الإصلاح مفهوم شامل ويتسع ليشمل سلسلة طويلة من المفردات وتشكيلة واسعة من العناوين؛ ذلك ان مظلة الإصلاح تشمل: إصلاح الفرد والعائلة والعشيرة، كما تشمل إصلاح الحزب والنقابة والحوزة والجامعة، ومؤسسات المجتمع المدني، كما تشمل الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحقوقي والقانوني والقضائي والتعليمي والإداري وغير ذلك...

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)[1]

(الإصلاح) هو هدف رسالات السماء وهو حلم أمم الأرض، وهو الطريق إلى الهدف الأعظم وهو (التكامل) و(الكمال) في شتى الأبعاد الدنيوية والاخروية، قال الله تعالى: (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ) وقال: (وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)[2] وقد جاء الأمر بالإصلاح، في القرآن الكريم، بعد الأمر بتقوى الله مباشرة (فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ)[3].

و(الإصلاحُ) يقابل (الإفسادَ) ويضادُّه كما يقابل الصلاحُ الفسادَ ويعانده وكما يقابل الهدى الضلالَ ويواجهه (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)[4].

والعلاقة بينهما وإن كانت من الضدين اللذين لهما ثالث إلا ان الغالب، فيمن لم يسر في طريق الصلاح، أن يسير في دروب الفساد، والغالب فيمن لا يواجه الفساد أن يكون من دائرة المفسدين.

نطاقات الإصلاح ودوائره

و(الإصلاح) مفهوم شامل يحتضن شتى أبعاد الحياة ويتسع ليشمل سلسلة طويلة من المفردات وتشكيلة واسعة من العناوين؛ ذلك ان مظلة الإصلاح تشمل: إصلاح الفرد والعائلة والعشيرة، كما تشمل إصلاح الحزب والنقابة والاتحاد، والحوزة والجامعة، وشتى مؤسسات المجتمع المدني، كما تشمل الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحقوقي والقانوني والقضائي والتعليمي والإداري وغير ذلك.

والإصلاح ينطلق من إصلاح النفس ليمرّ بإصلاح المجمع وليصل إلى إصلاح النظام والحكومة والدولة ولينتهي إلى إصلاح سائر الأمم، وقد تتداخل تلك المراحل وقد يجري السير من بعضها إلى البعض الآخر بنحو متعاكس.

ومحور البحث في هذه الدراسة المقتضبة هو (إصلاح التشريعات) من حيث مرجعياته ومنطلقاته العامة، ولنمهِّد لذلك ببعض الإضاءات التي تتناول بعض الأسس والأصول الأولية العامة بإيجاز شديد:

الأصول الأولية في الإصلاحات التشريعية

الأصل الأول: ان عملية إصلاح التشريعات لا بد من ان تنطلق من رؤية ثاقبة، دقيقة، فاحصة ومستوعبة أولاً: للمجتمع بشتى فصائله ومكوناته، بكافة ألوان حاجاته ومكامن ضعفه ومواطن قوته وآلامِهِ وآماله وتطلعاته وهواجسه، وثانياً: لمنظومة التشريعات التي تحكم المجتمع والدولة، ككل، ومن حيث تزاحماتها وتفاعلاتها وتأثيراتها على مجمل قطاعات المجتمع ومجاميعه وآحاد أفراده، سواء تلك التي سنتها مجالس الشعب أم التي سنتها الحكومات أم التي سنتها العشائر أو الأحزاب أو حتى الشركات، وسواء تلك التي تندرج في دائرة العرف الدستوري أم التي ينطوي عليها الدستور العرفي.

الأصل الثاني: ان تلك الرؤية المتكاملة لا يمكن ان يحيط بها شخص واحد أو جهة واحدة، بل اللازم، في مجتمعاتنا الإسلامية وفي المجتمع العراقي بالذات، ان يتعاون على تشخيصها أهل الحل والعقد من شتى الاختصاصات من الفقه، والقانون، والحقوق والسياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها، وان تحتضن مراكز الدراسات النوعية والحوزة والجامعة هذه العملية.

الأصل الثالث: ان عملية الإصلاح لا يمكن ان تسير بها قاطرة المفسدين، وكيف يمكن للفاسد ان يقضي على مصادر قوته بتشريع القوانين الإصلاحية، قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)[5] و(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)[6].

وعلى ذلك: فالشرطان الأساسيان الأوليان في القائمين بعملية الإصلاح التشريعي: ان يكونوا من ذوي الخبرة والكفاءة والعلم والمعرفة ومن المعروفين بالصلاح والنزاهة.

الأصل الرابع: انه في عملية إصلاح التشريعات، لا بد من تحديد المرجعيات العامة التي ترجع إليها كافة التشريعات الخاصة والعامة، وذلك هو المدخل للبحث الأساس وهو:

المرجعيات العامة للإصلاح التشريعي

والذي يصلح لكي يكون مرجعية عامة، فيما نعتقد، هو:

أولاً: مرجعية المستقلات العقلية:

والمقصود بها: كل ما يدرك العقل حكمه بما هو هو، كما يدرك حسن العدل، بما هو هو، وكما يدرك الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها في حدّ ذاتها.

ومرجعية العقل مما اتفقت عليها الأمم، وقد ورد في الحديث (إِنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ حُجَّةً ظَاهِرَةً وَحُجَّةً بَاطِنَةً فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ: فَالرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْأَئِمَّةُ، وَأَمَّا الْبَاطِنَةُ: فَالْعُقُولُ، يَا هِشَامُ...)[7] ولكن الخلاف في تعريف العقل وفي حدود مدركاته كبير، ولكن الذي لا يشك فيه هو مرجعية العقل في مستقلاته، وقد اسهبتُ في الحديث عن مستقلاته في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية) وربما يعبر عن المستقلات العقلية فلسفياً، بالمشهورات بالمعنى الأخص منطقياً، وعناوين بعضها هي:

أ - حسن العدل والإحسان وقبح الظلم والعدوان.

ب- حسن الأمانة وقبح الخيانة.

ج - حسن الوفاء بالعقود والعهود وقبح نقضها، سواء أكانت شخصية أم نوعية، وسواء أصدرت من فردٍ أم أسرة أم عشيرة أم حزب أم نقابة أم حكومة ودولة.

د- حسن الإصلاح وقبح الإفساد.

هـ- حسن العلم وقبح الجهل.

و - حسن التحرر من هيمنة القوة الشهوية والغضبية وقبح انفلاتها بلا ضوابط.

ز- حسن شكر النعمة وقبح جحد الأنعام، سواء أكان المنعم هو الخالق جل وعلا أم الوالدان أم غيرهما.

ح- حسن جلب المنافع وقبح إهمالها؟.

ط- حسن دفع الضرر والإضرار وقبح الوقوع فيه أو إيقاع الغير فيه.

ي- حسن التعاون والتآزر وقبح التناكر والتدابر.

ك- حسن التشاور وقبح الاستبداد

ل- حسن الاعتدال والتوسط وقبح الإفراط والتعسف.

وقد دلت على كل ذلك الآيات والروايات الصريحة، إضافة إلى كونها من المستقلات العقلية وذلك كقوله تعالى:

أ- (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[8] و(وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ)[9].

ب- (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)[10] و(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)[11] و(إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ)[12]

ج- (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)[13] و(وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً)[14]

د- (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ)[15] و(وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا)[16] و(فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ)[17]

هـ- (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)[18] و(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)[19]

و- (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ)[20] و(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)[21]

ز- (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)[22].

ح- (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[23] و(وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ)[24].

ط- (غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ)[25] و(لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا)[26]

ي- (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[27]

ك- (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)[28] (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)[29]

ل- (وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى)[30] و(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[31].

وغير خفي ان حكم العقل في بعض ما سبق عام تام شامل غير قابل للاستثناء أبداً (كحسن العدل وقبح الظلم) وان حكمه في بعضها هو في الجملة وبما يقبل الاستثناء في ظل وجود المانع أو المزاحم الأقوى وذلك كحسن رد الوديعة أو الوفاء بالعقد، كما لو عاقده على صفقة أسلحة ليستخدمها في الدفاع ثم علم بانه سيستخدمها في قمع الداخل أو العدوان على الخارج.

ثانياً: مرجعية بناء العقلاء بما هم عقلاء

وبناء العقلاء بما هم عقلاء يكشف عن حكم العقل القطعي فهو حجة مسلّمة.

ذلك ان من الطرق إلى كشف أحكام العقل، بناء العقلاء وسيرتهم بما هم عقلاء.

ويمكن ان نمثل لأحكام العقلاء، أو مدركاتهم، بما هم عقلاء بالأمثلة التالية:

1- حسن رجوع الجاهل للعالم، المسمى، فقهياً، بـ(التقليد) إذا كان في أحكام الشرع، وبـ(الرجوع إلى أهل الخبرة) كالأطباء والمهندسين والمحامين إذا كان في غيرها.

2- حجية ظواهر الألفاظ في القوانين والمعاملات وفي عامة المحاورات.

3- حجية أخبار الثقات الضابطين.

4- حجية الظن المطلق على الانسداد، في الجملة ولو بالتقييد أولاً: من حيث المراتب باعلاها وثانياً: ومن حيث الأسباب بالعقلائي منها لا من مثل الأحلام والرمل والاسطرلاب والكف والفنجان، وثالثاً: من حيث المتعلقات بأمور المعاش وشبهها دون مثل أصول الدين.

وكما نرى فان ما ذكر قد بنى عليه العقلاء بما هم عقلاء في كافة الاعصار والأدوار وفي مختلف الأصقاع والنواحي والاكوار.

وبذلك يختلف بناء العقلاء بما هم عقلاء عن بناء مجموعة من العقلاء فانه ليس بحجة على الآخرين، كما يختلف عن بناء العقلاء لا بما هم عقلاء بل بما يحملون من خلفيات فكرية، ثقافية ومعرفية أو خلفيات نفسية ضاغطة، وذلك يعني ان العقل ليس هو اللاعب الوحيد والمتحكم الأوحد في حياة العقلاء فان العقلاء تحكمهم أيضاً –بدرجة أو أخرى– الغرائز والشهوات والمصالح والأهواء كما قد تسيّرهم القوة الغضبية وقد ينقادون لمصالح آنية ضيقة. ولذلك ورد في الهدف من بعثة الأنبياء (وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ)[32].

وبذلك نعرف ان الطريق لاكتشاف ان هذا الحكم صادر من العقلاء بما هم عقلاء هو استقراء حالهم واستنباء خبرهم متجاوزين حواجز الزمان والمكان والظروف والأحوال وهذا يستدعي استشراف تاريخ الأمم والنحل على امتداد الأزمان وتعاقب الأحوال دون ان نبقى أسارى في سجن عصر وزمن أو أمة وملة.

وعلى ذلك: فان إجماع العقلاء في عصر من العصور أو في دولة من الدول لا يصلح في حد ذاته كاشفاً عن حكم العقلاء بما هم عقلاء خاصة إذا وجدنا كثيراً من العقلاء في عصر آخر أو أمة أخرى يحملون الرأي الآخر المعارض.

ومن هنا نعرف ان ما يعدّ بديهياً من البديهيات لدى عامة الناس في عصر من العصور لا يصلح كمرجعية للتشريع ولا يستكشف به حكم العقل أبداً.

فمثلاً: لعله كان من البديهي لدى الكثير من الأمم في الكثير من الاعصار ان (الملك) هو ظل الله وان مشيئته هي مشيئة الله تعالى وانه تجب إطاعة أوامره مهما كانت، بل لعلهم لم يكونوا يتصورون طريقة للحكم الشورىّ، فهل يكشف ذلك عن حكم العقلاء بما هم عقلاء؟ كلا

ومثلاً: لعله من البديهي في هذا الزمن لدى الكثير من الأمم ان البرلمان هو مصدر التشريع وان الحاكم هو الشعب بالشعب (أي بممثليه) على الشعب، وليس الدين مصدر التشريع أو حتى ولا مصدراً من مصادر التشريع، فهل يجعله ذلك في مصاف أحكام العقلاء بما هم عقلاء؟ كلا.

ومثلاً: (الرقّ) كان من بديهيات العصور الماضية، فهل يصلح ذلك بنفسه دليلاً على حكم العقل بحسن الرق ورجحانه؟ كلا. وعلى العكس من ذلك فان (الرقّ) في هذا الزمن لعله اضحى عند مشرّعي كافة الدول، على العكس، فهل يصلح ذلك بنفسه دليلاً على العكس؟ كلا.

والكلام الآن مع قطع النظر عن الأدلة الأخرى كما ان الكلام هو حول الاسترقاق من باب المقابلة بالمثل (أي لأن نظام الأعداء في السابق كان على استرقاق أسرانا فلنا ان نقابلهم بالمثل أو لا) فهذا هو المختلف فيه بين الناس، اما استرقاق الناس قسراً وقهراً لمجرد اننا الأقوى واننا الغزاة المنتصرون فان العقلاء يحكمون بقبحه وحرمته بما هم عقلاء وحرمته من المستقلات العقلية ولم يرد في دين من الأديان إباحة هذا النوع من الاسترقاق.

ثالثاً: مرجعية الفطرة والوجدان

الفطرة – لغة – هي (الخِلْقَة)، والمراد بها ما ارتكز في ذات الإنسان وكُمونه منذ خلقته، بحيث وجد بوجوده، وتشمل ما اصطلح عليه في المنطق (الأوليات) و(الفطريات)

والفطرة في الإنسان تقابل الغريزة في الحيوان قال تعالى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)[33] والظاهر انها مستقلة عن العقل وإن كانت تعضد أحكامه وكان هو بدوره يسند أحكامها أيضاً.

- وقد يمثل لذلك، بقضاء الفطرة الإنسانية بحسن إعمار الأرض بالزراعة والبناء وشقِّ الطرق وغيرها، قال تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)[34].

- كما قد يمثل لذلك بحسن الانتماء للوطن وللأسرة وللتجمعات الكبرى كمؤسسات المجتمع المدني مثلاً، وذلك لأن الإنسان اجتماعي بطبعه وقد غرز فيه حب الانتماء للأرض ولمجاميع أكبر، إجمالاً.

ولذا ورد أيضاً (حبّ الوطن من الإيمان)[35] وورد (لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَام‏)[36].

- وقد يمثل لذلك: بحسن الذب عن الحريم وعن الوطن.

- وبحسن حفظ النظام وغير ذلك.

رابعاً: مرجعية القواعد الاخلاقية

وذلك فيما كان من دائرة ما يسمى في علم المنطق بـ(الآراء المحمودة) وفي علم الأخلاق بـ(الخلقيات) ومن أمثلة ذلك:

- حسن التواضع وقبح التكبر، سواء على مستوى الأفراد، أم التجمعات، أم الأمم والحضارات.

- حسن الشجاعة وقبح الجبن.

- حسن النظافة وقبح القذارة.

- حسن الكرم وقبح البخل.

- قبح إيذاء الحيوان.

- قبح إفساد البيئة والطبيعة.

- حسن العفة وقبح الاستهتار والمجون والخلاعة (كشف العورة مثلاً).

- حسن الشفقة والعطف على الصغير والكبير والمرأة بل ومطلق القاصي والداني.

خامساً: مرجعية ثوابت الشريعة ونصوصها

وهي مرجعية للذين يدينون بالشريعة ويعتقدون بها.

وفي بلد مثل العراق، ذي أكثرية مسلمة تحتضن أكثرية مذهبية إمامية، فان نصوص الشريعة ابدعت إبداعاً مذهلاً في التوفيق بين حقوق الأكثرية والأقليات، إذ تكفّلت بوضع تشكيلة متكاملة من القوانين العادلة التي تضمن المحافظة على حقوق الأقليات في الوقت الذي لا تجحف فيه بحقوق الأكثرية.

وذلك عبر إقرار نظام (التعددية التشريعية) بمعنى ان الشارع الأقدس أقرّ للاقليات حقوقهم عبر قاعدتي (الإلزام) و(الإمضاء) اللتين صرحت بهما الروايات الشريفة كقوله (صلى الله عليه وآله) (يَجُوزُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ ذِي دِينٍ مَا يَسْتَحِلُّونَ)[37] و(أَلْزِمُوهُمْ بِمَا أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمْ)(38)(39)

وبذلك لا يكون تشريع القوانين بشكل عام على حسب دين الأكثرية ومذهبها مجحفاً بالأقليات إذ ان لها تشريعاتها الخاصة بها والنابعة من معتقداتها على حسب معادلة قاعدتي الإمضاء والإلزام.

قد أرشدت نصوص الشريعة إلى المستقلات العقلية وإلى الفطريات والوجدانيات والفضائل الأخلاقية، كما رأينا نماذج من ذلك فيما مضى من البحث، وزادت على ذلك انها شرّعت قوانين حيوية فيما لم يكن للعقل فيه ولا للعقلاء بما هم عقلاء حكم محدد.

نماذج من نصوص الشريعة وثوابتها

ومن أمثلة القسمين:

- قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(40)(41)

- وقوله جل اسمه: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[42] و(وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)[43].

- وقوله سبحانه (فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ)[44].

- وقوله عز من قائل (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[45].

والآيتان الأخيرتان تؤسسان لمبدأ (التعددية) (46)

- وقوله تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(47)(48)

- وقوله تعالى (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ)[49] مع ان عبادته تعالى هي من الفطريات والمستقلات العقلية أيضاً.

- وفي مجال القضاء ورد (الْقُضَاةُ أَرْبَعَةٌ: ثَلَاثَةٌ فِي النَّارِ وَ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ رَجُلٌ قَضَى بِجَوْرٍ وَ هُوَ يَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّارِ وَ رَجُلٌ قَضَى بِجَوْرٍ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّارِ وَ رَجُلٌ قَضَى بِالْحَقِّ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ فَهُوَ فِي النَّارِ وَ رَجُلٌ قَضَى بِالْحَقِّ وَ هُوَ يَعْلَمُ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ)[50].

- وفي التنظيم والنظم وغيرهما ورد: (الله الله في نظم أموركم) و(أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللَّهِ وَأَلَّا تَبْغِيَا الدُّنْيَا وَإِنْ بَغَتْكُمَا وَلَا تَأْسَفَا عَلَى شَيْ‏ءٍ مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا وَقُولَا بِالْحَقِّ وَاعْمَلَا لِلْأَجْرِ وَكُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً وَلِلْمَظْلُومِ عَوْناً أُوصِيكُمَا وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللَّهِ وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ...

وَعَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّبَاذُلِ وَإِيَّاكُمْ وَالتَّدَابُرَ وَالتَّقَاطُعَ لَا تَتْرُكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ

ثُمَّ قَالَ ‏يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً تَقُولُونَ قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا لَا تَقْتُلُنَّ بِي إِلَّا قَاتِلِي انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ وَلَا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ)[51]

ومن الهام جداً الإلفات إلى ان قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع هي التي تتكفل بالحلقة الثانية اللاحقة لدائري الحسن والقبح على حسب رأي الكثير من الأعلام فتكون المعادلة بالصيغة الآتية:

كلما حكم بحسنه العقل حكم بوجوبه وكلما حكم بوجوبه حكم بوجوبه الشرع.

ويمكن اختصار القاعدة بالصورة الآتية: كلما حكم بحسنه العقل حكم بوجوبه الشرع.

والقاعدة الأخرى هي قاعدة الملازمة الثانية وهي: كلما حكم به الشرع حكم به العقل، إجمالاً وحكم به تفصيلاً لو أحاط بكافة الجهات.

سادساً: مرجعية مقاصد الشريعة ومقاصد مقاصدها

وهي من المرجعيات، بنحو أو آخر، على حسب اختلاف الآراء:

إذ يرى علماء العامة ان مقاصد الشريعة خمسة: وهي الدين والعقل والنفس والعرض والمال.

وقد ارتأى علماء الخاصة ان الثلاثة الأخيرة: الدماء والأعراض والأموال، هي الأهم في باب التزاحم على درجات بينها وفيها، كما اعتبروا العقل من الشرائط العامة للتكليف، كالإرادة والحياة، واما الدين فلعلهم لم يذكروه لافتراض كونه مفروغاً عنه أو لعلهم رأوا فيه تفصيلاً إذ (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، و( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ)[52] فلا يجبر المرء على الإسلام ولا على ان يحصل على المال لأداء الواجبات المشروطة كالحج بينما يجب عليه ان يحصل عليه لحفظ النفس والعرض فإنها واجبات مطلقة، على تفصيل في هذا المبحث.

وقد جرى في (مقاصد الشريعة) كلام مطول عن مدى صلاحيتها لتكون من مصادر التشريع ومرجعياته وعن كونها من الظن غير المعتبر أو المعتبر أو من القياس أو غيره.( [53)

أمهات المقاصد في الشريعة الإسلامية

ومقاصد المقاصد أو بتعبير آخر: أمهات المقاصد في الشريعة الإسلامية هي بالرجوع إلى القرآن الكريم كالآتي:

المقصد الأول: (الرحمة)، قال تعالى (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)[54] وقد ذكرنا في الكتاب:

(ان رحلة استلهام مقاصد الشريعة يمكنها أن تمر بواحدة من أعظم الآيات الكريمة التي تلقي الضوء وتكشف القناع عن إحدى أهم المقاصد الكبرى في عالم التكوين وعالم التشريع، وهي قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ)[55] و(وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)[56] فإن من الممكن أن نستلهم منها ومن آيات أخرى مقاربة ومن العديد من الروايات الشريفة، بصائر مفتاحية في مباحث (مقاصد الشريعة) وأسس التشريع والغايات التي توخاها الشارع الأقدس لدى تشريع الأحكام وسنّ القوانين) [57] و(وفي آية البحث نجد أن المقصد الأسمى هو (رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ) وأن من هذه الرحمة تفرع مقصد آخر هو لين الرسول (صلى الله عليه وآله) قولاً وقلباً، ثم تفرعت من هذا المقصد الثاني سلسلة من الأحكام: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ).

فاللين والرفق واللاعنف هي من مقاصد الشريعة والتي تتفرع عنها سلسلة كبيرة من الأحكام، كما أنها بدورها متفرعة عن المقصد الأعظم للشريعة وهو (الرحمة) وأيضاً (الحكمة).

وذلك هو ما تشير إليه الروايات الشريفة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام أو بدلالة الاقتضاء أو الإيماء والتنبيه والإشارة، وسنشير إلى بعض الروايات فقط...)[58].

المقصد الثاني: (العدل) قال تعالى (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)[59] و(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)[60] وورد (بِالعَدلِ قامَتِ السموات وَالأَرض)[61] كما ان من أصول الدين عند الإمامية (العدل).

المقصد الثالث: (المعرفة) و(العبادة) ويجمعها مصطلح (التكامل) قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[62] فحيث ان الله تعالى هو مصدر كافة الكمالات وهو قمة الكمال والجمال والجلال، لذلك كانت (عبادته) هي الطريق للتكامل المطلق وقد قيل في تفسير (لِيَعْبُدُونِ) أي (ليعرفون)، وقد ورد (عبدي أطعني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون)[63] وورد (قل لعبادي لم أخلقكم لأربح عليكم ولكن لتربحوا عليَّ)[64].

المقصد الرابع: (الحكمة) والتي تعني وضع الأشياء مواضعها، والتي يضطلع بها أهل الخبرة من كل اختصاص، قال تعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)[65] (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)[66] ومن أسمائه جل اسمه (الحكيم).

المقصد الخامس: (الإيمان) قال تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[67] (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)(68)(69).

التزاحم والتدافع بين القيم والمقاصد والأحكام

وبعد ذلك كله لا بد من الرجوع إلى قواعد باب التزاحم لدى حصول التدافع بين القيم والمقاصد والأحكام العقلية الأولية

مثلاً: تزاحم الحرية الفردية مع المساواة أو مع العدالة أو مع الأمن أو مع النظام أو شبه ذلك.

– تزاحم الحرية مع الشورى.

– تزاحم الحكمة مع الرحمة.

– تزاحم حقوق الفرد مع حقوق المجتمع

– تزاحم حقوق الناس مع حقوق الله. (70)

نماذج تطبيقية:

وههنا نذكر بعض الأمثلة التطبيقية من بعض التشريعات الشائكة الخلافية، والتي يمكن الاستعانة فيها ببعض المرجعيات العامة للتشريع، للوصول إلى الأقرب منها للحق والعدل:

النموذج الأول: التمثيل النسبي

- هل الأقرب للعدل و(قاعدة السلطنة) و(الحكمة) هو اختيار التمثيل النسبي PR؟ أو الدائرة الفردية SMD؟ أو النظام الانتخابي المختلط؟ فقد اختلفت دول العالم في ذلك:

فأمريكا وكندا وبريطانيا والهند ونيجيريا ودول أخرى تذهب إلى أنظمة الدائرة الفردية.

وجنوب أفريقيا وتركيا ودول أخرى تعتمد التمثيل النسبي مع وضع عتبة أو نسبة مئوية أدنى يحتاج إليها الحزب ليفوز بمقعد في الهيئة التشريعية، في بعض الدول.

واليابان وألمانيا تعتمد النظام المختلط حيث يمنح لكل نائب صوتان: أحدهما لانتخاب مرشح ما والآخر لانتخاب حزب ما[71].

ولا شك ان هناك عوامل وأسباباً كثيرة متشابكة قد تؤدي بالمشرعين إلى اختيار هذا النظام أو ذاك، إلا ان المقصد من هذا البحث هو ان المرجعيات الآنفة الذكر تكون شديدة العون في تشخيص الأصلح.

فمثلاً: إذا لاحظنا ان (العدل) من المستقلات العقلية وان سلطنة الناس على أنفسهم وحريتهم في الاختيار تبعاً لقاعدة (الناس مسلطون على أنفسهم وأموالهم وحقوقهم) تعدّ من أسس الشريعة أو مقاصدها ولاحظنا ان (الحكمة) تدفع باتجاه إحراز أكبر قدر ممكن من الحقوق بأقل قدر ممكن من الخسائر، في مقاييس باب التزاحم، فان ذلك يقربنا أكثر فأكثر من اختيار (النظام الانتخابي المختلط) الذي يجمع محاسن النوعين الآخرين ويتجنب إلى حد كبير مساوئهما[72].

النموذج الثاني: تقسيم القدرة:

حيث ان القدرة تميل بطبعها إلى التمركز كما قال تعالى: ( إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى)[73] لذلك اقتضت الحكمة الإلهية توزيع القدرة وتقسيمها تكوينياً واجتماعياً وتشريعياً قال تعالى (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا)[74]

وقد توصل مونتسكيو إلى نظام فصل السلطات الثلاث، باعتباره طريقة أساسية للجم القدرة وتفتيتها إلى وحدات أصغر بحيث لا يمكن للقوة التنفيذية بوحدها التحكم في مفاصل الحياة.. ولكن المشكلة ان الأمر توقف – عادة – عند هذا الحد من حيث التقنين.

وقد نادى البعض بالسلطة الرابعة وهي (الصحافة) أو (الأعلام) بشكل عام، لكن ذلك لم يجد سبيله غالباً إلى التشريعات القانونية ولذلك كانت وزارة الأعلام من أذرع السلطة التنفيذية، وتحت هيمنتها، ولا يكفي منح الصلاحيات وإن كانت واسعة نسبياً للإعلام في الدول الديمقراطية؛ لأنها مهما كانت فإنها تظل تحت هيمنة الحكومة، إلى حد بعيد.

وقد اقترح بعض المفكرين إضافة سلطة خامسة وهي (مؤسسات المجتمع المدني) ولكنها بدورها لم تترجم عملياً إلى تشريعات قانونية تجعلها والصحافة موازية في هيكل الدولة وفي القوة والموارد والصلاحيات مع سائر القوى خاصة القوة التنفيذية.

وقد اقترحنا سلطات أخرى وجدنا ضرورة ان تقنن، تشريعياً، وان ترفع إلى مستوى الموازن الاستراتيجي للسلطات الثلاث(75).

وبيت القصيد هو: ان الرجوع إلى المستقلات العقلية ومقاصد المقاصد للشريعة وغيرها مما سبق قد يكون نِعم الدليل وأفضل هادٍ لتصويب الاتجاهات التشريعية في عملية سنّ ما يكفل المزيد من حقوق الناس وحرياتهم عبر تقسيم القدرة وتوزيعها بالشكل المنطقي الأسلم.

النموذج الثالث: الشبهة في القضاء

لقد ذهب الفقهاء إلى ان القاعدة العامة هي ان (ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ)[76].

وقد طوّر السيد الوالد في موسوعة الفقه[77] هذه القاعدة ووسّع نطاقها بالقول: بان الشبهات التي تدرأ بها الحدود هي ستة أنواع وليست نوعاً واحداً أو اثنين وهي:

شبهة القاضي، وشبهة المفتي ومرجع التقليد، وشبهة الشاهد، وشبهة المدعي، وشبهة المتهم، وشبهة مجري الحكم ومنفذه، فلا يجرى الحد مع الشبهة الحكمية للمقلَّد أو للقاضي، ولا مع الشبهة الموضوعية[78] للمدعي أو المتهم أو الشاهد أو المنفِّذ، وموضع الشاهد هو ان هذه التوسعة تتطابق مع مقاصد المقاصد للشريعة من أصالة (الرحمة) و(الحكمة) على ما فصلناه في محله.

النموذج الرابع: الضرائب على الفقراء

لقد اقرت الكثير من الدول الضرائب العامة على الكهرباء والماء وعلى بيع الأراضي والممتلكات وعلى مطلق التبادلات التجارية بل أقرت بعض الدول الديمقراطية الغربية على أية بضاعة تشترى إذ تخصم منها قيمة الضريبة عند عملية الشراء مباشرة.

لكن الموافق لمقاصد مقاصد الشريعة وأصالة السلطنة على الأموال والأنفس والحقوق، هو: عدم إقرار أية ضريبة على الفقراء أبداً، كما ان الموافق لقاعدة (الرحمة) عدم الفورية في الاقتطاع الضريبي بل تأجيلها إلى نهاية السنة، والموافق أيضاً لمقاصد مقاصد الشريعة عدم أخذ الضريبة إلا من الفائض على مؤونة السنة أي على الفائض بعد خصم التكاليف والمصروفات طوال سنة كاملة كما أقرت ذلك الشريعة في الخمس، فهذا النمط من التقنين هو الأفضل بالنظر للمستقلات العقلية ومقاصد المقاصد وغيرها.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* البحث المقدم الى مؤتمر (الاصلاح التشريعي طريق نحو الحكومة الرشيدة ومكافحة الفساد) الذي عقدته مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام بالتعاون مع جامعة الكوفة-كلية القانون
http://www.m-alshirazi.com

......................................
المصادر
1- القرآن الكريم.
2- السيد الشريف الرضي، نهج البلاغة، دار الهجرة للنشر – قم.
3- الشيخ عباس القمي، سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار، دار الأسرة للطباعة والنشر.
4- نعمان بن محمد التميمي المغربي، دعائم الإسلام، دار المعارف – مصر.
5- الشيخ الطوسي، الاستبصار، دار الكتب الإسلامية – طهران، 1390هـ.
6- الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية – طهران.
7- ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران.
8- السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، مقاصد الشريعة ومقاصد المقاصد، منشورات الفجر – بيروت.
9- السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، الأوامر المولوية والإرشادية، دار العلوم للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت، ط1، تاريخ النشر: 2010م.
10- ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء A – قم، 1405هـ.
11- الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، دار إحياء التراث العربي.
12- السيد بحر العلوم، الفوائد الرجالية، منشورات مكتبة الصادق.
13- الحسن بن أبي الحسن الدليمي، إرشاد القلوب، دار الشريف الرضي، 1412هـ.
14- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1413هـ.
15- السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، معالم المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي، دار العلوم للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت.
16- السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، ملامح العلاقة بين الدولة والشعب، دار العلوم للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت.
17- السيد مرتضى الحسيني الشيرازي: شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية، مؤسسة التقى الثقافية – النجف الأشرف.
18- السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه: الحدود والتعزيرات، دار العلوم للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت.
19- السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه: القضاء، دار العلوم للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت.
20- السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه: الحقوق، دار العلوم للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت.
21- السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي.
[1] سورة هود: آية 88.
[2] سورة الأعراف: آية 142.
[3] سورة الأنفال: آية 1.
[4] سورة يونس: آية 32.
[5] سورة يونس: آية 81.
[6] سورة الإسراء: آية 84.
[7] ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص15.
[8] سورة النحل: آية 90.
[9] سورة البقرة: آية 190.
[10] سورة البقرة: آية 283.
[11] سورة الأنفال: آية 27.
[12] سورة النساء: آية 58.
[13] سورة المائدة: آية 1.
[14] سورة الإسراء: 34.
[15] سورة هود: آية 88.
[16] سورة الأعراف: آية 85.
[17] سورة الأنفال: آية 1.
[18] سورة الزمر: آية 9.
[19] سورة فاطر: آية 28.
[20] سورة المجادلة: آية 19.
[21] سورة آل عمران: آية 14.
[22] سورة لقمان: آية 14.
[23] سورة الأعراف: آية 32.
[24] سورة النساء: آية 32.
[25] سورة النساء: آية 12.
[26] سورة البقرة: آية 233
[27] سورة المائدة: آية 2.
[28] سورة آل عمران: آية 159.
[29] سورة الشورى: آية 38.
[30] سورة طه: آية 81.
[31] سورة البقرة: آية 143.
[32] السيد الشريف الرضي، نهج البلاغة، دار الهجرة للنشر – قم، ص43.
[33] سورة الروم: آية 30.
[34] سورة هود: آية 61.
[35] الشيخ عباس القمي، سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار، دار الأسرة للطباعة والنشر، ج8 ص525.
[36] نعمان بن محمد التميمي المغربي، دعائم الإسلام، دار المعارف – مصر، 1385هـ، ج2 ص193.
[37] الشيخ الطوسي، الاستبصار، دار الكتب الإسلامية – طهران، 1390هـ، ج4 ص148.
[38] الشيخ الطوسي، التهذيب، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج9 ص322.
[39] كما فصلنا الكلام عن ذلك في كتاب (الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي).
[40] سورة الشورى: آية 38.
[41] وقد فصلنا الكلام عن ذلك في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية).
[42] سورة البقرة: آية 256.
[43] سورة الأعراف: آية 157.
[44] سورة البقرة: آية 148.
[45] سورة الحج: آية 40.
[46] كما فصلناه في كتاب (ملامح العلاقة بين الدولة والشعب).
[47] سورة التوبة: آية 71.
[48] وقد فصلنا الكلام عن ذلك في كتاب (معالم المجتمع المدني في منظمة الفكر الإسلامي).
[49] سورة يوسف: آية 40.
[50] ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج7 ص407.
[51] السيد الشريف الرضي، نهج البلاغة، دار الهجرة للنشر – قم، ص421-423.
[52] سورة الغاشية: آية 21-22.
[53]وقد أضفنا إليها ما أسميناه بـ(مقاصد المقاصد) ونعني بمقاصد المقاصد الغايات العظمى للخلقة، وأعني خلقة البشرية، وقد أوردنا في كتاب (مقاصد الشريعة ومقاصد المقاصد):
(البصيرة الأولى: إن للشريعة مقاصدَ وللمقاصد مقاصد أخرى، وبعبارة أخرى: أن للشريعة مقاصد عظمى تنشعب منها مقاصد أخرى.
فمثلاً: حقن الدماء وصيانة الأعراض وحفظ الأموال تعد من مقاصد الشريعة، أي: مما شرعت مجموعة من التشريعات للمحافظة عليها كحرمة السرقة والغصب ومصادرة الأموال والرشوة والغش وغيرها لأجل المحافظة على الأموال، وهي مقاصد متفرعة عن المقصد الأسمى للشريعة وهو الرحمة الإلهية إذ يقول الله تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ. السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، مقاصد الشريعة ومقاصد المقاصد، منشورات الفجر – بيروت، ص91-92.
[54] سورة هود: آية 118-119.
[55] سورة آل عمران: آية 159.
[56] سورة هود: آية 118-119.
[57] السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، مقاصد الشريعة ومقاصد المقاصد، منشورات الفجر – بيروت، ص91.
[58] المصدر نفسه: ص92.
[59] سورة الشورى: آية 15.
[60] سورة الحديد: آية 25.
[61] ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء A – قم، 1405هـ، ج4 ص103.
[62] سورة الذاريات: آية 56.
[63] الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، دار إحياء التراث العربي، ج22 ص85، والسيد بحر العلوم، الفوائد الرجالية، منشورات مكتبة الصادق، ج1 ص39.
[64] الحسن بن أبي الحسن الدليمي، إرشاد القلوب، دار الشريف الرضي، 1412هـ، ج1 ص110.
[65] سورة الجمعة: آية 2.
[66] سورة البقرة: آية 269.
[67] سورة الفتح: آية 8 -9.
[68] سورة النساء: آية 48.
[69] وقد فصلنا الكلام عن مقاصد الشريعة وآليات وحدود الاستناد إليها في مقام استنباط الأحكام الشرعية في كتاب (مقاصد الشريعة ومقاصد المقاصد).
[70] وقد فصلنا الحديث عن جوانب من ذلك في كتاب (التزاحم، أصوله وقواعده).
[71] يراجع كتاب (مبادئ علم السياسة المقارن).
[72] كهدر الأصوات في الدائرة الفردية، وكوجود نام برلماني – حكومي غير مستقر في أنظمة التمثيل النسبي.
[73] سورة العلق: آية 6-7.
[74] سورة الحج: آية 40.
[75] وذلك في كتاب (ملامح العلاقة بين الدولة والشعب) كما طوّرنا النظرية في بعض المؤلفات اللاحقة التي لا تزال تنتظر النور بإذن الله تعالى.
[76] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1413هـ، ج4 ص74.
[77] يراجع من موسوعة الفقه كتاب القضاء وكتاب الحدود والتعزيرات وكتاب الحقوق.
[78] وحتى الشبهة الحكمية، في الجملة.

اضف تعليق