قد يظن أحدُنا أو كثيرون منّا، بأن المراهقة مرحلة عمرية تتعلق بالإنسان حصرا، وربما يرى هؤلاء، أن ملامح هذه المراهقة ذات طابع فردي، ولكن هناك ما يثبت، أن الجماعات، والمجتمعات تمر بمرحلة المراهقة أيضا، وهي لا تنحصر بالإنسان فقط ولا بكائنات معينة، فالأمم مثلا تمر بهذه المرحلة، وثقافات الأمم المتأخرة لا تفلت من مصيدة المراهقة.

هل المراهقة مفردة يغلّف معناها (عيب ما)؟، وهل هي شأن مرادف لسلسة من الأخطاء والنواقص، بطبيعة الحال الجواب سوف يكون (كلا)، على العكس فنحن لا نستطيع القفز على مرحلة المراهقة، لأن حرق المراحل لن يقود الى النتائج المأمولة، بمعنى اذا حاولنا القضاء على مرحلة المراهقة فهذا يعني القفز على التدرج في النمو، وهو أمر مهم جدا، لأن حرق المراحل يجعل الفرد والمجتمع في حالة خلل بخصوص سلّم النمو.

من يرتفع سريعا، يسقط سريعا، هذا قانون مجرَّب، ويمكن أن نشتق منه القول المعروف: (ما طار طائر وارتفع.... إلا كما طار وقع)، لذا فإن قضية تجاوز المراهقة أمر غير وارد كونها تعود بنتائج ليست في صالح الفرد أو الأمة، ولكن ينبغي أن تكون المراهقة ضمن الحيّز الزمني الخاص بها.

على سبيل المثال، ماذا نقول عن الإنسان الذي يعيش مرحلة المراهقة وهو في منتصف الثلاثين او يقارب الأربعين سنة من عمره؟، هل يجوز أن تبقى المراهقة مع الإنسان وهو يصل الى سقف الأربعين؟، بالطبع الإجابة سوف تكون كلا، وهذا الاشتراط ينطبق على الفكر والثقافة أيضا، إذ لا يجوز لها أن تعبر او تتجاوز المراهقة، ولا يصح أن تعيشها في غير توقيتها، مثلما لا يصح ذلك للفرد والمجتمع أيضا، فالأفكار والثقافة مثل الكائن الحي، تعيش مرحلة الولادة (التأسيس)، ومن ثم النمو والترعرع والتطور وصولا الى النضوج.

والسؤال الآن، منظومتنا الفكرية وثقافتنا، في أي مرحلة تمر الآن؟، ونعني بذلك الفكر والثقافة العراقية، والتي قد تتداخل أحيانا مع الثقافة العربية والإسلامية، هل هي في مرحلة النضوج، هل رسخت جذورها تماما، هل تجاوزت المراهقة وبلغت سقف الحكمة؟، هذه الأسئلة تحتاج الى أجوبة دقيقة، من ذوي الشأن، من الواضح أن ثقافتنا تبدو وكأنها لا تزال تعيش مرحلة المراهقة، ولكن هل يمكن أن نثبت ذلك، وأي مغالاة يمكن أن تدفع الى هذا الوصف أو القول؟.

خطر الذوبان في الثقافات الأقوى

ثمة أمم راكزة، معتدّة بنفسها، لها شخصية مستقلة، رصينة، غير قابلة للاختراق، كيف أصبحت هذه الأمم ذات شخصية قوية لا يمكن اختراقها، يقول العلماء وأصحاب الشأن أن الثقافة هي العامل الأقوى والأهم الذي يساعد الأمة على الاعتداد بنفسها، والاعتماد على قدراتها، وحمايتها من الذوبان في الثقافات الأخرى، فهل ثقافتنا محصنة من الذوبان في الثقافات الأخرى.

سؤال آخر مهم، كيف تُصنّع الثقافة ومن الذي يصنعها، ويجعلها حصينة وغير قابلة للتبعية لسواها من الثقافات، او مهددة بالتلاشي؟، الإجابة ببساطة إنهم مثقفو الأمة ومفكروها ورجال العلم فيها وخطبائها ورجال الدين، وكل النخب المعنية بالفكر والجوانب الثقافية، هؤلاء هم الذين يشتركون في صنع وتطوير وتقوية الثقافة.

في الحقيقة سنجيب بصورة مباشرة، بأن منظومتنا الفكرية، وبالأخص ثقافتنا، ليست محمية من الشعور بالدونية إزاء الثقافات الأخرى، وخاصة الغربية منها، والأدلة على هذا الاستنتاج كثيرة، تظهر كمثال في تبعية جزء من شريحة الشباب، لعادات وتقاليد بعض المجتمعات الغربية، ويظهر ذلك في طبيعة تقليد شبابنا للملبس والمظهر الخارجي للشاب، فضلا عن التأثر ببعض الأفكار الغريبة والبعيدة عن معتقداتنا.

بعضهم يرى أننا لا زلنا نعيش في حياض ثقافة ليست ناضجة، وهؤلاء يستندون الى أن هناك ممن ينتمي الى الثقافة والفكر، لا زالت شخصياتهم تعاني من النقص الثقافي الواضح، ولا تزال أفكارهم غير مبنية على أساس رصين، يستمد حضوره من جذور الثقافة الرصينة التي بمقدورها حماية الانسان لاسيما الشاب، من التأثّر بالثقافات الغربية او حتى الشرقية التي لا تتشابه ولا تقترب من أفكارنا وثقافتنا، ومعتقداتنا وما نؤمن به.

بعضهم يظن أن ترك الشاب يتخبط بين هذه الأفكار والثقافات الوافدة أمر تحكمه المراهقة، وما أن يتجاوز الشباب هذه المرحلة حتى يعود الى ثقافته المستقلة ورشده، ولكن لا علاقة بالمراهقة في قضية التأثر بالثقافات الأخرى، لأننا في خلاصة الأمر سوف نكتشف أننا نعاني من مثقفين ومفكرين لا يزالون حتى الآن يعيشون مرحلة (المراهقة الفكرية او الثقافية).

في هذا السياق، يقول حواس محمود وهو ينتمي الى شريحة المثقفين العراقيين عن المراهقة الفكرية، بأن (المشهد الثقافي العربي الراهن يحتاج في الظروف المعاصرة إلى عناصر قوة ودفع للنهوض به إلى مستويات أرقى وأفضل مما عليه الآن، ولكن هذا المشهد رغم الدماء الثقافية الجديدة التي ترويه بعناصر الجدة والأصالة والموضوعية تفيده في مقاومة التحديات الناجمة عن التطورات التكنولوجية والأيديولوجية العالمية أو ما يمكن تسميته بـ "الأيديوتكنولوجيا" السائدة حالياً في العالم، أقول رغم هذه الدماء الثقافية الجديدة فإن هناك العديد من عناصر العرقلة والتشويش والإساءة والصبينة التي يمكن تسميتها جميعاً بـ "المراهقة الثقافية" تؤثر سلبياً وبشكل خطير في نمو هذا المشهد الذي من المفترض أن ينهض ويتطور للتكيف وللتجدد الحيوي القائم على التحصين الذاتي والتفاعل الواعي مع المستجدات والمتغيرات العالمية).

رؤية لحماية المنظومة الفكرية

ما هي ملامح المراهقة الثقافية والفكرية، وهل تعاني ثقافتنا من ذلك، من واقعنا الثقافي والحراك الفكري نستطيع أن نلاحظ مؤشرات تدل على عدم بلوغ منظومتنا الفكرية وثقافتنا مرحلة النضوج، والأدلة التي يمكن الاستناد إليها، نستطيع تأشيرها من خلال بروز ظاهرة (المثقف المراهق)، وهذا النوع من المثقفين ينتمي الى حالة الإدّعاء للثقافة والمثقفين، بمعنى نحن ازاء مثقفين متبجحين وغير فاعلين في الميدان الثقافي والفكري.

وإذا سلّمنا بأن ثقافتنا تمر في مرحلة مراهقة، فينبغي أن نبحث عن الأسباب، ذلك أن الفكر والثقافة العراقية تنتمي الى أعرق الثقافات وأكثر توغلا وعمقا في تربة التاريخ، ولكن طالما أن الثقافة تستمد قوتها وثبات جوهرها من جذور من ماض عريق، فلا يمكن أن يكون جوهر هذه الثقافة وأفكارها سببا، وإنما السبب يكمن في المثقفين أنفسهم.

من هنا على المثقف أن يعبر بقوة (مرحلة المراهقة الثقافية)، ولا يبقى يراوح في هذه المنطقة، بل على المثقفين العمل بأصالة وعمق لكي يتم التجاوز المبرم والمؤكد لهذه المرحلة، حتى يمكن الوصول الى سقف عالي ودرجة عالية من حصانة ثقافتنا وأفكارنا، ومنع ذلك الشعور بالدونية إزاء الثقافات الأخرى وخاصة الغربية منها.

وينبغي أن يتم ذلك من خلال النخبة الثقافية الفكرية نفسها، إذ عليها أن تحصّن الأفكار والثقافة العراقية من مكامن الضعف والخلل، وعلى المفكرين والمثقفين تشذيب نقاط الوهن العالقة في ثقافتنا، والتحصين التام ضد الذوبان الفكري أو الثقافي، او التقليد الذي قد يسلب خصوصيتنا منا، لاسيما ما يتعلق بعقائدنا وأعرافنا التي تمثل جوهر منظومتنا الفكرية والثقافية.

لذا فإن نخبة المفكرين والمثقفين والعلماء الحكماء، معنية بصورة تامة، وتتحمل مسؤولية كاملة ورئيسية، في تنقية الثقافة العراقية من العناصر المزيفة التي تدّعي الانتساب للثقافة مع أنها تشكل إساءة فادحة لها، من خلال بقائها حتى الآن في حالة مراوحة في مرحلة المراهقة الثقافية التي تدل عليها أدلة كثيرة، أولها ضعف هذه الثقافة وعدم قدرتها على تشكيل شخصية مستقلة للعراقيين ضمن مجتمع تحكمه منظومة فكرية وثقافية رصينة.

اضف تعليق