذكره عالم الأعصاب تيري وو في إحدى حلقات سلسلة "Your Brain on Money" حول أن الدماغ البشري ليس آلة تفكير تشعر، ولكنه في الحقيقة آلة شعور تفكر، بما يعني أننا إزاء رغبتنا الفطرية في السيطرة على البيئة نتوقف عن اتخاذ قرارات عقلانية في عمليات الشراء.
الخبر الجيد أن بإمكانك السيطرة على الأمور. بداية، حاوِل التقليل من الشعور بالتوتر من خلال ممارسة الرياضة حتى لا تدع هذا الشعور يدفعك إلى الشراء فقط لمجرد تخفيف حِدَّته، ولا تجعل التسوق إحدى وسائل الترفيه، وتسوَّق فقط عندما تكون بحالة مستقرة، لا تشترِ باندفاع في حالات الحزن أو التوتر أو التعب، إذ لا تكون حينها قادرا على التفكير المنطقي في الشراء، وتذكَّر أن التسوق حينها قد يُحسِّن مزاجك -قليلا في تلك اللحظة- لكن تبعاته الأكبر ستستمر طويلا، وقد يعود إليك الشعور بالتوتر والندم لأنك تسرعت بالشراء. (6)
لا تدع سعادة الدوبامين تخدعك
يمنحنا التسوق الإلكتروني إشباعا فوريا لم نختبره سابقا لكل رغباتنا، بوسعك اقتناء ما ترغب به في التو واللحظة، تغمرك السعادة مرتين في الحقيقة؛ مرة عند النقر فوق "شراء" والأخرى بعد أن يصل إليك المنتج، هكذا يغمرك الدوبامين مرتين وتشعر بالرضا. (7)
ماذا إذا ظهر لك للتو إعلان جذاب لشراء قطعة ملابس أو زوج من الأحذية، وانتابتك رغبة عارمة في الشراء؟ حسنا، أضفه إلى قائمة الرغبات مؤقتا وتمهَّل. وبعد أن تجمع العناصر التي تود اقتناءها في سلة التسوق عبر الإنترنت وقبل إتمام أي عملية شراء، انتظر مثلا يوما أو يومين لتُقرِّر ما إذا كانت ضرورية أم لا، قبل أن تُقْدِم على الشراء اسأل نفسك: هل أحتاج إلى هذا حقا؟ هل لدي شيء مشابه؟ لماذا أقوم بهذا الشراء؟ (8)
تذكَّر هنا أن الاعتياد على الإشباع الفوري، خاصة باستخدام بطاقات الائتمان، يعني معاناة الألم المتأخر لهذا الإنفاق غير الضروري. (9) يمكن أن يفيدك هنا أيضا تذكُّر ما أشار إليه الكاتب آلان دو بوتون في كتابه "قلق السعي إلى المكانة" حول عجز أي غرض مادي عن تغيير مستوى سعادتنا لفترة طويلة، إذ سرعان ما تصبح أي سلعة مهما كانت كبيرة ومهمة، مثل اقتناء سيارة مثلا، شيئا اعتياديا وتصير "شأنها شأن إحدى العجائب الأخرى التي امتلكناها من قبل، قابعة في الخلفية المادية لحياتنا وتندمج ذائبة فيها ولن نلتفت لوجودها إلا قليلا". (10)
لتكن القرارات أبطأ
في هذا الجزء، سنكرر النصيحة ذاتها التي أخبرك بها المختصون من قبل عند الذهاب إلى السوق، لأنها -للمفاجأة- لا تزال فعالة إذا تعاملت معها بجدية. اكتب قائمة بما تحتاج إلى شرائه قبل التجول في أحد المواقع بهدف الشراء، وحدِّد الوقت الذي ستفتح فيه الموقع وتُسجِّل ما تود شراءه؛ نقصد هنا أن تحدد يوما أو أسبوعا واحدا مثلا لتصفح مواقع التسوق، وسوى ذلك أزِل التطبيقات من هاتفك ولا تنجرف للتسوق في أي وقت.
تجنَّب التسوق لمجرد التسوق في مواسم مثل الجمعة البيضاء في نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني، وفي الأعياد حين تطالعنا المتاجر بإعلانات الخصومات والتخفيضات، إذ غالبا ما تخرج بأشياء لم تكن تنوي شراءها، لكن الإحساس بأن الفرصة لا تُعوَّض يدفعك إلى شراء سلع لست في حاجة إليها لأنها لن تكون متوفرة -في اعتقادك- عندما تريدها، هكذا تتوسع القائمة التي حددتها سلفا وتمتلئ السلة بمشتريات أخرى. (11)
وللسبب ذاته ألغِ الاشتراك في العروض اليومية والقوائم البريدية، ففي الغالب ما نستقبل رسائل إشعارات من قبيل "اليوم فقط! خصم 30% + شحن مجاني!"، وغالبا ما تُغرينا بالفعل للاستفادة من العرض السخي. بالمثل، ينصح الخبراء بألا تحفظ معلومات بطاقات الائتمان الخاصة بك على المواقع المختلفة، سجِّل الخروج دائما ليكون لديك فرصة للتفكير في أهمية ما أنت مُقْدِم على شرائه، حينها أعِد إدخال الأرقام السرية لتضيف بعض التركيز على عملية الشراء.
عندما تقرر الشراء، وحتى لا تقضي ساع . .ات على موقع مثل أمازون وتكدس عربة التسوق بالكثير من السلع، استعن بتطبيقات مثل "StayFocusd" في تحديد الوقت الذي تقضيه في التسوق وتنبيهك كل 15 دقيقة، واهتم بقراءة مراجعات المشترين السابقين لتتمكَّن من الوصول إلى الصفقة الجيدة ومعرفة ما يستحق الشراء، وخصِّص بعض الوقت لمقارنة الأسعار في المتاجر الإلكترونية، فقد تتوصل إلى سعر أفضل أو ربما يساعدك الوقت في إدراك أنك لا تحتاج حقا إلى هذا المنتج من الأصل. (12)
الاستمتاع بالتسوق لا يعني أنك متسوق قهري، هناك أعراض تُشير إلى التسوق القهري، من بينها الانشغال بالتسوق وقضاء وقت طويل فيه، وصعوبة مقاومة الرغبة في شراء شيء ما، وتكديس أشياء غير ضرورية، ومواجهة المشكلات العاطفية بمزيد من الشراء، والإنفاق بشكل يفوق القدرات المادية مما يؤدي إلى مشكلات مالية وزوجية أحيانا أو مشكلات في العمل، وأخيرا حالة من الندم تعقب السعادة الغامرة التي يسببها الاقتناء، وغالبا ما يحاول المتسوق القهري إخفاء حقيقة سلوكياته المتعلقة بالتسوق لشعوره بالخجل منها. (13)
إذا لم تتوفر كل هذه الأعراض وكانت المشكلة لديك فقط هي استجابة لا تجدها مبرَّرة للإعلانات والشراء، فربما عليك فقط التعرف إلى أكثر الثغرات التي ينفذ لك المعلنون من خلالها، وتسجيل ما تنفقه بدقة، قد يساعدك هذا على التعرف على عاداتك السيئة في الشراء ومن ثم تجنبها، وحل الأمر تدريجيا.
في بعض الحالات يكون إدمان التسوق أمرا خطيرا بالفعل يتسبب لصاحبه في مشكلات مادية حقيقية، إذ يكون التسوق عادة لا تنقطع في مواجهة أي مشكلة عاطفية، وقد يتطور الأمر لأزمات ثقة تطول علاقته بالمحيطين به، لكن يمكن في معظم الأحيان الاستعانة بالعائلة والأصدقاء للتغلب على مشكلة التسوق وترشيد النفقات. (14)
اضف تعليق