q

(رويترز) - استغرق جمع أهل القرية على كلمة سواء أكثر من ثلاثة عقود من الزمان واحتاج الأمر كذلك أن يفارق أحد أبنائها الحياة فجأة، تقع القرية بين أشجار الفاكهة وبساتين الزيتون في واد وعر التضاريس وعلى مر الأجيال كان سكانها يتألفون من المسيحيين والدروز، غير أنه عندما وقع لبنان في براثن الحرب الأهلية في سبعينيات القرن العشرين وجدت الطائفتان نفسهما كل في مواجهة الآخر. وفي 1983 عندما اضطرت الحرب المسيحيين لهجر بيوتهم انتقل الدروز إلى البيوت المهجورة وأزيلت بيوت أخرى كثيرة.

وفي نوفمبر تشرين الثاني الماضي وقع حادث سير راح ضحيته جورج شلهوب (56 عاما) الذي كان صاحب محل تجاري وعاش أجداده في بريح لكنه عاش جانبا كبيرا من حياته قرب بيروت. وكان شلهوب يحلم بالعودة إلى قرية أجداده ولذلك قررت أسرته دفن جثمانه فيها، وكان أن أوجدت الجنازة لحظة من دفء المشاعر بين الطائفتين. فحمل المسيحيون والدروز نعشه معا إحياء لعادة قديمة. ومر موكب الجنازة بالموقع الذي كان فيه بيت أسرة شلهوب والذي تبني فيه الأسرة الآن بيتا جديدا.

قال خليل شلهوب والد جورج البالغ من العمر 89 عاما "حملوه الدروز معنا من أول الضيعة لتحت وبعد ذلك إلى المدافن. كان الاستقبال حلو. كان هناك احترام كبير للجثمان"، وبعد 26 عاما من انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية تظل قصة بريح شاهدا على طول الفترة التي يمكن أن تستغرقها المجتمعات لرأب ما سببته الحرب من صدوع.

وكما هو الحال اليوم في سوريا والعراق كانت الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاما سببا في تفتت لبنان. فأعيد تشكيل القرى والأحياء التي عاش فيها المسلمون والمسيحيون جنبا إلى جنب على مدار القرون. وانكفأ مئات الآلاف على أنفسهم في جيوب منفصلة تخضع لسيطرة ميليشيات طائفية.

وفي بريح التي يبلغ عدد سكانها 4000 نسمة لم ينفتح طريق العودة أمام المسيحيين حتى عام 2014 عندما هيأت تسوية تمت برعاية الحكومة السبيل لذلك، وفي مختلف أنحاء لبنان لم يعد إلى البيوت المهجورة سوى قلة قليلة ممن هجروا بيوتهم. ولا تزال انقسامات طائفية عميقة تؤلم لبنان من قرى مثل بريح صعودا إلى مجلس النواب. وخلاصة الدرس المستفاد لسوريا والعراق أن الانقسامات تظل باقية لعشرات السنين حتى إذا حل السلام.

ولم تعد أسرة شلهوب لإعادة بناء البيت في بريح إلا بعد أن أشرفت قيادات وطنية على اتفاق المصالحة الخاص بالقرية. وكما هو حال معظم المسيحيين الآخرين من القرية اقتصرت عودتهم حتى الآن على زيارات في العطلات الأسبوعية.

ولم يحدث أن أحس الجميع بروح المصالحة الحقيقية حتى جاءت جنازة جورج شلهوب، قال خليل شلهوب "نحن يهمنا الصلح والمصالحة. فتحنا الباب وكان هناك جواب جيد. كانت الرسالة رسالة مصالحة. المصالحة (الرسمية) جرت منذ أكثر من سنتين ولكن لم يكن هناك هذا التعاطي الزائد"، واستضافت الأسرة المعزين في موقع البناء حيث كان شلهوب يبني بيت الأسرة الجديد وقدمت لهم القهوة كما جرت العادة. ودون دعوة وصل دروز بريح والمنطقة المحيطة بها لتقديم واجب العزاء فقوبلوا بالترحاب، وقال حمزة أبو عز الدين (32 عاما) الذي لا يعرف عن بريح سوى أنها قرية درزية "ما كنت أعرفه لكني عرفت أنه من ضيعتي. وهذا واجب".

الانقسام

حدث أول تفجر للعنف في بريح عام 1977 بعد عامين من بداية الحرب الأهلية. فتح مسلحون من الدروز النار على كنيسة فأسقطوا 12 قتيلا. وفي اليوم التالي هجر كثير من المسيحيين القرية، وبعد خمسة أعوام أصبحت القرية ساحة للاشتباكات فيما أطلق عليه "حرب الجبل" التي نشبت بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. كانت إسرائيل تريد سحق منظمة التحرير الفلسطينية وتنصيب رئيس لبناني جديد صديق لها. ورأت ميليشيا القوات اللبنانية المسيحية في الوجود الإسرائيلي فرصة لتحدي هيمنة الدروز على جبل الشوف.

غير أن إسرائيل انسحبت بعد عام من منطقة الشوف وبدأت حرب أهلية شاملة بين المسيحيين والدروز، وفر عدد يقدر بنحو 250 ألف مسيحي من الجبال في أكبر عملية تهجير جماعي طائفي منفردة في الحرب الأهلية. وفي بريح تعرضت بيوت المسيحيين للتدمير ونسفت كنيستان، وقال تيودور هانف في كتابه (التعايش في لبنان في زمن الحرب) إن تطهير جبل الشوف من المسيحيين بالكامل تقريبا لم يستغرق سوى أسبوعين. وأعلن الزعيم الروحي للدروز آنذاك أن المسيحيين لن يعيشوا أبدا في تلك المنطقة.

وفي 1993 أنشأت الحكومة وزارة للإشراف على عودة المهجرين. واستغرق الأمر سنوات قبل أن يتحقق تقدم في جبل الشوف. وبدأ المسيحيون العودة على استحياء إلى القرى المسيحية غير أن الاتفاق على شروط عودتهم إلى القرى المختلطة كان أصعب كثيرا.

ورعت الحكومة أكثر من 20 اتفاق مصالحة في جبل الشوف يكاد كل منها يمثل عملية سلام في حد ذاتها، وقال أحمد محمود المدير العام لوزارة المهجرين إن استكمال اتفاق بريح كان من أصعب الانجازات التي تحققت في هذا الصدد.

وقال "في مثل بريح بيت درزي و(إلى جانبه) بيت مسيحي. يعرفون بعضهم. ضيع مصالحة. يعرفون أن فلانا قتل فلان. أنت عليك أن تقنع الذي فقد والده أن يعزم قاتله على شرب فنجان قهوة"، ويحتفظ محمود بنسخ محفوظة بلفائف جلدية لكل اتفاقات المصالحة على رف في مكتبه ببيروت وكل صفحة عليها توقيع المعني من أهل القرية والمسؤول المختص.

وقال عن بريح "... كانت صعبة القصة. جرحهم كبير"، وتطلبت المصالحة في بريح بين ما تطلبت أن تنتقل أسر درزية من عشرات البيوت المسيحية التي احتلتها لثلاثة عقود وكذلك هدم مركز اجتماعي درزي يعرف باسم "البيت" بني على أرض مسيحية وبناء مركز جديد للدروز وبناء كنيستين جديدتين أيضا كما دفعت الدولة تعويضات للدروز عن اضطرارهم لإخلاء البيوت وللمسيحيين الذين احتاجوا لإصلاح بيوتهم أو إعادة بنائها وتطلب الأمر أيضا تحديد مصير المفقودين ووضع حل لقضيتهم.

وبعد مرور عامين لم ينتقل إلى بريح للإقامة الدائمة سوى عدد قليل جدا من المسيحيين. فقد أسس أغلبهم لأنفسهم حياة جديدة في مناطق عمرانية أكثر ازدهارا من الناحية الاقتصادية وأصبحت مغادرتها صعبة عليهم، كذلك فإن التعويض الخاص بإعادة البناء يقل كثيرا عن المطلوب إذ أنه يتمثل في دفعة أولى تبلغ عشرة آلاف دولار لكل فرد تليها دفعة أخرى فيما بعد، ومازال كثيرون ينتظرون تسلم الدفعة الأولى. أما بالنسبة للأغلبية فتمثلت "العودة" في زيارات في العطلات الأسبوعية.

عائلة واحدة

كان حنا حسون الذي يبلغ من العمر الآن 83 عاما مديرا لمدرسة بريح الثانوية إلى أن اضطر إلى الرحيل عن بريح مع أسرته عام 1977 معتقدا أنهم سينتقلون لبضعة أشهر على أقصى تقدير. غير أنه لم يعد إلى القرية سوى قبل عامين.

ويتذكر حسون الأيام التي بلغ فيها عدد طلبة المدرسة 500 طالب وعدد المدرسين 30 مدرسا. ولم يكن للمدرسة مبنى خاص بها ولذلك استأجرت بيوتا وحولتها إلى فصول دراسية. وكان هو رئيسا لنادي القرية.

وقال في شقته بضاحية انطلياس المسيحية شمالي بيروت "كان عندنا نشاط قوي جدا قبل الأحداث ولكن جاءت الأحداث وأبعدت الناس عن بعضها البعض"، تعرض بيته الذي كان عبارة عن فيلا حجرية من طابقين للتدمير في الثمانينات. وفيما بعد أقام الدروز مكانه مركزا اجتماعيا. وأصبح مصير "البيت" نقطة شائكة كبرى خلال محادثات المصالحة.

وأثناء سعي الوسطاء للتوصل إلى تسوية رفض حسون وجاره عروضا لبيع أرضهما. وفي نهاية المطاف تم هدم "البيت" وأقيم بيت جديد ليفتح بذلك المجال أمام إتمام اتفاق المصالحة، وقال حسون "سنبقى متمسكين بأرضنا قدر استطاعتنا. لا فكرة لدينا لترك أرضنا. بل أنا أقول الآن لأولادي إذا كان لا زال لدينا قطعة أرض فوق (في بريح) لا تبيعونها. ورثوها لأولادكم وأولادكم لأولاد أولادكم. هكذا ازرعوها برؤوسهم".

ويردد ما حدث في بريح أصداء ما سار عليه النهج اللبناني في التعامل مع السلام. فقد وافقت إدارة ما بعد الحرب على عفو عام لكل الجرائم السياسية التي ارتكبت قبل عام 1991 في محاولة لطي صفحة الماضي بالسماح للقيادات المدنية خلال الحرب بدخول الحكومة، وتعرض هذا النهج لانتقادات على مستوى واسع. ويقول المركز الدولي للعدالة الانتقالية الذي تأسس لمساعدة المجتمعات على التعامل مع ما خلفته الحرب إن الاختيار كان للسلام في الأجل القصير على حساب العدالة. وجعل ذلك لبنان عرضة لنوبات من العنف والصراع السياسي منذ ذلك الحين.

وقالت نور البجاني من المركز "ما كان يجب عمله هو إشراك الضحايا والحديث بشكل أكبر عن الحرب. فالبحث عن الحقيقة شرط رئيسي من شروط المصالحة الحقيقية"، وأضافت أن اتفاقات الشوف كانت مفيدة غير أنها لم تبن على أسس سليمة. وقالت "ولهذا السبب ترى بعض المسيحيين يشعرون بعدم الأمان فيما يتعلق بالعودة إلى قراهم".

انتخابات

طفت هشاشة هذا السلام على السطح خلال الانتخابات المحلية في بريح في مايو أيار وكانت الانتخابات الأولى من نوعها منذ الستينيات. وشكل المرشحون قائمتين متنافستين لمقاعد المجلس المحلي الإثنى عشر مقسمة بالتساوي بين المسيحيين والدروز.

وكان هذا الترتيب متفقا مع رغبات الزعيم الدرزي وليد جنبلاط أحد زعماء الحرب الأهلية والذي هيمنت عائلته على المنطقة سياسيا منذ أجيال. وكان الهدف من وراء ذلك تحقيق التوازن الطائفي ووجد الناخبون من يشجعهم على التصويت لاختيار قائمة واحدة فقط من القائمتين بكامل أعضائها.

واجتذبت الانتخابات مئات المسيحيين إلى القرية، وتجاوز عدد من أدلوا بأصواتهم 1400 ناخب إجمالا بنسبة مشاركة بلغت 64 في المئة، ومع ذلك ففي نهاية الأمر أصبح لبريح مجلس محلي بسبعة أعضاء من الدروز وخمسة من المسيحيين، وقال عيد حسون المحامي المسيحي الذي فاز بمقعد في المجلس في إطار قائمة "العيش المشترك" إن الأمر كان يتطلب 15 صوتا أخرى فقط للخروج بنتيجة متعادلة للانتخابات، وأضاف "الانتخابات بدلا من أن تفرز نتيجة تريح البلد كانت صدمة"، وحمل عيد المسؤولية لأفراد من الطائفتين إذ أن مسيحيا مستقلا ادعى خلافا للواقع أن المسيحيين يستهدفون سرا اقتناص أكثر من نصف المقاعد. ودفع ذلك مجموعة من الناخبين الدروز للإدلاء بأصواتهم واختيار الدروز فقط في أواخر يوم الانتخابات.

وقال إن كثرة عدد المسيحيين المستقلين الذين رشحوا أنفسهم في الانتخابات كان له دور في ذلك من خلال تفتيت الأصوات، وأخفقت المحاولات التي بذلت لمعالجة هذا الخلل، وقال نزار يحيى ممثل الحزب الاشتراكي التقدمي الذي يغلب عليه الدروز بزعامة جنبلاط في قرية بريح "حاولنا نوجد حلا ولكن الحل هو بصندوق الاقتراع والنتيجة التي خرجت منه"، ووصف الانتخابات بأنها "كانت ديمقراطية حرة وشفافة".

وقال المسيحيون إن حدة التوترات بدأت تخف بعد بضعة أسابيع. وعقد المجلس أول اجتماعاته وانتخب رئيسا مسيحيا واتفق أعضاؤه على ضرورة الموافقة على أي قضايا حساسة بالإجماع لا من خلال الاقتراع.

مقاتل

وربما يتضح أن تسوية نقطة أخرى عالقة مسألة أشد صعوبة. فقد كان بولس خليل القائد السابق بميليشيا القوات اللبنانية آخر مسيحي ينسحب عام 1983 وربما يكون هو المسيحي الوحيد الذي لم يعد حتى الآن إلى بريح، ويرى خليل (54 عاما) المعروف بلقب "البطل" أن اتفاق المصالحة كان سطحيا.

يقول خليل وهو جالس في مكتبه بمركز اللياقة البدنية الذي يملكه في حي عين الرمانة المسيحي في بيروت "القصة مسيسة أكثر مما هي وفاق وتوافق وعيش مشترك"، وعلى الحائط في مكتبه كانت صورة المسيح عيسى مصلوبا معلقة، وتضم أرفف مكتبته سيرة حياة قائد القوات اللبنانية الراحل بشير الجميل رئيس لبنان السابق.

وقال خليل "إذا لم تبين الماضي وتضع إصبعك على الجرح لا تصل إلى الحاضر لتعيش في أمان واطمئنان"، وقال خليل إن أهل القرية من الدروز لا يرحبون به. وأضاف "يوجد علي فيتو"، وتنفي قيادات الطائفة الدرزية ذلك. وقد زار كريم يحيى أحد خصوم خليل من أيام الحرب مركز اللياقة البدنية وقابل خليل في وقت سابق من العام الجاري لحثه على زيارة بريح. وقال يحيى (67 عاما) إن تلك كانت المرة الأولى التي يتقابلان فيها وجها لوجه منذ الحرب.

وقال خليل إن الأمر "يحتاج إلى ضمانة من وليد جنبلاط ليعطي إيعازا لأبناء بريح، لأبناء ضيعتي، ويقول لهم هذا الشخص يريد أن يذهب (إلى بريح) ومن الممنوع المس به"، واعتذر جنبلاط عن إجراء حديث معه لهذا التقرير، يأمل أهل القرية من المسيحيين أن يشجع استكمال الكنيستين الجديدتين عددا أكبر من أبناء طائفتهم على العودة للقرية. وكانت إعادة البناء عملية حساسة إذ اضطر الحفارون للعمل بحرص لتحديد موقع جثث المسيحيين القتلى الإثنى عشر الذين قتلوا قبل 39 عاما ودفنوا تحت أنقاض كنيسة مار جرجس إحدى الكنيستين، وأعيد بناء تلك الكنيسة على مساحة تزيد 30 في المئة عن مساحتها الأصلية كما أعيد دفن رفات القتلى في الكنيسة خلال شهر أغسطس آب.

وفي ابريل نيسان الماضي كانت قاعة واحدة فقط جاهزة لاستضافة أول قداس يقام بكنيسة مارجرجس منذ حادث إطلاق النار الذي وقع عام 1977، وامتلأت قاعة استقبال بعدة مئات من بينهم بعض أهل القرية من الدروز. واستقبل المطران ومرافقوه بعاصفة من التصفيق لدى وصولهم وهم يشقون طريقهم بين المقاعد في القاعة.

كان أحد الآباء يهز مبخرة وهو يسير ثم توقف ومال ليقبل رجلا يرتدي قميصا أسود يمثل علامة درزية وسروالا وغطاء رأس أبيض يجلس في الصف الأمامي، وقبل طقس التناول دعا المطران الياس نصار أن يرسخ الله عودة المسيحيين ويقويها.

وقال غاندي يحيى الذي فقد خمسة من أفراد أسرته عندما نشبت الاشتباكات عام 1982 إنه منذ بدأ المسيحيون العودة "لم يحصل أية مشكلة على هذا الصعيد ولا ضربة كف (صفعة)"، ومع ذلك فهو ينصح بعدم النبش في الماضي"، ويضيف "أنا يمكن أن أقول كلمة غيري لا يقبلها. ولكنها تكون كلمة حق".

اضف تعليق