ميا زهارنا، هنري ميلر
ستانفورد ــ في حفل استقبال أقيم مؤخرا، لاقينا شخصا قدم نفسه بوصفه "معلم الوعي التام". أجل، هذا هو في واقع الأمر مسماه الوظيفي على بطاقته المهنية ــ التي تحمل شعار شركة برمجيات ضخمة متعددة الجنسيات. تتلخص وظيفته في تعليم موظفي الشركة المنهكين "فن الوعي التام"، الذي وُصِف بأنه "الوعي الذي ينشأ من خلال الانتباه عن قصد وفي الوقت الحاضر، مع الامتناع عن إصدار أحكام، ومعرفة ماذا يدور في ذهنك".
ويبدو أن فن الوعي أصبح في كل مكان في أيامنا هذه. فقد انضمت شركات مثل أبل، وسوني، وإيكيا، وجوجل إلى هذا الاتجاه، وهي الآن تضم فن الوعي أو التأمل إلى حِزَم استحقاقات الموظفين، على أمل رعاية وتشجيع قوة عمل أكثر سعادة وصحة وإنتاجية.
علاوة على ذلك، تقدم بعض المستشفيات جلسات التأمل الواعي للمرضى والموظفين، كما تخصص بعض المدارس الابتدائية للأطفال المشاكسين "فترات مستقطعة" من التأمل الواعي. وبالفعل في عامنا هذا، يحتوي قسم "المنهل" (Well) في صحيفة نيويورك تايمز أكثر من عشر مقالات عن فن الوعي. وينتج البحث في جوجل عن الكلمة نحو 67 مليون نتيجة.
ولم يخل الأمر من ادعاءات مفرطة في المبالغة بشأن فن الوعي. فيؤكد أنصاره أنه قادر على تحسين عدد من الحالات ــ بما في ذلك الحصر النفسي، والاكتئاب، والإجهاد، بل وحتى إدمان المخدرات ــ في حين يعزز الإنتاجية. لكن هل يفي فن الوعي بوعوده العديدة؟
من المؤكد أن فن الوعي يستند إلى أساس علمي. ولكن العِلم لا يبرر أي أسلوب حياة بعينه أو نمط تفكير، لأن الأساس هو التنفس.
داخل أعماق جذع الدماغ تقع مجموعة صغيرة من الخلايا العصبية، مجمع ما قبل بوتزينجر، والتي تربط التنفس بمشاعر الاسترخاء، والانتباه، والإثارة، والقلق. تعمل هذه المجموعة، التي تسمى "منظم التنفس"، على التوصيل بين النشاط في مركز التحكم في الجهاز التنفسي في الدماغ والبنية المسؤولة عن توليد الإثارة في مختلف أجزاء الدماغ. وبفضل هذه المنطقة من الدماغ، من الممكن أن يستحث التنفس البطيء السلس المنتظم حالة من الهدوء.
بيد أن النسخة السائدة اليوم من فن الوعي تمتد إلى ما هو أبعد من التنفس لتوجيه طريقة تفكير الممارسين. على مدى السنوات الثلاثين المنصرمة، زعمت دراسات عديدة، بما في ذلك التحليل التلوي، أنها تثبت أن الناس يشهدون تغيرات إيجابية في إحساسهم برفاهتهم، وعلاقاتهم، وقدرتهم على التركيز، وتجربتهم للألم المادي والعاطفي، وقدرتهم على الاستمتاع بالحياة، عندما يمارسون هذا النمط من الوعي بانتظام.
ومع ذلك، يبدو أن الكثير من هذه الدراسات، وربما حتى أغلبها، تقوم على المراقبة (بمعنى أنها غير مضبوطة)، أو أن التحكم فيها رديء، وهي عُرضة لتحيز النشر ــ الميل إلى نشر الدراسات التي تدعم الفرضية فقط، وهو ما يُعرَف أيضا بمسمى "مفعول درج الملفات". ونحن نتساءل كيف في دراسة عشوائية مضبوطة قد يكون فن الوعي مماثلا لتدخلات أخرى للحد من الإجهاد، مثل تبني حيوان أليف، أو المشي بانتظام، أو ممارسة اليوجا، التي تتضمن التنفس الواعي.
الواقع أن فن الوعي قد لا يخلو من مخاطر، مقارنة بهذه التدخلات الأخرى. ففي بعض الحالات اتخذ التأمل الواعي هيئة أشبه بالعقيدة، حتى أن بعض الممارسين تحدثوا عن مشاعر تتمثل في تبدد الشخصية والانعزالية بل وحتى فقدان الهوية. وجرب آخرون ردود فعل أكثر تطرفا، بما في ذلك الذهان، والضلالات، والارتباك، والهوس، أو الاكتئاب. ولعل مثل هذه النتائج لا ينبغي أن تكون مستغربة، لأن ممارسة التأمل الواعي تشجع على استكشاف خبرات ــ سواء كانت سلبية أو محايدة أو إيجابية ــ مع اتخاذ موقف يقوم على الامتناع عن إصدار أحكام.
وربما يكون تبني التأمل الواعي من قِبَل العديد من شركات التكنولوجيا الفائقة مُعضِلا بشكل خاص، لأنه ربما يحجب فعليا المشكلة الحقيقية التي تتمثل في الموظفين المكدودين المجهدين بشكل مزمن بسبب العمل الشاق. وفي وقت حيث تنفذ شركات عديدة تدابير خفض التكاليف ودفع الموظفين إلى تعزيز إنتاجيتهم، تأتي برامج الوعي والتأمل كحلول أقرب إلى تحقيق مصالح الإدارة، وهي لن تُفضي إلى رفع الأجور أو توظيف المزيد من الموظفين.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد. ينظر بعض قادة الشركات في سيليكون فالي إلى فن الوعي كوسيلة لتحسين "الذكاء العاطفي" لدى الموظفين، مما يساعد الناس على فهم دوافع الآخرين، وبالتالي تعزيز القدرة التنافسية. وكما قال تشاد منج تان ــ مؤسِّس معهد ابحث داخل ذاتك للقيادة، الذي يقدم دورات الوعي والتأمل لشركة جوجل ــ لمجلة وايرد (Wired): "الجميع يعرفون أن مسألة الذكاء العاطفي هذه مفيدة لحياتهم المهنية، وكل الشركات تعلم أنها سوف تجمع أكواما هائلة من المال إذا امتلك موظفوها الذكاء العاطفي".
سواء كان فن الوعي حقا الدواء الشافي كما يدعي أنصاره، أو لم يكن، فإن جاذبيته ليست موضع شك. ففي حين تعشق الشركات فكرة أن فن الوعي قادر على تحسين صافي أرباحها، فربما يتوق الأفراد إلى إيجاد وسيلة للهروب من همومهم اليومية المعتادة (وخاصة الآن بعد قرار إعادة عرض دراما داونتون آبي).
شهد العام الماضي العديد من الهجمات الإرهابية، وعمليات إطلاق النار العشوائية، وتشوهات الأجنة بفِعل عدوى فيروس زيكا، وأخيرا وليس آخرا، الانتخابات الرئاسية الأميركية وعواقبها المريرة. وإذا كان بإمكان التنفس العميق والتركيز على المكان والزمن الحاضر المساعدة في تخفيف وطأة العبء الذي تخلفه بعض هذه الذكريات، فأهلا به.
اضف تعليق