نشرت صحيفة الغارديان البريطانية مقالا للكاتب إيان بلاك، نقلت ترجمته صحيفة الغد الأردنية، جاء فيه:

مر وقت على العالم العربي، كان فيه سؤال الناس عن دينهم أو طائفتهم يعتبر ضرباً من الوقاحة، حتى لو انه كان واضحاً من أسمائهم، أو لهجاتهم، أو من مكان سكناهم أو أماكن عبادتهم، أو من الصور المعلقة على جدرانهم، أنهم مسلمون سنة، أو شيعة، أو مسيحيون.

في الأيام المجيدة لحقبة ما بعد الاستعمار، انصب التركيز على خلق هوية قومية عربية شاملة. وتفاخرت سورية، بفسيفسائها الفريدة من السنة، والعلويين والدروز، والكثير من الطوائف المسيحية، بأنها "قلب العروبة النابض". وحتى في لبنان، بترتيباته المعقدة لتقاسم السلطة، ظلت الهوية الطائفية مسألة شخصية وخاصة. وكان التزاوج بين الطوائف شائعاً.

كان حزب البعث الذي حكم في كل من بغداد ودمشق من إنشاء منظر مسيحي، ميشيل عفلق. وثمة قائدان فلسطينيان بارزان، جورج حبش ونايف حواتمة، من المسيحيين. وكذلك كان جورج أنطونيوس، المؤرخ البارز للقومية العربية.

في العراق، الذي نحته البريطانيون من ثلاث ولايات عثمانية، كانت أغلبية شيعية ريفية إلى حد كبير، وأقلية سنية، والأكراد هي الجماعات المهيمنة. وقد حاول صدام حسين، السني، احتواء هذه المجتمعات جميعاً؛ وكلها كانت موضعاً للقمع.

كان السبب في التغيير هو قيام ثورة إيران الإسلامية في العام 1970، والتي شكلت لحظة مزلزلة في تاريخ الشرق الأوسط، ومصدر إلهام للشيعة المضطهدين والمسحوقين في كل مكان. وجرى وصف غزو صدام لإيران في العام 1980 على أنه حرب عربية ضد الفرس –وقامت بتمويله الدول العربية والخليجية السنية. وفي العام 2003، عندما أطيح بصدام حسين، احتفل الشيعة العراقيون بسقوطه عن طريق استحضار استشهاد إمامهم المبجل الحسين على يد الأمويين السنة في معركة كربلاء التي وقعت في العام 680.

مع أن الطائفية تعكس الفروقات الدينية الحقيقية، وتحدد مفهوم "الآخر"، فقد كانت دائماً متصلة بالسلطة، والموارد والأراضي. في البحرين، تحكم سلالة آل خليفة السنية الأغلبية الشيعية المحرومة من مكانها الصحيح في النظام، ولكن المنامة تلقي باللوم على طهران في تأجيج الاضطرابات المحلية. وبالمثل، تتهم العربية السعودية إيران بالتسبب بالمتاعب في شرقها الذي يهيمن عليه الشيعة. وفي كلتا الحالتين، تشكل الاتهامات قناعاً يخفي تحته مشكلات محلية أصيلة.

على مدى السنوات الأربع الأخيرة، قامت الحرب السورية الشرسة بتضخيم المشاعر الطائفية، بحيث يجري الآن إقران العلويين جماعياً ببشار الأسد، والسنة بالمعارضة. ويقوم حزب الله في لبنان، المجموعة الشيعية المسلحة المدعومة من إيران، بتعزيز هذه الرواية عن الثنائية. لكن الخلافات موجودة بطبيعة الحال في داخل الطوائف نفسها، فيما تتسامى العلاقات الأخرى على الهوية الدينية.

الآن، يسيء الخطباء السنة المتطرفون في بعض الدول الخليجية إلى الشيعة، فيصفونهم بأنهم "عبدة الأوثان" –في اللغة المتعصبة وغير المتسامحة للوهابيين حصرياً. ويشار إلى الإيرانيين بازدراء على أنهم "صفويون" في إشارة تحقيرية إلى السلالة الصفوية في القرن السادس عشر. وتبرر الجماعات الجهادية المتطرفة، مثل الدولة الإسلامية، عمليات قتل "المرتدين" تحت مبدأ "التكفير".

في أوج ازدهارها، استهدفت "القاعدة" ما وصفته بأنه "العدو البعيد" –أميركا بشكل خاص. لكن "الدولة الإسلامية" وضعت المشاعر المعادية للشيعة في المركز من أيديولوجيتها السامة. وقد تجاهل "خليفتها" أبو بكر البغدادي، مناشدات أيمن الظواهري، خليفة أسامة بن لادن، بالإحجام عن القتل العشوائي للشيعة، والعمل بدلاً من ذلك على استهداف النظامين اللذين يهيمن عليهما الشيعة في العراق وسورية.

من جهته، ندد يوسف القرضاوي، رجل الدين السني البارز، الذي أعطي منبراً في قناة الجزيرة الفضائية، بحسن نصر الله زعيم حزب الله، بوصفه بأنه زعيم "حزب الشيطان".

هكذا بالتأكيد أطلت الطائفية برأسها القبيح خلال السنوات الأخيرة –لكن الكثير من الناس عملوا جاهدين من أجل جعل ذلك يحدث. كما جعلت وسائل الإعلام الاجتماعي من نشر الرسائل السامة والمتعصبة مهمة أسهل من أي وقت مضى.

مع ذلك، ليست الطائفية هي السبب الرئيسي في انقسامات الشرق الأوسط. وفي حين تتضمن الأزمة المتفاقمة في اليمن الثوار الحوثيين المنتمين إلى الطائفة اليزيدية المرتبطة بالإسلام الشيعي، فإن تلك الطائفة قريبة جداً من عقيدة أغلبية البلد السنية. كما يشكل الدعم الذي يحصلون عليه من إيران في المقام الأول مسألة كسب حلفاء وتطلع إلى السلطة –وهو السبب الرئيسي الذي جعل الحوثيين يواجهون التدخل السعودي المسلح.

يبدو القول بأن إيران تدعم الحوثيين لأسباب دينية "مثل افتراض أن الاسكتلنديين من أتباع الكنسية المشيخية سوف يدعمون المعمدانيين الجنوبيين دائماً، لأن كليهما يمثلان أشكالاً من البروتستانتية"، كما يقول جوان كول، الأكاديمي الأميركي والمعلق البارز على الشأن الشرق أوسطي. إنه السياق الجيو-سياسي هو الذي يمنح هذا الصراع صبغته الطائفية، وليس العكس.

يشكل مسلمو مصر كتلة سنية واحدة، لكن ثورة العام 2011 وتداعياتها التقسيمية والقمعية نظرت إلى الأقلية القبطية المسيحية على أنها مؤيدة للنظام القديم، وأصبحت محلاً لاستهداف الإسلاميين المتطرفين.

وفي مناطق المغرب العربي، حيث بدأ الربيع العربي مصحوباً بالأمل مع الانتفاضة التونسية، لا تشكل الطائفية قضية، مع أن التطرفية عادت لتنتشر بطريقة سامة من الحرب في سورية ونمو تنظيم "داعش". وفي ليبيا، والمغرب والجزائر، تشكل حقوق البربر وهويتهم مسألة هامة، لكنها لا تقع في مركز الأزمة.

يجدر تذكر أن الصحوات العربية بدأت في كل مكان بالدعوات إلى إجراء إصلاحات علمانية. وكتب طلال سلمان، في صحيفة "السفير" اللبنانية: "أياً كانت القبيلة، أو العشيرة، أو الدين أو الطائفة أو المجموعة العرقية التي ينتمون إليها، طالب المواطنون بـ"الكرامة" قبل أي شيء آخر. وكان بمرور الوقت فقط أن جاءت النزعات الطائفية إلى الواجهة. وفقط عندما بدا أن التحولات تتراجع، ذهب الناس باطراد إلى تعريف أنفسهم على أساس خطوط قبلية وطائفية، بدلاً من التماهي مع خطوط سياسية".

وأضاف: "لقد أصبح العرب اليوم مثل الإخوة والأعداء في الوقت نفسه. وتقوم كل مجموعة فرعية بالتلويح بهويتها الدينية أو العرقية لمواجهة الجماعات الفرعية الأخرى في حرب عبثية، والتي سيخسر فيها الجميع... باختصار، سوف يؤذن سقوط العروبة كهوية موحدة ببداية سلسلة من الحروب الأهلية بين الإخوة. وبمجرد أن تندلع هذه الحروب، فإن أحداً لا يعرف كيف ومتى ستنتهي".

 

اضف تعليق