ان الفرد الدارس الباحث للطبيعة الإنسانية، هو الباحث الأكثر بؤسا من بين كل الباحثين في الميادين والعلوم الأخرى، لا لشيء سوى لان الطبيعة الإنسانية أو البشرية كمجال وكميدان بحث صعبة وعسيرة من عدة نواحي أهمها على سبيل الاختصار لا الحصر: أن هذه الطبيعة يتحكم بها عقل (إدراك ومعرفة) ونفس (عاطفة وانفعال) ثم الجسد كمادة حية.
هذه الطبيعة مرنة، متغيرة، متقلبة، مختلفة من فرد لآخر، من مجموعة لأخرى، من شعب لأخر، ونحن ما يهمنا في مقالنا هذه الأخيرة الاختلاف ما بين الشعوب الذي هو مسلم به في العديد من المقومات والرموز (تاريخ، تقاليد، عرف، لغة، ديانة،.....) ولكن من الناحية النفسية وما أثار انتباهي كباحثة هو مدى اختلاف التركيبة النفسية مابين الشعوب؟؟ لست انثربولوجية، ولا مؤرخة، ولا عالمة اجتماع، إنما كنفسانية يثير اهتمامي هذا الاختلاف النفسي بين الشعوب.
نظرا لصعوبة الدراسة فيما يتعلق بدراسة نفسية عن قرب للشعوب والعراقيل المتمثلة في البعد المكاني، ونقص الإمكانيات فيها، ارتأينا بعد تمحص طويل وملاحظة دقيقة ومختبرة أن نستعين بالدراما المرئية كوسيلة لقراءة وتحليل التركيبة النفسية لكل شعب (بعض الشعوب كعينات). فكما هو معلوم عن الدراما هي عبارة عن معالجة للمشاكل الاجتماعية التي يواجهها ذالك المجتمع، فهي مسرح مصغر ممثل للمجتمع في ذلك البلد.
في الحقبة الأخيرة برزت العديد من القنوات ووسائل الإعلام التي أسفرت عن ثراء، وتنوع في الإنتاج من خلال الأفلام والمسلسلات سواء على التلفاز أو الانترنيت، لمختلف الدراما بمختلف جنسياتها، وتعدد لغاتها مع تعدد ترجماتها، ومن خلال كل هذا الكم الهائل من وراء الشاشات اخترنا عينات من الدراما كممثلة عن محيطها وعن شعبها، نقراها ونحللها نفسيا لنستجدي أهم ميزات وسمات كل شعب وتركيبته النفسية. وقد اخترنا (الدراما اليابانية، الكورية، الصينية، التايلاندية، الهندية) فيما يخص القارة الآسيوية، في القارة الأمريكية اخترنا كعينات (الدراما اللاتينية، ودراما الولايات المتحدة الأمريكية)، أما القارة الإفريقية فكانت (الدراما المصرية) lequins الصدارة في اختيارنا، ولنكتفي بهذا القدر من الدراما كعينة ملاحظة وتحليل.
أولا القارة الآسيوية:
مؤخرا في سنوات الألفية ظهرت دراما غنية ومتميزة للبلدان السابقة الذكر مع وجود ترجمات لها في المنتديات للعديد من اللغات.
1- الدراما اليابانية: هي دراما تتنوع بين مدرسية (تعالج مشاكل المراهقة ويومياتهم بسلبياتها وايجابياتها) وبين علمية (تعالج قصص الجرائم الغامضة وتكشف عن محققين عباقرة بارزين في هذا المجال لإيجاد الحلول والألغاز وفكها بطرق بارعة) وبين دراما فكاهية (فيها طرائف والقليل من استخفاف والاستهزاء الممزوج بالمتعة).
أول قراءة للدراما اليابانية أنها دراما بالفعل ممثلة ولكنها غير هادفة إلا في حالة بعض الاستثناءات...وتخبرنا هذه الدراما بطبيعة الفرد الياباني والشعب بصفة عامة انه شعب يميل إلى الطرافة، يستهويه الغموض وفك الأحجية الغامضة، وهو شعب عملي، محب للتعلم، يرى مرحلة المراهقة أهم وأجمل مراحل حياته التي يمكنه فيها التعبير عن مكنوناته والتصرف بحرية وعفوية قبل البدء في النضج أكثر وتحمل المسؤوليات. كما توحي لنا الدراما اليابانية أن الفرد فيها شخص ناجح في حياته بغض النظر عن مستوى معيشته، فمفهوم النجاح والتألق عنده مرتبط بمدى تفوقه في مجاله وبالتالي في حياته وفي تركيبته النفسية، كذلك هو شخصية غير انتهازية هادئة ودودة أناه الاجتماعي متوسط ان لم نقل دون المتوسط مقارنة بأناه النفسي، أما الجنس في الدراما اليابانية هو يشكل أساس اعتدالي لا مبالغ فيه ولا ناقص.
2- الدراما الكورية: هذه الدراما نجدها منقسمة بين التاريخية والحديثة، وهي كذلك دراما موحية تخبرنا بمدى تعلق الشعب الكوري بتاريخه وماضيه ورموزه، وتعطي لنا انطباعا عن الشخصية الكورية أن النجاح ليس له طعما إن لم يكن بشق الأنفس...
النفسية الكورية هي عنيدة، مثابرة لا تأبى الاستسلام، كما نجد قراءات عديدة من خلال المؤامرات والحبكات المعقدة التي تتجسد في أغلبية المسلسلات والأفلام سواء الحديثة أو التاريخية والتي دائما وفي الغالب ما تنتهي نهاية سعيدة ما يميز هذه الشخصية بالسمة التفاؤلية، ونجد أيضا للحب أهمية عند الفرد الكوري سواء حب الوالدين واحترامهم المقدس أو حب الأنا الأخر والاعتزاز به.
والشخصية الكورية هي شخصية أكولة، اجتماعية تحب الهزل كما تحب القليل من الخيال الذي لو وجد في الحياة الواقعية كان ليعطي قفزة نوعية في مسار أحداث الفرد وهي أيضا شخصية نؤمن أن هناك قدر ينتظر الفرد في حياته منذ ولادته إلى مماته كما أنها تؤمن بالتنبؤ، الأبراج ولها اقتناع بعلوم البرابسيكولوجيا.
3-الدراما الصينية: هي دراما متنوعة يغلب عليها طابع الأكشن ما يعكس التميز الفنوني للحركات القتالية وحب المجتمع لهذا الفن منذ القدم، وهي شبيهة قليلا بالدراما الكورية، فالتركيبة النفسية للشعب الصيني من خلال قراءة للدراما تخبرنا انه شعب يفخر بتاريخه ولكن لا يعيش تحت ظله بل بالعكس تنطبق عليه مقولة "نحن أبناء اليوم والغد معا"
الشعب الصيني هو شعب يهتم بما يجري في حاضره هو ذو شخصية مثابرة تشم رائحة النجاح أينما كان وتسعى إليه ولو كان في آخر العالم، تركز على الأخلاقيات والمبدئيات فيها جانب الخيال مضاعف إذا ما قورن بالدراما الكورية سابقتها وهو يعكس لنا الطبع الصيني الذي يحب الفنتازيا حتى وان كانت غير حقيقية.
الدراما الصينية توحي كذلك بان الشخصية الصينية بقدر ما هي تبجيلية تقديسية للأشياء بقدر ما هي ميلانخولية تميل إلى الكآبة والحزن، ومع ذلك هي لا تتعب ولا تمل، لا تتذمر في سبيل الوصول إلى أهدافها والى ما تطمح له، تصل إلى الحضيض والى أسفل الدركات إن كانت النهاية هي بلوغ المراد. مركزة في ذلك على أناها النفسي أكثر من أناها الاجتماعي.
4- الدراما التايلندية: هي دراما ذات طابع رومانسي بالدرجة الأولى فالكثير من مسلسلاتها مأخوذة من سلسلة القصص الرومانسية، تخبرنا الدراما بشكل عام سواء مسلسلات، أفلام، أن الشخصية التايلندية شخصية حالمة وطموحة في نفس الوقت تبحث عن المركز المرموق، العمل المرموق، النشاط المرموق، وهي شخصية مؤمنة بعقيدتها وبرموزها، شخصية متفهمة، اجتماعية، محبة للتبادل والتنوع الثقافي، لها أنا نفسي عالي، الجنس في الدراما هادف موجه فهو يتبع الرومانسية. والعلاقة الصادقة النظيفة.
5- الدراما الهندية: هذه بالذات دراما غنية عن التعريف لكن أهم نقطة مثيرة في هذه الدراما أنها تغير من طابعها مع تغير معطيات كل حقبة زمنية مع الحفاظ دائما على جوهرها ما يوحي لنا أن الشخصية الهندية هي الأكثر تكيفا واندماجا مهما كانت الاختلافات في الديانات واللغات والتاريخ والعرق بين المجتمعات أو في المجتمع الواحد بدليل وجود 180 ديانة و347 لغة......
ومن خلال الدراما نجد عنصر الرومانسية الذي هو جوهر كل مسلسل أو فيلم هندي حاضرا، كما نجد نسبة كبيرة من الخيال البعيد عن الواقع في الأحداث المعقدة وإحداث الأكشن التي تثيرها الدراما، نقرأ أيضا أن الشخصية الهندية هي شخصية مقدسة للديانات وتحترمها، كما هي محافظة ومن أكثر الشخصيات اعتزازا وتعلقا بتقاليدها، وثقافتها. الأنا الاجتماعي أقوى إذا ما قورن بالأنا النفسي، وهي شخصية مدركة بباطنها لهذه الحقيقة لذا تجدها تحاول التطور والتطوير والاجتهاد والعمل، والتكيف، وبذل جهد أكثر لتكوين صورة جيدة عن أناها النفسي.
ثانيا القارة الامريكية:
1-دراما و.م.أ: دراما الولايات المتحدة الأمريكية دراما عالمية تعطينا العديد من الإيحاءات والقراءات الثرية الموحية حيث أنها تخبرنا الكثير واهم ما في الشخصية الأمريكية أن أناها النفسي جد عالي مقارنة بالأنا الاجتماعي رغم أنهما يتماشيان معا ويكاد يتعادلان إلا أن الأول دائما يتصدر المرتبة الأولى.
الدراما الأمريكية بتنوعها من رعب، رومانسية، فنتازيا، أكشن، تاريخ، حروب، علمية... لها ميزات تشترك فيها كل هذه السيناريوهات، كيف؟ مثلا أفلام أمريكا عن حرب الفيتنام فهي قد خسرت الحرب على ارض الواقع ولكن ربحتها في الأفلام، كذلك في أفلام الأكشن نلاحظ دائما هذه الميزة خاصة عند إدخال فرد من جنسية أخرى أو الاشتراك مع جهة أخرى في فيلم قتالي البطل الأمريكي لا يمكن هزيمته بأي شكل من الأشكال وان اقتضى الأمر فانه يتعادل بطريقة جد محبوكة مع الطرف الآخر.
في الأفلام الرومانسية نلاحظها مرتبطة بشكل وثيق بالجنس وأحيانا حتى الجنس المتحرر كالعلاقات المثلية التي الهدف من ورائها إيصال رسالة فحواها التأثير لتقبل العقل الباطن لمثل هذه العلاقات وأنها مثلها مثل باقي العلاقات الرومانسية الأخرى، إذن فالدراما الأمريكية هي دراما لا نقل هادفة لوصف أو محاولة معالجة ظاهرة ما فقط وإنما هي أيضا إن لم نطلق عليها مفردة ناقلة لغرض ما أو هدف تحاول نقله إلى المتفرجين (وصولية، نفعية) خصوصا أنها عالمية غير موجهة للمجتمع الأمريكي فقط.
أما في أحداث الرعب هي ذات ارتباط وثيق في تحليلها بأفلام الفانتازيا حيث تعكس لنا أن الشخصية الأمريكية ميالة إلى الأحلام والخيال الواسع ومحولة التغلغل من خلال هذه الدراما في ما وراء الطبيعة، كما تدل هذه الشخصية على نفسها أنها ذات ذكاء خارق في الإبداع في السيناريوهات سواء كانت رعب أو فنتازيا محبوكة في طابع قريب من الواقع بالرغم من أنها تبقى خيالية.
2- الدراما الللاتينية: هي دراما رومانسية بالدرجة الأولى الشخصية فيها عاطفية ذات أنا اجتماعي عالي مقارنة بالأنا النفسي هذه الشعوب تعتز برموز بلدانها تعالج قضايا مجتمعها بصفة هادفة موجهة كظاهرة المافيا والمخدرات، شخصية تصحيحية بالدرجة الأولى تثابر على الاقتناء بالمبادئ لدرجة السذاجة، البطل فيها محاط بهالة مقدسة، شعوب هذه البلدان في تركيبتها النفسية تنفر الفقر والعوز وتكرهه وتحاول محاربته والنضال لأجل الفوز في هذه المعركة، هنا نقرأ شخصية اجتماعية غير منعزلة، ودودة، تحب العيش الكريم، كما تجدر الإشارة أنها شخصية لها قابلية الإيحاء وتتأثر بدرجة كبيرة بالمحيط وما جاوره.
ثالثا القارة السمراء (إفريقيا):
سنتطرق فيها إلى الدراما المصرية للغنى الإنتاجي الذي تعرف هذه الدراما مقارنة ببلدان أخرى من نفس القارة.
1- الدراما المصرية: هي دراما ذات تاريخ عريق في السينما والمسلسلات غنية بالإيحاءات تخبرنا بالكثير عن الشخصية المصرية، والتي هي شخصية عاطفية كثيرة الانفعالات تتناقض فيها، وقد نجد في الفيلم أو المسلسل الواحد ثراء في الأحاسيس وتنوعها (رومانسية، فكاهة، أكشن، حبكة اجتماعية، عائلية......).
هي شخصية ذات أنا نفسي عالي مع أنا اجتماعي عالي حيث أنها لا تستهين ولا تركب عن نفسها نظرة استهزائية أو انهزامية، شخصية يهمها الأنا الآخر ومدى رؤيته الايجابية لها بالتالي هي شخصية لا تحب النقد وتعشق المديح وهي مرتبطة بالواقع لا تحب كثيرا الخيال، تحب النجاح سواء في العمل أو في التعاملات مع الآخر سواء كان شريك أو صديق، شخصية تحب الأضواء وان تكون ذات موضوع محوري، متفائلة حتى وان اقتضى الأمر العيش في الأوهام لكنها في نفس الوقت شخصية مثقفة مطورة لنفسها محاربة وطموحة، ومن بين ميزاتها الأساسية كذلك هي شخصية مستهلكة لها قابلية للإيحاء.
فكما رأينا التحليل لم يكن مقارنة بين شعب وشعب أو دراما و أخرى بل كان محاولة لقراء محايدة لاستجداء أهم سمات تتسم بها هذه الشعوب، وقبل غلق الموضوع يجب إثارة نقطة مهمة أن هذه المقالة التحليلية البسيطة الغرض منها كان محاولة وسأركز على هذه الكلمة بشدة محاولة لفهم التركيبة النفسية المتنوعة والمختلفة للشعوب من خلال رؤية وقراءة لدراما لا الانتقاد السلبي أو إثارة العيوب للشعوب ففي الاختلاف رحمة وفي محاولة فهم الأخر نعمة.
في الأخير نرجو أننا من خلال هذه المقالة أن نكون ساهمنا ولو بالقليل في البحث النفسي وإثراءه، ودفعه للأمام للباحثين للاهتمام بدراسة ومعرفة التطور النفسي للطبيعة الإنسانية، وإعطاء فكرة بسيطة عن السمات المشتركة للشعب الواحد في المجتمع الواحد، كما نرجو من هذه الإضافة أن تلقى استحسان القراء والسلام.
اضف تعليق